من أجل
نحو عربى جديد
خليل كلفت
المحتويات
مفهوم النحو (مقدمة عن العلاقة بين العلم وموضوعه) .......................
1: تقسيم الجملة إلى اسمية وفعلية ـ ازدواج غريب وخاطئ ................
2: المسند إليه والمسند .................................................. ......
3: المسند إليه .................................................. .............
4: المسند إليه: بعض تجلياته أو أشكال تحقيقه ..................................
5: ما يسمى بنواسخ المبتدأ والخبر أ: الأفعال المسماة بالناسخة ....................
6: ما يسمى بنواسخ المبتدأ والخبر ب: الحروف المسماة بالناسخة ................
7: المسند أو ما يسمى بالخبر ...............................................
8: المسند (الخبر) ومتعلَّق الجارّ والمجرور .....................................
9: المسند أو الخبر: تحليل لعناصره المكونة ..................................
10: الإعراب: خطيئة تمحور النحو حول الإعراب ..............................
11: الإعراب: وظيفته كأداة من أدوات النحو .....................................
12: الإعراب وعناصر الجملة .................................................. ..
13: الإعراب المحلى والإعراب التقديرى .....................................
14: وقفة عند من ينكرون الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية ...............
15: ما يسمى بمنصوبات الأسماء بين عناصر الجملة والإعراب ................
16: من التمحور حول الإعراب إلى التحليل النحوى والمنطقى ..................
17: محاولة مجمع اللغة العربية ووزارة المعارف المصرية لإصلاح النحو العربى فى 1945
ملاحق
الملحق 1: جملة عربية واحدة لا اسمية ولا فعلية ....................................
الملحق 2: هل الخبر مرفوع؟ .................................................. ....
الملحق 3: لويس عوض والبحث عن أصل اللغات: حول مقدمة فى فقه اللغة العربية ....
الملحق 4: النحو العربى بين شريف الشوباشى .. وسيبويه .............................
الملحق 5: 3 أعمدة فى مجلة الإذاعة والتليڤزيون بعنوان "لغة" .........................
مفهوم النحو
(مقدمة عن العلم وموضوعه (
يجرى التفكير فى النحو عادة على أنه يساوى تماما علم النحو، بنفس الطريقة التى يجرى بها التفكير فى الظواهر اللغوية الأخرى وكأن كل ظاهرة منها تساوى العلم الذى يدرسها ضمن العلوم اللغوية الأخرى. ويمكن القول إن هذا النحو من التفكير فى النحو والعلوم اللغوية الأخرى أفضى ويفضى وسيفضى دائما إلى أخطاء علمية وعملية قد تكون فادحة. ويمكن القول أيضا إن الخطأ الأول (وهو مصدر كل الأخطاء الأخرى) يتمثل فى أن هذا النوع من التفكير ينطلق من تجاهل حقيقة بسيطة يعرفها الجميع وهى أن اللغة موجودة قبل ظهور العلوم اللغوية وأن أصول هذه العلوم اللغوية موجودة فى اللغة وعندالناطقين بها قبل أن تظهر هذه العلوم، التى انطلقت على أساس استقرائى حيث أخذت تعمل على "جمع" كل ما اشتملت عليه هذه اللغة أو تلك من "تصنيفات" وهى تصنيفات قائمة فى وعى جماعة الناطقين بها، هذه الجماعة التى هى ليست فقط واعية بهذه التصنيفات بل إنها هى التى ابتدعتها بصورة جمعية تاريخية منذ ظهور الإنسان الكرومانيونى (أىْ الإنسان العاقل العاقل أو العارف العارف homo sapiens sapiens أو الإنسان كما نعرفه اليوم) منذ قرابة مائة ألف سنة وفقا لإحدى النظريات، أو أكثر أو أقل وفقا لنظريات أخرى، بالاستناد بالطبع إلى تاريخ طويل أسبق صنع فيها الإنسان نفسه ولغاته السابقة على اللغة كما نعرفها اليوم.
وإذا كانت العلاقة بين اللغة والعلم اللغوى مماثلة من الناحية الجوهرية للعلاقة بين كل علم ومجال بحثه، مثلا بين الكيمياء وعلم الكيمياء، باعتبار أن هذا العلم الكيميائى يبحث هذه الظاهرة الكيميائية تماما كما يبحث هذا العلم اللغوى هذه الظاهرة اللغوية، فإن هناك اختلافا جوهريا بدوره بين العلوم التى تدرس الطبيعة وتلك التى تدرس الحياة الاجتماعية والفكرية واللغوية إلخ... للبشر. ويتمثل هذا الاختلاف فى أن ظواهر الطبيعة خالية من الوعى وبالتالى خالية من التصنيف الذاتى لمختلف نواحيها وعناصرها. ولهذا يستقرئ العلم ظواهر الطبيعة معتمدا على أدواته وحدها لدراسة طبيعة غير واعية بذاتها. إن الطبيعة لا تمنح العلم أسرارها وتصنيفاتها لأنها لا تعى بها وليست هناك لغة مشتركة بينها وبين العلماء. غير أن العلم تطورىّ، فهو يعتمد إذن على تاريخ طويل من محاولات العلم فى مختلف مراحل تطوره. وهذه الأسرار والتصنيفات والمفاهيم التى تدور حول الكيمياء أو الفيزياء أو البيولوچيا أو الرياضيات يكتشفها البشر بالتدريج، حتى منذ مراحل بدائيتهم، ويرثها جيلٌ بعد جيل، ويبرز بينهم أشخاص يرتبط ذكاؤهم ببحث هذه الظاهرة الطبيعية أو الاجتماعية أو تلك، ببحث الفيزياء أو الكيمياء أو المجتمع، ليشكلوا تاريخا تطوريا يستغرق آلاف السنين وعشرات آلاف السنين ومئات آلاف السنين. وعندما نشأت العلوم بألف لام التعريف، أىْ العلوم دون أوصاف أخرى، فى الآلاف الأخيرة من تاريخ البشر، فقد انطلقت من وراثة تلك الجهود العلمية التطورية الطويلة للبشر و"للعلماء" منهم، بالاعتماد على ممارسة البشر طوال التاريخ وما قبل التاريخ وما قبل ما قبل التاريخ. وفى الآلاف الأخيرة من السنين هناك علم العصور القديمة، وعلم العصور الوسطى، وعلم العصر الحديث، أىْ العلم الحديث. وعلى هذا فإن العلم الحديث لم يقف أمام الطبيعة وظواهرها، أمام فيزيائها وكيميائها إلخ...، عاريا، مجردا من كل الأدوات باستثناء ذكائه المباشر. ذلك أن هذا الذكاء المباشر، الذى تسلح به العلم الحديث، ليس إلا الثمرة الناضجة لتاريخ وما قبل تاريخ العلم. وقد تسلَّح بكل ثمار ذلك التطور الطويل، منطلقا من تصنيفاته ومفاهيمه واستنتاجاته كفرضيات للبحث.
وباختصار فقد تسلَّح العلم الحديث بمنجزات ماقبل تاريخه ولكنْ أمام الطبيعة وظواهرها العمياء الصماء البكماء التى لا تقول شيئا بنفسها وإنْ كانت تعرض نفسها للفهم أمام الممارسة وأمام البحث العلمى، وبدون هذا الفهم، بدون فهم الإنسان العادى للطبيعة فى ممارسته التطورية وبدون فهم العلم للطبيعة من خلال بحثه التطورى، تستحيل كل ممارسة بشرية، أىْ كل حياة بشرية بكل جوانبها، ويستحيل كل علم.
