تأملات في حديث الفتن
الحَمْدُ للهِ العليمِ الوَهَّابِ، ذي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ، لَهُ الحُكْمُ وإِلَيْهِ المَآبُ، والصلاةُ والسَّلامُ عَلَى النَّبِيِّ الأَعْظَمْ، وعَلَى آلِ بَيْتِهِ وعِتْرَتِهِ، وسلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ:
فهذا حديث رواه مسلم في صحيحه عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ، قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلا فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ، إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الصَّلاةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ»، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْشُدُكَ اللهَ آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ، وَقَلْبِهِ بِيَدَيْهِ، وَقَالَ: «سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي»، فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ، يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ، وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا، وَاللهُ يَقُولُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29] قَالَ: فَسَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: «أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ»[1].
هذا الحديث -مع حسن نظمه وجزالة ألفاظه وقلتها- قد كثرت فوائده، ونستطيع أن نتذوق بعض جمال هذا النص مما يأتي:
أولاً: إذا تأملنا ملابساتِ النداءِ للاجتماعِ فَإِنَّنَا سنلمحُ إشارةً إلى أهميةِ المضمونِ الخبريِّ، فقد جاء النداءُ وهُمْ في أعمالِهِمْ، كما قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ، إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الصَّلاةَ جَامِعَةً»، قوله: (ومنا من ينتضل) يريد الرمي إلى الأغراض، وقوله: (ومنا من هو في جشره) يريد «أنه خرج في إبله يرعاها»[2]، فالجشر: «إخراج الدواب للرعي»[3]، وإذا تأملنا كذلك العلامة الإعرابية لصيغة النداء: (الصَّلاةَ جَامِعَةً)، حيث جاء النداء «بِنَصْبِ الصَّلاةِ عَلَى الإِغْرَاءِ، وَجَامِعَةً عَلَى الْحَالِ»[4]؛ فإننا سنقرر تلك الإشارة إلى أهمية المضمون الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغه.
ثانيًا: التأكيد على الدور العظيم من إرسال الرسل إلى الناس، وذلك عن طريق أسلوب القصر بالنفي والاستثناء في قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ»، وإذا ربطنا هذا النص بما أنيط به الرسل في القرآن الكريم من وظائف، كقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]، عَلِمْنَا ماهية الخير والشر. وهذه البداية المهمة في الحديث تمهيد عبقريٌّ لما يأتي بعده من كلام، لدخول الآتي تحت جنس ما ينبغي أن يحذره الناس، فهو من الشر الذي يحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم أمته.
ثالثًا: هذه الثنائيات التقابلية بين قوله: «أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم»، مع قوله: «وينذرهم شر ما يعلمه لهم»، وكذلك بين قوله: «وإنَّ أمَّتَكم هذه جعل عافيتها في أولها»، مع قوله: «وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها».
فأولى الثنائيات بين (أول الأمة وآخرها) وموقعهما من ظهور الفتن، حيث العافية لصدر الأمة، وقد تقدم المفعول على الفاعل في قوله: «وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاءٌ وَأُمُورٌ» بما يدل على أهمية المقدَّم من جهتين، الأولى: إكمال رسم ثنائية الأول والآخر، والثانية: أن الفتن واقعة على الأواخر دون الأوائل بدلالة التخصيص الحاصل من تقديم ما حقه التأخير. كما أن السين الدالة على الاستقبال في قوله: (وسيصيب) مؤكدةٌ لمضمون الخبر وحتمية وقوعه.
رابعًا: بيان أحوال مجيء الفتن في ثلاث جمل:
الأولى: «وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا».
والثانية: «وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ».
والثالثة: «وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ». أما الجملة الأولى فهي على وجوه[5]:
1- (يُرَقِّقُ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَبِقَافَيْنِ، أَيْ: «تكون الأولى سهلة بالنسبة إليها»[6]، فَالثَّانِي يَجْعَلُ الأَوَّلَ رَقِيقًا. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقِيلَ: يَدُورُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ وَيَذْهَبُ وَيَجِيءُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يَسُوقُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ بِتَحْسِينِهَا وَتَسْوِيلِهَا».
2- «(فَيَرْفُقُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَبَعْدَهَا فَاءٌ مَضْمُومَةٌ».
