أخبرنا الفَسَويّ، قال: حدثني يموت بن المزرَّع، قال: سمعتُ الجاحظ يقول: أجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، كأنّه قد سُبك سبكاً واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري فرس الرِّهان؛ وحتى تراها مُتَّفِقَةً مُلساً، وليِّنةً المعاطف سهلة، فإذا رأيتها مُتَخَلِّعَةً متباينةً، ومتنافرةً مستكرهة، تشقُّ على اللسان وتَسْتَكِدُّهُ، ورأيت غيرها سهلةً ليِّنةً رطبةً، متواتيةً سلسةً في النظام، حتى كأنّ البيت بأسره كلمة واحدة، وحتى كأنّ الكلمة بأسرها حرف واحد لم يخف على من كان من أهله.
من ذلك قوله "
مَنْ كانَ ذا عَضُدٍ يُدركْ ظُلامتَهُ ... إِنّ الذليل الذي ليسَتْ له عُضُدٌ
تنبُو يداهُ إِذا ما قلَّ ناصرُهُ ... وَيَأُنفُ الضيمَ إِنْ أَثري لهُ عددُ
وقوله:
رَمَتْنيِ وستُر اللهِ بَيْني وَبَيْنْهَا ... عَشِيَّةَ أَحجارِ الكِناسُ رَميم
فلو كنتُ أَستطيعُ الرّماءَ رَمَيْتُها ... ولكنّ عهدي بالنِّضالِ قديم
فَمَيِّل بين هذا وبين قوله :
لم يضِرُها والحمدُ لله شيءٌ ... وانْثَنَتْ نحوَ عَزْفِ نفسٍ ذَهولِ
فتفقَّد النصف الأخير من هذا البيت، فستجد بعض ألفاظه يتبرأُ من بعض، كما قال :
وبعضُ قريضُ القومِ أَولادُ عَلَّةٍ ... يَكُدُّ لسانَ الحافظِ المتحفِّظِ