ورغم تماثل العلاقة الجوهرية بين الطبيعة والعلم مع العلاقة الجوهرية بين اللغات (وغيرها من ظواهر الحياة البشرية من حيث هى كذلك) والعلوم اللغوية (وغير اللغوية) التى تدرسها، فإن الأمر يختلف تماما، بعد ذلك. فالبشر يعيشون حياتهم واعين بها، بكل جوانبها، بما فى ذلك الوعى بلغاتهم، وإنْ كان كل هذا وعيا مشروطا تاريخيا؛ إذْ تقرره مرحلة التطور الاجتماعى التى جرى بلوغها، وتحفزه أو تشوهه الأيديولوچيات، وتزرع فيه صراعات المصالح الاجتماعية المتعارضة تناقضاتها.
ولا مجال هنا لمناقشة قضية: الوجود الاجتماعى والوعى الاجتماعى أيهما أسبق؟ ويكفى هنا أن أشير إلى أن الوجود الاجتماعى مستحيل بدون الوعى الاجتماعى مهما كان نوع أو مستوى أو مرحلة هذا الوجود أو هذا الوعى، ذلك أن الإنسان الذى هو بحكم التعريف كائن لا يفارقه وعيه الصحيح أو الناقص أو المشوَّه أو الزائف، وهو يصنع وجوده الاجتماعى ووعيه بالنفس والمجتمع والكون، ويصنع بكل وعى حياته بكل جوانبها بمنجزاتها وتناقضاتها وكوارثها، فى إطار الطبيعة التى تواجهه كمعطى ليس من صنعه إلا أنه يعطى نفسه لتفاعل الإنسان معه لاستخدامه لمصلحة حياته، وفى إطار المجتمع الذى يواجهه – رغم أنه من صنعه بصورة تاريخية – كشرط كأنه طبيعى يتفاعل معه ويغيِّره ويحوِّله ولكنْ لا يسيطر عليه لمصلحة الإنسان إلا فى المجتمع المتقدم اجتماعيا والمتقدم تكنولوچيًّا، إلا فى المجتمع اللاطبقى، كما أن الإنسان يصنع كل علومه ومنها العلوم الإنسانية واللغوية فى الإطارين المذكورين، الطبيعة والمجتمع، كما يصنع لغته أو لغاته ضمن هذه الشروط الموضوعية ولكنْ القابلة دوما للتعديل والتحويل وفقا لهذه المرحلة أو تلك من مراحل تطور الإنسان.
ورغم الاشتراك مع كل ظاهرة وكل علم فى علاقة العلم بمجال بحثه، باعتبارها علاقة تبدأ بالبحث الاستقرائى، ورغم الاشتراك مع ظواهر الحياة الاجتماعية وعلومها فى الوعى الذى يجعل هذا الاستقراء لا يبدأ من الصفر، بل يبدأ بمنجزات استقراء الممارسة و"العلم" طوال التاريخ وما قبل التاريخ، إلا أن اللغة تختلف أيضا حتى عن العلوم الإنسانية الأخرى.
وسأضرب الآن مثلا لإيضاح خصوصية العلوم اللغوية، وبالأخص علم النحو، فى هذا المجال. عندما يدرس عالم الذرة فى العصر الحديث الذرة أو نواة الذرة أو الپروتون أو الجزيئ فإنه لا يملك لغة للتخاطب مع هذه العناصر أو مع الظواهر الكيميائية ككل، فهى جميعا بكماء، وهذا العالم لا يبدأ من الصفر بل يبدأ من منجزات العلوم عند الإغريق والعرب وغيرهم قبلهم وبعدهم، وقد منحته هذه المنجزات أحدث أدوات بحثه، ولا مجال هنا لوعى غير وعى العلم طوال تاريخه ووعى الممارسة اليومية للبشرية طوال تاريخها. وهنا يتعامل الوعى العلمى مع الظاهرة الكيميائية غير الواعية بنفسها وغير القادرة على الحديث عن خصائصها وعناصرها رغم استعدادها لمنح أسرارها كما سبق القول لأدوات البحث. ورغم أن العلم يعتمد هنا على الوعى التراكمى بالظاهرة الكيميائية، أىْ على وعى البشر بها، إلا أن الوعى ليس عنصرا ماثلا فى جوهر الظاهرة، ولم يسهم فى صنع الظاهرة، على العكس من الظواهر الاجتماعية والفكرية واللغوية التى يشكل الوعى عنصرا ماثلا فى صميمها وليس فى مجرد الوعى بها، فالاقتصاد من صنع أشياء منها الوعى، والوجود الاجتماعى بأكمله من صنع أشياء منها الوعى، وكلها من صنع الإنسان بوعيه الصحيح والزائف فى إطار معطى من الطبيعة والمجتمع. أما الظاهرة اللغوية فهى من صنع الإنسان بوعيه، وبالطبع بأشياء أخرى، منها المخ البشرى، ومنها الفيزياء أىْ الوسط الذى تنتقل فيه الأصوات اللغوية للبشر، ومنها الحياة الاجتماعية التى تعبر عنها اللغة، فاللغة إذن من صنع الإنسان، والوعى ماثل فى صميمها، ففيم تختلف عن الظواهر الاجتماعية الأخرى التى يسهم الوعى فى وجودها وتطورها؟
تختلف اللغة عن غيرها من الظواهر الاجتماعية فى أنها أداة التعبير عن كل مناحى الحياة، من الحياة اليومية، إلى الأدب، إلى العلوم الاجتماعية، إلى العلوم الطبيعية التى تصل مستوياتها المعقدة إلى لغة الرموز المشتقة بطبيعة الحال من اللغة الطبيعية (أىْ اللغة كما ننطقها ونكتبها ونقرأها). ولأن اللغة هى لغة الحياة ولغة كل علم فقد كان من المنطقى أن تكون المسافة بين خصائصها الموضوعية واستيعابها من جانب الناطقين بها أقصر من المسافة بين كل علم طبيعى ومجاله، وحتى كل علم اجتماعى ومجاله. أىْ أن مدى وضوح المفاهيم والتصنيفات التى تنطوى عليها اللغة الطبيعية (الموضوعية، الجمعية) يجعل المسافة بين العلم (اللغوى) وموضوع بحثه (اللغة) مسافة قصيرة للغاية، وهى مسافة قصيرة ليس فى العلم فقط، بل حتى فى ممارسة الحياة اليومية بين الناطق العادى بلغة وبين مفاهيمها وتصنيفاتها. ذلك أن اللغة تغدو مستحيلة، كما يغدو التفاهم مستحيلا، إذا لم تكن مفاهيمها وتصنيفاتها واضحة وبديهية وجاهزة لدى كل ناطق بلغة من اللغات. وإذا كانت اللغة تتكون من كلمات موجودة فى المعجم الجمعى الموضوعى وتتكون من جمل تتكون من تلك الكلمات بطريقة معلومة لبناء الجملة، فإن المعرفة الواضحة بالكلمات وطرق بناء الجمل منها شرط ضرورى للتفاهم بين أفراد كل جماعة بشرية فى كل نواحى حياتهم وبصورة متواصلة (ربما باستثناء حالة روبنسون كروزو فوق جزيرته). فإذا لم يعرف الناطق بلغة معانى الكلمات التى يستخدمها ولا طريقة بناء جمل منها فإنه سيكون عاجزا عن التعامل، وبالتالى عن الحياة، مع البشر، وإذا عجزت الجماعة اللغوية بأسرها عن فهم الكلمات وبناء الجمل فقد عجزت عن الحياة. غير أن اللغة ليست مجرد كلمات (يدرسها علم الصرف وعلوم أخرى) وليست مجرد بناء للجمل (يدرسه علم النحو بالمعنى الدقيق syntax) بل هناك أسلوبيات وبلاغيات وخصائص لا حصر لها تدرسها علوم لغوية لاحصر لها، غير أن الناطقين بلغة يدركونها بمستويات تتناسب مع مراحل التاريخ ومع قدرات الأفراد. على أن البحث اللغوى قد يرتفع إلى مستويات قد لا يفهمها إلا علماء اللغة ودارسوها، وهذا يصدق على كل علوم اللغة بدرجات مختلفة ومنها النحو ذاته، أو النحو بالذات.