3- «(فَيَدْفِقُ) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ السَّاكِنَةِ وَبِالْفَاءِ الْمَكْسُورَةِ، أَيْ يَدْفَعُ وَيَصُبُّ، وَالدَّفْقُ الصَّبُّ».
أما الجملة الثانية والثالثة فتدلان على تقلب المؤمن في آخر الزمان في فتن كثيرة، ينكشف بعضها، ويشتد بعضها، والتوكيد اللفظي في قوله: (هذه هذه) يدل على أن بعض الفتن يكون شديدًا بما يجعل المتلقي متوقعًا الهلاك معها، فالمعنى هذه هي الفتنة الكبرى. لكن نلحظ في هاتين الجملتين ذكر كلمة (فتنة) أولاً بالتنكير، ثم ذكرها (الفتنة) بالتعريف، والكلمة إذا تكررت وكانت الثانية معرفة والأولى نكرة كانت الثانية عين الأولى، فكيف يتسق ذلك مع انتقال المؤمن من حال إلى أخرى بين الفتنتين؟ والجواب أن الكلمة الثانية إذا كانت معرفة بأل الجنسية وليست العهدية كانت في معنى النكرة، فـ«(أل) هنا جنسية، والمحلى بها نكرة من حيث المعنى، فكأنّ المكررين نكرتان»[7].
خامسًا: بيان سبل النجاة من الفتن، وذلك في قوله: «فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَر»، وبذلك تكون سبل النجاة ثلاثًا:
السبيل الأولى: تحقيق ركن الإيمان بالله واليوم الآخر، بدلالة قوله: «فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ».
والسبيل الثانية: معاملة الناس بما يحب أن يعامَلَ به بدلالة قوله: «وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ»، فهذا «مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ صلى الله عليه وسلم وَبَدِيعِ حِكَمِهِ وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ فَيَنْبَغِي الاعْتِنَاءُ بِهَا، وَأَنَّ الإِنْسَانَ يلزم أن لا يَفْعَلَ مَعَ النَّاسِ إِلا مَا يُحِبُّ أَنْ يَفْعَلُوهُ مَعَهُ»[8].
والسبيل الثالثة: «وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، بدلالة قوله: «وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَر»، ومَعْنَاهُ-كما ذكر الإمام النووي-: «ادْفَعُوا الثَّانِيَ فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَلَى الإِمَامِ، فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ إِلا بِحَرْبٍ وَقِتَالٍ فَقَاتِلُوهُ، فَإِنْ دَعَتِ الْمُقَاتَلَةُ إِلَى قَتْلِهِ جَازَ قَتْلُهُ وَلا ضَمَانَ فِيهِ؛ لأَنَّهُ ظَالِمٌ مُتَعَدٍّ فِي قتاله»[9].
سادسًا: ذلك الحوار الذي دار بين عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، وعبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، إذ قال عبد الرحمن: «فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ، يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ، وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا... قَالَ: فَسَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: «أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ»، و«الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْكَلامِ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ لَمَّا سَمِعَ كَلامَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْروِ بْنِ الْعَاصِ وَذِكْرَ الْحَدِيثِ فِي تَحْرِيمِ مُنَازَعَةِ الْخَلِيفَةِ الأَوَّلِ وَأَنَّ الثَّانِيَ يُقْتَلُ فَاعْتَقَدَ هَذَا الْقَائِلُ هَذَا الْوَصْفَ فِي مُعَاوِيَةَ لِمُنَازَعَتِهِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَتْ قَدْ سَبَقَتْ بَيْعَةُ عَلِيٍّ فَرَأَى هَذَا أَنَّ نَفَقَةَ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَجْنَادِهِ وَأَتْبَاعِهِ فِي حَرْبِ عَلِيٍّ وَمُنَازَعَتِهِ وَمُقَاتَلَتِهِ إِيَّاهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَمِنْ قَتْلِ النَّفْسِ لأَنَّهُ قِتَالٌ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مَالا فِي مُقَاتَلَتِهِ قَوْلُهُ (أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ) هَذَا فِيهِ دَلِيلٌ لِوُجُوبِ طَاعَةِ الْمُتَوَلِّينَ لِلإِمَامَةِ بِالْقَهْرِ مِنْ غَيْرِ إِجْمَاعٍ وَلَا عَهْدٍ»[10].