ولنقارن الآن باستخدام مثلين بسيطين بين الاقتصاد والنحو، كما يتعامل معهما مجتمع لم يصل بعد إلى مرحلة بالغة النضج من مراحل تطوره، ولم يصل بعد بالتالى إلى العلم البالغ النضج.
فى اقتصاد سلعىّ (وليكن قديما وسابقا على الرأسمالية) يفهم كل إنسان ما هى السلعة ويتعامل فى السوق مع السلع، غير أن المسافة بين فهمه سواء أكان شخصا عاديا أم باحثا اقتصاديا للسلعة وبين مفهومها العلمى الصحيح لن تكون مسافة يمكن تجاهلها أو اعتبارها قصيرة بحال من الأحوال. والآن: يستخدم شخص عادى جملة من فعل وفاعل ومفعول، فهل تـُراه يخلط بين الفاعل والمفعول، أو يخطئ فى معرفة زمن الفعل أو لزومه أو تعديه؟ إن المسافة بين تصور هذا الشخص العادى للفاعل مثلا وبين المفهوم الصحيح قد تصل إلى الصفر. لماذا؟ لأنه بدون هذه المفاهيم والتصنيفات الأولية لن يستطيع هذا المرء الكلام مع أحد ولا حتى مع نفسه. وهنا يحدث تطابق حقيقى بين العلم ومجاله، بين المفهوم وواقعه، وإلا ضاعت اللغة وضاعت معها إمكانية التعبير عن مختلف نواحى الحياة وكذلك إمكانية التعبير عن مختلف العلوم الطبيعية والإنسانية. ورغم المسافة القريبة بين اللغة وعلم اللغة إلا أن هذا لا يعنى أن العلم غير ضرورى، بل إن من الضرورى أن يحاول العلم دوما أن يقطع هذه المسافة التى تظل على قربها قائمة ومفتوحة. وتظل هناك حاجة دائمة إلى قيام العلم بتطوير المفاهيم والتصنيفات التى تنطوى عليها اللغة والتى يعرفها كل ناطق بها. إن العلم يرفع وعى الجماعة اللغوية بلغتها إلى مستويات أخرى جديدة من الصقل والتمفصل واكتشاف العلاقات الأكثر تعقيدا، بالإضافة إلى ما لا يمكن أن تصل إليه جماعة لغوية من وعى، وهو الوعى بالعلاقات بين اللغات، والوعى بالأصول المشتركة بينها، والوعى بالخصائص العامة للـُّغة والتى لا يمكن رؤيتها عند البقاء داخل نطاق لغة واحدة أو داخل مجموعة صغيرة من اللغات. كذلك فإن العلم هو الذى يصون ويطور الذاكرة اللغوية للجماعة اللغوية بدراسة ظواهرها من حيث تطورها التاريخى، ونشأتها من لغات أخرى، ومختلف المؤثرات اللغوية التى استقبلتها، والمراحل التى مرت بها، واتجاهاتها المستقبلية المحتملة، وباختصار فإن العلم يقوم بإحلال الوعى العلمى محل الوعى التلقائى، وبدون إحلال الوعى العلمى وتطويره بصورة متواصلة تستحيل أشياء كثيرة ليس أقلها شأنا فى هذا العصر تهيئة اللغات لتقنيات معالجة المعلومات حاسوبيًّا.
لقد أشرت منذ قليل إلى أن مفهوم الفاعل مثلا فى الوعى النحوى التلقائى يتطابق أو يكاد مع المفهوم الصحيح الذى يمكن أن يقدمه علم النحو الناضج. كما أن هذا الوعى التلقائى أو الجمعى هو المعيار الذى يساعد علم النحو على معرفة صدق أو زيف مفاهيمه. غير أن العلم يجرى إنتاجه ضمن شروط اجتماعية وتاريخية قد تكون مواتية وقد تكون غير مواتية لتوفيقه ونجاحه. ورغم أن المسافة بين الوعى قبل العلمى والوعى العلمى قد تصل، كما سبق القول، بالنسبة لبعض المفاهيم اللغوية، فى النحو على وجه الخصوص، إلى الصفر، فإن من المفارقات أن تؤدى الشروط الاجتماعية لإنتاج النحو إلى تخلف هذا العلم فى كثير من الأحيان عن الوعى النحوى قبل العلمى. وعندما يستقرئ عالم النحو مكونات الظاهرة النحوية فإن استقراءه قد يكون غير مكتمل، ولأن الاستقراء لا يكون منفردا فإن هناك مجالا واسعا لتدخـُّل الأفكار المسبقة التى قد تسير بالاستقراء فى اتجاهات بعيدة عن الصواب. إن العالم النحوى لا يذهب للبحث عن الحقيقة النحوية طارحا عنه كل فكر مسبَّق بل يذهب باستنتاجات سابقة وبتصورات وأيديولوچيات قد تكون غريبة على علم النحو، وقد تكون غريبة على كل علم. وكما مرّ علم الكيمياء بمراحل سيميائية باحثا عن حجر الفلاسفة، وكما طمست علوم اجتماعية حقائق الاجتماع البشرى وقدمت تفسيرات أسطورية فى كثير جدا من مراحل العلم إلى يومنا هذا، مرّت العلوم اللغوية، والنحو بالذات، بمراحل شهدت ضغوطا أيديولوچية لا نهاية لها على الاستقراء واستنطاق الظواهر اللغوية العينية. وبدلا من أن يخلع عنه كل فكر مسبَّق، تسلـَّح علم النحو، فى كثير من اللغات، فى كثير من الأحيان، إلى جانب أدوات البحث الحقيقى، بأوضاع وأفكار وأيديولوچيات ونظريات أقحمها على العلم، وكانت النتائج المنطقية منجزات علمية حقيقية تشوِّه الكثير منها أنواع وأشكال من الوعى الزائف تعكس مقتضيات المصالح الاجتماعية والأيديولوچيات والفلسفات وليس مقتضيات البحث العلمى. ومن المنطقى بالتالى، كما نرى فى تاريخ النحو العربى، أن تتحقق خطوات كبرى إلى الأمام مطعونة بخطوات أخرى إلى الوراء. وهى خطوات إلى الوراء ليس فقط بالقياس إلى طموح العلم الجديد بل أيضا بالقياس إلى المنطق الكامن فى النحو الجمعى، الذى هو فى نهاية المطاف المعيار الحقيقى والمرجع النهائى. ذلك أن اللغة كما تستخدمها الجماعة اللغوية هى الأصل والمرجع، وهى بالتالى معيار قياس نجاح العلم اللغوى أو فشله.
ولكى أميِّز فى هذا السياق النجاح من الفشل من جانب علم النحو العربى مثلا بالنسبة لبعض مفاهيم هذا النحو، سأشير باختصار إلى أمثلة قليلة وإنما سيأتى أوان النقاش التفصيلى فى تضاعيف فصول الكتاب. فلنأخذ مفهوم الفاعل الذى أشرنا إليه منذ قليل، وهو مفهوم بسيط مباشر فى استخدام الجماعة اللغوية، فهو من ناحية "مَنْ قام بالفعل أو قام به الفعل" (كما علـَّمنا النحو العربى) وهو من ناحية أخرى مَنْ/ ما جرى إسناد الفعل إليه، وبدون هذا ما كان هناك تفاهم، فربما أعدموا المقتول الميت ودفنوا القاتل الحىّ لو لم يكن مفهوم الفاعل واضحا جليا بسيطا مباشرا، فماذا فعل النحو العربى؟ أولا اكتشف مفهوم الفاعل أو أعاد اكتشافه أو أقرّ هذا المفهوم عند الناس، وكل هذا فضل لهذا العلم، غير أنه سرعان ما قام بتشويه كل ذلك إذ قال النحاة إن الفاعل يتقدمه فعله، وهكذا فبعد أن كان "القاتل" فى جملة من فعل وفاعل ومفعول به، مهما كان ترتيب هذه العناصر أو الوظائف النحوية، هو الفاعل فى كل الأحوال، سواء تقدمه فعله أو تأخر عنه أو سبقه ناسخ، جرى تعقيد مفهوم الفاعل فالقاتل (الفاعل هنا) يكون فاعلا إذا تقدمه فعله، ويكون المبتدأ إذا سبق القاتل الفعل، ويكون اسما للناسخ، وهنا جرى اختراع مسميات متعددة تشكل القسم الأكبر مما يسمى بمرفوعات الأسماء لمن قام بالفعل حقا وصدقا بدلا من المسمى الوحيد الجدير به، وليكن المسند إليه، وليكن الفاعل، وليكن ما يكون. ليس هذا فقط بل كانت هناك خطوة أخرى بدت منطقية: التمييز بين جملة بدأت بالاسم وأخرى بدأت بالفعل، وبالتالى الخطأ النحوى الذى انفرد به النحو العربى والنحو فى بعض اللغات التى تأثرت به كالقبطية والفارسية وهو تقسيم الجملة إلى اسمية وفعلية دون أىّ سند من اللغة العربية كما استخدمتها الجماعة اللغوية. ومع جملة مثل "الكتاب مفيد" لم يقدم النحو الجمعى قبل العلمى ما يفيد أن كلمة "مفيد" خبر للمبتدأ؛ إنه مرفوع حقا ولكنْ هل هو الخبر؟ أجاب علم النحو العربى بأنه هو الخبر دون غيره، وهنا ضاع مفهوم الخبر، وبخطوة أخرى جرى اختراع أنواع من الخبر، وبخطوة ثالثة قيس ما يسمى برفع الخبر بكل "أنواعه" على رفع ما يسمى بالخبر المفرد، وبخطوة رابعة جرى اختراع ما يسمى بالرفع المحلى لغير ما يسمى بالخبر المفرد. وهذه ظاهرة خاصة بفعل الكينونة بالذات وفى المضارع المثبت بالذات، كما سوف نرى، وبالتالى فإن فعلا واحدا فى حالة واحدة ضلـَّل النحو العربى فقاده إلى اختراع رفع الخبر، واختراع أنواع للخبر، واختراع الرفع المحلى، ونتج عن هذا التمييز بين المبتدأ والفاعل اختراع ما يسمى الضمير المستتر وتقديره ورفعه رفعا محليا أيضا. وليس هذا فقط: لأن الجملة "بدت" دون فعل عمليا ولأن كلمة "مفيد" ماثلة هناك، ولأنه "يبدو" أن المنطق يقول إن ما يسمى بالجملة الاسمية تتكون من مبتدأ وخبر، فقد جرى زعم أن كلمة "مفيد" خبر، واستطاع هذا المفهوم الخاطئ للخبر أن يسود وأن يهمِّش ويسحق مفهوما رائعا من مفاهيم النحو العربى هو مفهوم "مُتعلـَّق الجارّ والمجرور" الذى يقول بأن هناك محذوفا يصنع الخبر مع كلمة "مفيد"، وكان من شأن صقل وتطوير مفهوم "مُتعلـَّق الجارّ والمجرور" أن ينقذ مفهوم الخبر ومفهوم الجملة ليس فى النحو العربى وحده بل كذلك أيضا فى النحو الأوروپى (الإنجليزى والفرنسى مثلا) من مفاهيم ظلت خاطئة بشأن الخبر إلى وقت قريب جدا، أىْ إلى أن اكتشفت الثورة النحوية الجديدة فى العقود الأخيرة فى النحو الإنجليزى مثلا أن الخبر هو كل ما يرد فى الجملة من غير المسند إليه، وهذا ما يجعل الخبر مفهوما غير قابل للإعراب أصلا، لأنه لا يكون كلمة واحدة إلا إذا كان فعلا واحدا غير رابط، كما سنرى. أىْ أن النحو العربى توصَّل فى وقت ما إلى مفهوم نحوى ناجع عن الخبر كان من شأنه أن يفيد النحو فى اللغة العربية وغيرها من اللغات، غير أن الاتجاه النحوى السائد سحق هذا المفهوم. كذلك فإن نشأة النحو فى زمن ساد فيه اللحن الإعرابى، والخوف منه ومن سقوط الإعراب الذى أدى إليه على اللغة والدين، أفضت إلى رفع الإعراب من أداة ضرورية لكل نحو فى أىّ لغة، وليس فى اللغة العربية فحسب، فى بعض مراحل تطورها، إلى مستوى النحو ذاته وبالتالى النظرة الخاطئة التى جعلت النحو علما لأحوال الإعراب (وهذا هو ما يردده النحو العربى ومجمع اللغة العربية بالقاهرة وغيره من مجامع اللغة العربية إلى يومنا هذا) بدلا من أن يكون النحو علم بناء الجملة، يبحث الجملة من حيث ما تشتمل عليه من وظائف وعناصر نحوية هى لبنات بنائها. ويعنى هذا أن النحو العربى يدور حول إحدى أدواته الفرعية المتمثلة فى الإعراب، رغم أهميته التى لا جدال فيها إلا فى حالة إسقاطه من جانب الجماعة الناطقة باللغة العربية، وفى حدود هذا الإسقاط (القرن الثانى الهجرى فى الأمصار والقرن الرابع الهجرى فى البادية)، مع الاحتفاظ بالإعراب فى مجال الثقافة الرفيعة والعلوم والدين إلى يومنا هذا.