الحَمْدُ للهِ العليمِ الوَهَّابِ، ذي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ، لَهُ الحُكْمُ وإِلَيْهِ المَآبُ، والصلاةُ والسَّلامُ عَلَى النَّبِيِّ الأَعْظَمْ، وعَلَى آلِ بَيْتِهِ وعِتْرَتِهِ، وسلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ:
فهذا حديث رواه مسلم في صحيحه عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ عَبْدِ رَبِّ الْكَعْبَةِ، قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلا فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ، إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الصَّلاةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ»، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْشُدُكَ اللهَ آنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَأَهْوَى إِلَى أُذُنَيْهِ، وَقَلْبِهِ بِيَدَيْهِ، وَقَالَ: «سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، وَوَعَاهُ قَلْبِي»، فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ، يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ، وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا، وَاللهُ يَقُولُ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: 29] قَالَ: فَسَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: «أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ»[1].
هذا الحديث -مع حسن نظمه وجزالة ألفاظه وقلتها- قد كثرت فوائده، ونستطيع أن نتذوق بعض جمال هذا النص مما يأتي:
أولاً: إذا تأملنا ملابساتِ النداءِ للاجتماعِ فَإِنَّنَا سنلمحُ إشارةً إلى أهميةِ المضمونِ الخبريِّ، فقد جاء النداءُ وهُمْ في أعمالِهِمْ، كما قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «فَمِنَّا مَنْ يُصْلِحُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشَرِهِ، إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الصَّلاةَ جَامِعَةً»، قوله: (ومنا من ينتضل) يريد الرمي إلى الأغراض، وقوله: (ومنا من هو في جشره) يريد «أنه خرج في إبله يرعاها»[2]، فالجشر: «إخراج الدواب للرعي»[3]، وإذا تأملنا كذلك العلامة الإعرابية لصيغة النداء: (الصَّلاةَ جَامِعَةً)، حيث جاء النداء «بِنَصْبِ الصَّلاةِ عَلَى الإِغْرَاءِ، وَجَامِعَةً عَلَى الْحَالِ»[4]؛ فإننا سنقرر تلك الإشارة إلى أهمية المضمون الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغه.
ثانيًا: التأكيد على الدور العظيم من إرسال الرسل إلى الناس، وذلك عن طريق أسلوب القصر بالنفي والاستثناء في قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ»، وإذا ربطنا هذا النص بما أنيط به الرسل في القرآن الكريم من وظائف، كقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25]، عَلِمْنَا ماهية الخير والشر. وهذه البداية المهمة في الحديث تمهيد عبقريٌّ لما يأتي بعده من كلام، لدخول الآتي تحت جنس ما ينبغي أن يحذره الناس، فهو من الشر الذي يحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم أمته.
ثالثًا: هذه الثنائيات التقابلية بين قوله: «أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم»، مع قوله: «وينذرهم شر ما يعلمه لهم»، وكذلك بين قوله: «وإنَّ أمَّتَكم هذه جعل عافيتها في أولها»، مع قوله: «وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها».
فأولى الثنائيات بين (أول الأمة وآخرها) وموقعهما من ظهور الفتن، حيث العافية لصدر الأمة، وقد تقدم المفعول على الفاعل في قوله: «وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلاءٌ وَأُمُورٌ» بما يدل على أهمية المقدَّم من جهتين، الأولى: إكمال رسم ثنائية الأول والآخر، والثانية: أن الفتن واقعة على الأواخر دون الأوائل بدلالة التخصيص الحاصل من تقديم ما حقه التأخير. كما أن السين الدالة على الاستقبال في قوله: (وسيصيب) مؤكدةٌ لمضمون الخبر وحتمية وقوعه.
رابعًا: بيان أحوال مجيء الفتن في ثلاث جمل:
الأولى: «وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا».
والثانية: «وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ».
والثالثة: «وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ». أما الجملة الأولى فهي على وجوه[5]:
1- (يُرَقِّقُ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَبِقَافَيْنِ، أَيْ: «تكون الأولى سهلة بالنسبة إليها»[6]، فَالثَّانِي يَجْعَلُ الأَوَّلَ رَقِيقًا. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقِيلَ: يَدُورُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ وَيَذْهَبُ وَيَجِيءُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: يَسُوقُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ بِتَحْسِينِهَا وَتَسْوِيلِهَا».