نحو عربى جديد
خليل كلفت
المحتويات
مفهوم النحو (مقدمة عن العلاقة بين العلم وموضوعه) .......................
1: تقسيم الجملة إلى اسمية وفعلية ـ ازدواج غريب وخاطئ ................
2: المسند إليه والمسند .................................................. ......
3: المسند إليه .................................................. .............
4: المسند إليه: بعض تجلياته أو أشكال تحقيقه ..................................
5: ما يسمى بنواسخ المبتدأ والخبر أ: الأفعال المسماة بالناسخة ....................
6: ما يسمى بنواسخ المبتدأ والخبر ب: الحروف المسماة بالناسخة ................
7: المسند أو ما يسمى بالخبر ...............................................
8: المسند (الخبر) ومتعلَّق الجارّ والمجرور .....................................
9: المسند أو الخبر: تحليل لعناصره المكونة ..................................
10: الإعراب: خطيئة تمحور النحو حول الإعراب ..............................
11: الإعراب: وظيفته كأداة من أدوات النحو .....................................
12: الإعراب وعناصر الجملة .................................................. ..
13: الإعراب المحلى والإعراب التقديرى .....................................
14: وقفة عند من ينكرون الإعراب كأصل من أصول اللغة العربية ...............
15: ما يسمى بمنصوبات الأسماء بين عناصر الجملة والإعراب ................
16: من التمحور حول الإعراب إلى التحليل النحوى والمنطقى ..................
17: محاولة مجمع اللغة العربية ووزارة المعارف المصرية لإصلاح النحو العربى فى 1945
ملاحق
الملحق 1: جملة عربية واحدة لا اسمية ولا فعلية ....................................
الملحق 2: هل الخبر مرفوع؟ .................................................. ....
الملحق 3: لويس عوض والبحث عن أصل اللغات: حول مقدمة فى فقه اللغة العربية ....
الملحق 4: النحو العربى بين شريف الشوباشى .. وسيبويه .............................
الملحق 5: 3 أعمدة فى مجلة الإذاعة والتليڤزيون بعنوان "لغة" .........................
مفهوم النحو
(مقدمة عن العلم وموضوعه (
يجرى التفكير فى النحو عادة على أنه يساوى تماما علم النحو، بنفس الطريقة التى يجرى بها التفكير فى الظواهر اللغوية الأخرى وكأن كل ظاهرة منها تساوى العلم الذى يدرسها ضمن العلوم اللغوية الأخرى. ويمكن القول إن هذا النحو من التفكير فى النحو والعلوم اللغوية الأخرى أفضى ويفضى وسيفضى دائما إلى أخطاء علمية وعملية قد تكون فادحة. ويمكن القول أيضا إن الخطأ الأول (وهو مصدر كل الأخطاء الأخرى) يتمثل فى أن هذا النوع من التفكير ينطلق من تجاهل حقيقة بسيطة يعرفها الجميع وهى أن اللغة موجودة قبل ظهور العلوم اللغوية وأن أصول هذه العلوم اللغوية موجودة فى اللغة وعندالناطقين بها قبل أن تظهر هذه العلوم، التى انطلقت على أساس استقرائى حيث أخذت تعمل على "جمع" كل ما اشتملت عليه هذه اللغة أو تلك من "تصنيفات" وهى تصنيفات قائمة فى وعى جماعة الناطقين بها، هذه الجماعة التى هى ليست فقط واعية بهذه التصنيفات بل إنها هى التى ابتدعتها بصورة جمعية تاريخية منذ ظهور الإنسان الكرومانيونى (أىْ الإنسان العاقل العاقل أو العارف العارف homo sapiens sapiens أو الإنسان كما نعرفه اليوم) منذ قرابة مائة ألف سنة وفقا لإحدى النظريات، أو أكثر أو أقل وفقا لنظريات أخرى، بالاستناد بالطبع إلى تاريخ طويل أسبق صنع فيها الإنسان نفسه ولغاته السابقة على اللغة كما نعرفها اليوم.
وإذا كانت العلاقة بين اللغة والعلم اللغوى مماثلة من الناحية الجوهرية للعلاقة بين كل علم ومجال بحثه، مثلا بين الكيمياء وعلم الكيمياء، باعتبار أن هذا العلم الكيميائى يبحث هذه الظاهرة الكيميائية تماما كما يبحث هذا العلم اللغوى هذه الظاهرة اللغوية، فإن هناك اختلافا جوهريا بدوره بين العلوم التى تدرس الطبيعة وتلك التى تدرس الحياة الاجتماعية والفكرية واللغوية إلخ... للبشر. ويتمثل هذا الاختلاف فى أن ظواهر الطبيعة خالية من الوعى وبالتالى خالية من التصنيف الذاتى لمختلف نواحيها وعناصرها. ولهذا يستقرئ العلم ظواهر الطبيعة معتمدا على أدواته وحدها لدراسة طبيعة غير واعية بذاتها. إن الطبيعة لا تمنح العلم أسرارها وتصنيفاتها لأنها لا تعى بها وليست هناك لغة مشتركة بينها وبين العلماء. غير أن العلم تطورىّ، فهو يعتمد إذن على تاريخ طويل من محاولات العلم فى مختلف مراحل تطوره. وهذه الأسرار والتصنيفات والمفاهيم التى تدور حول الكيمياء أو الفيزياء أو البيولوچيا أو الرياضيات يكتشفها البشر بالتدريج، حتى منذ مراحل بدائيتهم، ويرثها جيلٌ بعد جيل، ويبرز بينهم أشخاص يرتبط ذكاؤهم ببحث هذه الظاهرة الطبيعية أو الاجتماعية أو تلك، ببحث الفيزياء أو الكيمياء أو المجتمع، ليشكلوا تاريخا تطوريا يستغرق آلاف السنين وعشرات آلاف السنين ومئات آلاف السنين. وعندما نشأت العلوم بألف لام التعريف، أىْ العلوم دون أوصاف أخرى، فى الآلاف الأخيرة من تاريخ البشر، فقد انطلقت من وراثة تلك الجهود العلمية التطورية الطويلة للبشر و"للعلماء" منهم، بالاعتماد على ممارسة البشر طوال التاريخ وما قبل التاريخ وما قبل ما قبل التاريخ. وفى الآلاف الأخيرة من السنين هناك علم العصور القديمة، وعلم العصور الوسطى، وعلم العصر الحديث، أىْ العلم الحديث. وعلى هذا فإن العلم الحديث لم يقف أمام الطبيعة وظواهرها، أمام فيزيائها وكيميائها إلخ...، عاريا، مجردا من كل الأدوات باستثناء ذكائه المباشر. ذلك أن هذا الذكاء المباشر، الذى تسلح به العلم الحديث، ليس إلا الثمرة الناضجة لتاريخ وما قبل تاريخ العلم. وقد تسلَّح بكل ثمار ذلك التطور الطويل، منطلقا من تصنيفاته ومفاهيمه واستنتاجاته كفرضيات للبحث.
وباختصار فقد تسلَّح العلم الحديث بمنجزات ماقبل تاريخه ولكنْ أمام الطبيعة وظواهرها العمياء الصماء البكماء التى لا تقول شيئا بنفسها وإنْ كانت تعرض نفسها للفهم أمام الممارسة وأمام البحث العلمى، وبدون هذا الفهم، بدون فهم الإنسان العادى للطبيعة فى ممارسته التطورية وبدون فهم العلم للطبيعة من خلال بحثه التطورى، تستحيل كل ممارسة بشرية، أىْ كل حياة بشرية بكل جوانبها، ويستحيل كل علم.
ورغم تماثل العلاقة الجوهرية بين الطبيعة والعلم مع العلاقة الجوهرية بين اللغات (وغيرها من ظواهر الحياة البشرية من حيث هى كذلك) والعلوم اللغوية (وغير اللغوية) التى تدرسها، فإن الأمر يختلف تماما، بعد ذلك. فالبشر يعيشون حياتهم واعين بها، بكل جوانبها، بما فى ذلك الوعى بلغاتهم، وإنْ كان كل هذا وعيا مشروطا تاريخيا؛ إذْ تقرره مرحلة التطور الاجتماعى التى جرى بلوغها، وتحفزه أو تشوهه الأيديولوچيات، وتزرع فيه صراعات المصالح الاجتماعية المتعارضة تناقضاتها.
ولا مجال هنا لمناقشة قضية: الوجود الاجتماعى والوعى الاجتماعى أيهما أسبق؟ ويكفى هنا أن أشير إلى أن الوجود الاجتماعى مستحيل بدون الوعى الاجتماعى مهما كان نوع أو مستوى أو مرحلة هذا الوجود أو هذا الوعى، ذلك أن الإنسان الذى هو بحكم التعريف كائن لا يفارقه وعيه الصحيح أو الناقص أو المشوَّه أو الزائف، وهو يصنع وجوده الاجتماعى ووعيه بالنفس والمجتمع والكون، ويصنع بكل وعى حياته بكل جوانبها بمنجزاتها وتناقضاتها وكوارثها، فى إطار الطبيعة التى تواجهه كمعطى ليس من صنعه إلا أنه يعطى نفسه لتفاعل الإنسان معه لاستخدامه لمصلحة حياته، وفى إطار المجتمع الذى يواجهه – رغم أنه من صنعه بصورة تاريخية – كشرط كأنه طبيعى يتفاعل معه ويغيِّره ويحوِّله ولكنْ لا يسيطر عليه لمصلحة الإنسان إلا فى المجتمع المتقدم اجتماعيا والمتقدم تكنولوچيًّا، إلا فى المجتمع اللاطبقى، كما أن الإنسان يصنع كل علومه ومنها العلوم الإنسانية واللغوية فى الإطارين المذكورين، الطبيعة والمجتمع، كما يصنع لغته أو لغاته ضمن هذه الشروط الموضوعية ولكنْ القابلة دوما للتعديل والتحويل وفقا لهذه المرحلة أو تلك من مراحل تطور الإنسان.
ورغم الاشتراك مع كل ظاهرة وكل علم فى علاقة العلم بمجال بحثه، باعتبارها علاقة تبدأ بالبحث الاستقرائى، ورغم الاشتراك مع ظواهر الحياة الاجتماعية وعلومها فى الوعى الذى يجعل هذا الاستقراء لا يبدأ من الصفر، بل يبدأ بمنجزات استقراء الممارسة و"العلم" طوال التاريخ وما قبل التاريخ، إلا أن اللغة تختلف أيضا حتى عن العلوم الإنسانية الأخرى.
وسأضرب الآن مثلا لإيضاح خصوصية العلوم اللغوية، وبالأخص علم النحو، فى هذا المجال. عندما يدرس عالم الذرة فى العصر الحديث الذرة أو نواة الذرة أو الپروتون أو الجزيئ فإنه لا يملك لغة للتخاطب مع هذه العناصر أو مع الظواهر الكيميائية ككل، فهى جميعا بكماء، وهذا العالم لا يبدأ من الصفر بل يبدأ من منجزات العلوم عند الإغريق والعرب وغيرهم قبلهم وبعدهم، وقد منحته هذه المنجزات أحدث أدوات بحثه، ولا مجال هنا لوعى غير وعى العلم طوال تاريخه ووعى الممارسة اليومية للبشرية طوال تاريخها. وهنا يتعامل الوعى العلمى مع الظاهرة الكيميائية غير الواعية بنفسها وغير القادرة على الحديث عن خصائصها وعناصرها رغم استعدادها لمنح أسرارها كما سبق القول لأدوات البحث. ورغم أن العلم يعتمد هنا على الوعى التراكمى بالظاهرة الكيميائية، أىْ على وعى البشر بها، إلا أن الوعى ليس عنصرا ماثلا فى جوهر الظاهرة، ولم يسهم فى صنع الظاهرة، على العكس من الظواهر الاجتماعية والفكرية واللغوية التى يشكل الوعى عنصرا ماثلا فى صميمها وليس فى مجرد الوعى بها، فالاقتصاد من صنع أشياء منها الوعى، والوجود الاجتماعى بأكمله من صنع أشياء منها الوعى، وكلها من صنع الإنسان بوعيه الصحيح والزائف فى إطار معطى من الطبيعة والمجتمع. أما الظاهرة اللغوية فهى من صنع الإنسان بوعيه، وبالطبع بأشياء أخرى، منها المخ البشرى، ومنها الفيزياء أىْ الوسط الذى تنتقل فيه الأصوات اللغوية للبشر، ومنها الحياة الاجتماعية التى تعبر عنها اللغة، فاللغة إذن من صنع الإنسان، والوعى ماثل فى صميمها، ففيم تختلف عن الظواهر الاجتماعية الأخرى التى يسهم الوعى فى وجودها وتطورها؟
تختلف اللغة عن غيرها من الظواهر الاجتماعية فى أنها أداة التعبير عن كل مناحى الحياة، من الحياة اليومية، إلى الأدب، إلى العلوم الاجتماعية، إلى العلوم الطبيعية التى تصل مستوياتها المعقدة إلى لغة الرموز المشتقة بطبيعة الحال من اللغة الطبيعية (أىْ اللغة كما ننطقها ونكتبها ونقرأها). ولأن اللغة هى لغة الحياة ولغة كل علم فقد كان من المنطقى أن تكون المسافة بين خصائصها الموضوعية واستيعابها من جانب الناطقين بها أقصر من المسافة بين كل علم طبيعى ومجاله، وحتى كل علم اجتماعى ومجاله. أىْ أن مدى وضوح المفاهيم والتصنيفات التى تنطوى عليها اللغة الطبيعية (الموضوعية، الجمعية) يجعل المسافة بين العلم (اللغوى) وموضوع بحثه (اللغة) مسافة قصيرة للغاية، وهى مسافة قصيرة ليس فى العلم فقط، بل حتى فى ممارسة الحياة اليومية بين الناطق العادى بلغة وبين مفاهيمها وتصنيفاتها. ذلك أن اللغة تغدو مستحيلة، كما يغدو التفاهم مستحيلا، إذا لم تكن مفاهيمها وتصنيفاتها واضحة وبديهية وجاهزة لدى كل ناطق بلغة من اللغات. وإذا كانت اللغة تتكون من كلمات موجودة فى المعجم الجمعى الموضوعى وتتكون من جمل تتكون من تلك الكلمات بطريقة معلومة لبناء الجملة، فإن المعرفة الواضحة بالكلمات وطرق بناء الجمل منها شرط ضرورى للتفاهم بين أفراد كل جماعة بشرية فى كل نواحى حياتهم وبصورة متواصلة (ربما باستثناء حالة روبنسون كروزو فوق جزيرته). فإذا لم يعرف الناطق بلغة معانى الكلمات التى يستخدمها ولا طريقة بناء جمل منها فإنه سيكون عاجزا عن التعامل، وبالتالى عن الحياة، مع البشر، وإذا عجزت الجماعة اللغوية بأسرها عن فهم الكلمات وبناء الجمل فقد عجزت عن الحياة. غير أن اللغة ليست مجرد كلمات (يدرسها علم الصرف وعلوم أخرى) وليست مجرد بناء للجمل (يدرسه علم النحو بالمعنى الدقيق syntax) بل هناك أسلوبيات وبلاغيات وخصائص لا حصر لها تدرسها علوم لغوية لاحصر لها، غير أن الناطقين بلغة يدركونها بمستويات تتناسب مع مراحل التاريخ ومع قدرات الأفراد. على أن البحث اللغوى قد يرتفع إلى مستويات قد لا يفهمها إلا علماء اللغة ودارسوها، وهذا يصدق على كل علوم اللغة بدرجات مختلفة ومنها النحو ذاته، أو النحو بالذات.
ولنقارن الآن باستخدام مثلين بسيطين بين الاقتصاد والنحو، كما يتعامل معهما مجتمع لم يصل بعد إلى مرحلة بالغة النضج من مراحل تطوره، ولم يصل بعد بالتالى إلى العلم البالغ النضج.
فى اقتصاد سلعىّ (وليكن قديما وسابقا على الرأسمالية) يفهم كل إنسان ما هى السلعة ويتعامل فى السوق مع السلع، غير أن المسافة بين فهمه سواء أكان شخصا عاديا أم باحثا اقتصاديا للسلعة وبين مفهومها العلمى الصحيح لن تكون مسافة يمكن تجاهلها أو اعتبارها قصيرة بحال من الأحوال. والآن: يستخدم شخص عادى جملة من فعل وفاعل ومفعول، فهل تـُراه يخلط بين الفاعل والمفعول، أو يخطئ فى معرفة زمن الفعل أو لزومه أو تعديه؟ إن المسافة بين تصور هذا الشخص العادى للفاعل مثلا وبين المفهوم الصحيح قد تصل إلى الصفر. لماذا؟ لأنه بدون هذه المفاهيم والتصنيفات الأولية لن يستطيع هذا المرء الكلام مع أحد ولا حتى مع نفسه. وهنا يحدث تطابق حقيقى بين العلم ومجاله، بين المفهوم وواقعه، وإلا ضاعت اللغة وضاعت معها إمكانية التعبير عن مختلف نواحى الحياة وكذلك إمكانية التعبير عن مختلف العلوم الطبيعية والإنسانية. ورغم المسافة القريبة بين اللغة وعلم اللغة إلا أن هذا لا يعنى أن العلم غير ضرورى، بل إن من الضرورى أن يحاول العلم دوما أن يقطع هذه المسافة التى تظل على قربها قائمة ومفتوحة. وتظل هناك حاجة دائمة إلى قيام العلم بتطوير المفاهيم والتصنيفات التى تنطوى عليها اللغة والتى يعرفها كل ناطق بها. إن العلم يرفع وعى الجماعة اللغوية بلغتها إلى مستويات أخرى جديدة من الصقل والتمفصل واكتشاف العلاقات الأكثر تعقيدا، بالإضافة إلى ما لا يمكن أن تصل إليه جماعة لغوية من وعى، وهو الوعى بالعلاقات بين اللغات، والوعى بالأصول المشتركة بينها، والوعى بالخصائص العامة للـُّغة والتى لا يمكن رؤيتها عند البقاء داخل نطاق لغة واحدة أو داخل مجموعة صغيرة من اللغات. كذلك فإن العلم هو الذى يصون ويطور الذاكرة اللغوية للجماعة اللغوية بدراسة ظواهرها من حيث تطورها التاريخى، ونشأتها من لغات أخرى، ومختلف المؤثرات اللغوية التى استقبلتها، والمراحل التى مرت بها، واتجاهاتها المستقبلية المحتملة، وباختصار فإن العلم يقوم بإحلال الوعى العلمى محل الوعى التلقائى، وبدون إحلال الوعى العلمى وتطويره بصورة متواصلة تستحيل أشياء كثيرة ليس أقلها شأنا فى هذا العصر تهيئة اللغات لتقنيات معالجة المعلومات حاسوبيًّا.
لقد أشرت منذ قليل إلى أن مفهوم الفاعل مثلا فى الوعى النحوى التلقائى يتطابق أو يكاد مع المفهوم الصحيح الذى يمكن أن يقدمه علم النحو الناضج. كما أن هذا الوعى التلقائى أو الجمعى هو المعيار الذى يساعد علم النحو على معرفة صدق أو زيف مفاهيمه. غير أن العلم يجرى إنتاجه ضمن شروط اجتماعية وتاريخية قد تكون مواتية وقد تكون غير مواتية لتوفيقه ونجاحه. ورغم أن المسافة بين الوعى قبل العلمى والوعى العلمى قد تصل، كما سبق القول، بالنسبة لبعض المفاهيم اللغوية، فى النحو على وجه الخصوص، إلى الصفر، فإن من المفارقات أن تؤدى الشروط الاجتماعية لإنتاج النحو إلى تخلف هذا العلم فى كثير من الأحيان عن الوعى النحوى قبل العلمى. وعندما يستقرئ عالم النحو مكونات الظاهرة النحوية فإن استقراءه قد يكون غير مكتمل، ولأن الاستقراء لا يكون منفردا فإن هناك مجالا واسعا لتدخـُّل الأفكار المسبقة التى قد تسير بالاستقراء فى اتجاهات بعيدة عن الصواب. إن العالم النحوى لا يذهب للبحث عن الحقيقة النحوية طارحا عنه كل فكر مسبَّق بل يذهب باستنتاجات سابقة وبتصورات وأيديولوچيات قد تكون غريبة على علم النحو، وقد تكون غريبة على كل علم. وكما مرّ علم الكيمياء بمراحل سيميائية باحثا عن حجر الفلاسفة، وكما طمست علوم اجتماعية حقائق الاجتماع البشرى وقدمت تفسيرات أسطورية فى كثير جدا من مراحل العلم إلى يومنا هذا، مرّت العلوم اللغوية، والنحو بالذات، بمراحل شهدت ضغوطا أيديولوچية لا نهاية لها على الاستقراء واستنطاق الظواهر اللغوية العينية. وبدلا من أن يخلع عنه كل فكر مسبَّق، تسلـَّح علم النحو، فى كثير من اللغات، فى كثير من الأحيان، إلى جانب أدوات البحث الحقيقى، بأوضاع وأفكار وأيديولوچيات ونظريات أقحمها على العلم، وكانت النتائج المنطقية منجزات علمية حقيقية تشوِّه الكثير منها أنواع وأشكال من الوعى الزائف تعكس مقتضيات المصالح الاجتماعية والأيديولوچيات والفلسفات وليس مقتضيات البحث العلمى. ومن المنطقى بالتالى، كما نرى فى تاريخ النحو العربى، أن تتحقق خطوات كبرى إلى الأمام مطعونة بخطوات أخرى إلى الوراء. وهى خطوات إلى الوراء ليس فقط بالقياس إلى طموح العلم الجديد بل أيضا بالقياس إلى المنطق الكامن فى النحو الجمعى، الذى هو فى نهاية المطاف المعيار الحقيقى والمرجع النهائى. ذلك أن اللغة كما تستخدمها الجماعة اللغوية هى الأصل والمرجع، وهى بالتالى معيار قياس نجاح العلم اللغوى أو فشله.
ولكى أميِّز فى هذا السياق النجاح من الفشل من جانب علم النحو العربى مثلا بالنسبة لبعض مفاهيم هذا النحو، سأشير باختصار إلى أمثلة قليلة وإنما سيأتى أوان النقاش التفصيلى فى تضاعيف فصول الكتاب. فلنأخذ مفهوم الفاعل الذى أشرنا إليه منذ قليل، وهو مفهوم بسيط مباشر فى استخدام الجماعة اللغوية، فهو من ناحية "مَنْ قام بالفعل أو قام به الفعل" (كما علـَّمنا النحو العربى) وهو من ناحية أخرى مَنْ/ ما جرى إسناد الفعل إليه، وبدون هذا ما كان هناك تفاهم، فربما أعدموا المقتول الميت ودفنوا القاتل الحىّ لو لم يكن مفهوم الفاعل واضحا جليا بسيطا مباشرا، فماذا فعل النحو العربى؟ أولا اكتشف مفهوم الفاعل أو أعاد اكتشافه أو أقرّ هذا المفهوم عند الناس، وكل هذا فضل لهذا العلم، غير أنه سرعان ما قام بتشويه كل ذلك إذ قال النحاة إن الفاعل يتقدمه فعله، وهكذا فبعد أن كان "القاتل" فى جملة من فعل وفاعل ومفعول به، مهما كان ترتيب هذه العناصر أو الوظائف النحوية، هو الفاعل فى كل الأحوال، سواء تقدمه فعله أو تأخر عنه أو سبقه ناسخ، جرى تعقيد مفهوم الفاعل فالقاتل (الفاعل هنا) يكون فاعلا إذا تقدمه فعله، ويكون المبتدأ إذا سبق القاتل الفعل، ويكون اسما للناسخ، وهنا جرى اختراع مسميات متعددة تشكل القسم الأكبر مما يسمى بمرفوعات الأسماء لمن قام بالفعل حقا وصدقا بدلا من المسمى الوحيد الجدير به، وليكن المسند إليه، وليكن الفاعل، وليكن ما يكون. ليس هذا فقط بل كانت هناك خطوة أخرى بدت منطقية: التمييز بين جملة بدأت بالاسم وأخرى بدأت بالفعل، وبالتالى الخطأ النحوى الذى انفرد به النحو العربى والنحو فى بعض اللغات التى تأثرت به كالقبطية والفارسية وهو تقسيم الجملة إلى اسمية وفعلية دون أىّ سند من اللغة العربية كما استخدمتها الجماعة اللغوية. ومع جملة مثل "الكتاب مفيد" لم يقدم النحو الجمعى قبل العلمى ما يفيد أن كلمة "مفيد" خبر للمبتدأ؛ إنه مرفوع حقا ولكنْ هل هو الخبر؟ أجاب علم النحو العربى بأنه هو الخبر دون غيره، وهنا ضاع مفهوم الخبر، وبخطوة أخرى جرى اختراع أنواع من الخبر، وبخطوة ثالثة قيس ما يسمى برفع الخبر بكل "أنواعه" على رفع ما يسمى بالخبر المفرد، وبخطوة رابعة جرى اختراع ما يسمى بالرفع المحلى لغير ما يسمى بالخبر المفرد. وهذه ظاهرة خاصة بفعل الكينونة بالذات وفى المضارع المثبت بالذات، كما سوف نرى، وبالتالى فإن فعلا واحدا فى حالة واحدة ضلـَّل النحو العربى فقاده إلى اختراع رفع الخبر، واختراع أنواع للخبر، واختراع الرفع المحلى، ونتج عن هذا التمييز بين المبتدأ والفاعل اختراع ما يسمى الضمير المستتر وتقديره ورفعه رفعا محليا أيضا. وليس هذا فقط: لأن الجملة "بدت" دون فعل عمليا ولأن كلمة "مفيد" ماثلة هناك، ولأنه "يبدو" أن المنطق يقول إن ما يسمى بالجملة الاسمية تتكون من مبتدأ وخبر، فقد جرى زعم أن كلمة "مفيد" خبر، واستطاع هذا المفهوم الخاطئ للخبر أن يسود وأن يهمِّش ويسحق مفهوما رائعا من مفاهيم النحو العربى هو مفهوم "مُتعلـَّق الجارّ والمجرور" الذى يقول بأن هناك محذوفا يصنع الخبر مع كلمة "مفيد"، وكان من شأن صقل وتطوير مفهوم "مُتعلـَّق الجارّ والمجرور" أن ينقذ مفهوم الخبر ومفهوم الجملة ليس فى النحو العربى وحده بل كذلك أيضا فى النحو الأوروپى (الإنجليزى والفرنسى مثلا) من مفاهيم ظلت خاطئة بشأن الخبر إلى وقت قريب جدا، أىْ إلى أن اكتشفت الثورة النحوية الجديدة فى العقود الأخيرة فى النحو الإنجليزى مثلا أن الخبر هو كل ما يرد فى الجملة من غير المسند إليه، وهذا ما يجعل الخبر مفهوما غير قابل للإعراب أصلا، لأنه لا يكون كلمة واحدة إلا إذا كان فعلا واحدا غير رابط، كما سنرى. أىْ أن النحو العربى توصَّل فى وقت ما إلى مفهوم نحوى ناجع عن الخبر كان من شأنه أن يفيد النحو فى اللغة العربية وغيرها من اللغات، غير أن الاتجاه النحوى السائد سحق هذا المفهوم. كذلك فإن نشأة النحو فى زمن ساد فيه اللحن الإعرابى، والخوف منه ومن سقوط الإعراب الذى أدى إليه على اللغة والدين، أفضت إلى رفع الإعراب من أداة ضرورية لكل نحو فى أىّ لغة، وليس فى اللغة العربية فحسب، فى بعض مراحل تطورها، إلى مستوى النحو ذاته وبالتالى النظرة الخاطئة التى جعلت النحو علما لأحوال الإعراب (وهذا هو ما يردده النحو العربى ومجمع اللغة العربية بالقاهرة وغيره من مجامع اللغة العربية إلى يومنا هذا) بدلا من أن يكون النحو علم بناء الجملة، يبحث الجملة من حيث ما تشتمل عليه من وظائف وعناصر نحوية هى لبنات بنائها. ويعنى هذا أن النحو العربى يدور حول إحدى أدواته الفرعية المتمثلة فى الإعراب، رغم أهميته التى لا جدال فيها إلا فى حالة إسقاطه من جانب الجماعة الناطقة باللغة العربية، وفى حدود هذا الإسقاط (القرن الثانى الهجرى فى الأمصار والقرن الرابع الهجرى فى البادية)، مع الاحتفاظ بالإعراب فى مجال الثقافة الرفيعة والعلوم والدين إلى يومنا هذا.