2- «(فَيَرْفُقُ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَبَعْدَهَا فَاءٌ مَضْمُومَةٌ».
3- «(فَيَدْفِقُ) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ السَّاكِنَةِ وَبِالْفَاءِ الْمَكْسُورَةِ، أَيْ يَدْفَعُ وَيَصُبُّ، وَالدَّفْقُ الصَّبُّ».
أما الجملة الثانية والثالثة فتدلان على تقلب المؤمن في آخر الزمان في فتن كثيرة، ينكشف بعضها، ويشتد بعضها، والتوكيد اللفظي في قوله: (هذه هذه) يدل على أن بعض الفتن يكون شديدًا بما يجعل المتلقي متوقعًا الهلاك معها، فالمعنى هذه هي الفتنة الكبرى. لكن نلحظ في هاتين الجملتين ذكر كلمة (فتنة) أولاً بالتنكير، ثم ذكرها (الفتنة) بالتعريف، والكلمة إذا تكررت وكانت الثانية معرفة والأولى نكرة كانت الثانية عين الأولى، فكيف يتسق ذلك مع انتقال المؤمن من حال إلى أخرى بين الفتنتين؟ والجواب أن الكلمة الثانية إذا كانت معرفة بأل الجنسية وليست العهدية كانت في معنى النكرة، فـ«(أل) هنا جنسية، والمحلى بها نكرة من حيث المعنى، فكأنّ المكررين نكرتان»[7].
خامسًا: بيان سبل النجاة من الفتن، وذلك في قوله: «فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَر»، وبذلك تكون سبل النجاة ثلاثًا:
السبيل الأولى: تحقيق ركن الإيمان بالله واليوم الآخر، بدلالة قوله: «فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ».
والسبيل الثانية: معاملة الناس بما يحب أن يعامَلَ به بدلالة قوله: «وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ»، فهذا «مِنْ جَوَامِعِ كَلِمِهِ صلى الله عليه وسلم وَبَدِيعِ حِكَمِهِ وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ فَيَنْبَغِي الاعْتِنَاءُ بِهَا، وَأَنَّ الإِنْسَانَ يلزم أن لا يَفْعَلَ مَعَ النَّاسِ إِلا مَا يُحِبُّ أَنْ يَفْعَلُوهُ مَعَهُ»[8].
والسبيل الثالثة: «وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، بدلالة قوله: «وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَر»، ومَعْنَاهُ-كما ذكر الإمام النووي-: «ادْفَعُوا الثَّانِيَ فَإِنَّهُ خَارِجٌ عَلَى الإِمَامِ، فَإِنْ لَمْ يَنْدَفِعْ إِلا بِحَرْبٍ وَقِتَالٍ فَقَاتِلُوهُ، فَإِنْ دَعَتِ الْمُقَاتَلَةُ إِلَى قَتْلِهِ جَازَ قَتْلُهُ وَلا ضَمَانَ فِيهِ؛ لأَنَّهُ ظَالِمٌ مُتَعَدٍّ فِي قتاله»[9].
سادسًا: ذلك الحوار الذي دار بين عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-، وعبد الرحمن بن عبد رب الكعبة، إذ قال عبد الرحمن: «فَقُلْتُ لَهُ: هَذَا ابْنُ عَمِّكَ مُعَاوِيَةُ، يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ، وَنَقْتُلَ أَنْفُسَنَا... قَالَ: فَسَكَتَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: «أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ»، و«الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْكَلامِ أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ لَمَّا سَمِعَ كَلامَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْروِ بْنِ الْعَاصِ وَذِكْرَ الْحَدِيثِ فِي تَحْرِيمِ مُنَازَعَةِ الْخَلِيفَةِ الأَوَّلِ وَأَنَّ الثَّانِيَ يُقْتَلُ فَاعْتَقَدَ هَذَا الْقَائِلُ هَذَا الْوَصْفَ فِي مُعَاوِيَةَ لِمُنَازَعَتِهِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَتْ قَدْ سَبَقَتْ بَيْعَةُ عَلِيٍّ فَرَأَى هَذَا أَنَّ نَفَقَةَ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَجْنَادِهِ وَأَتْبَاعِهِ فِي حَرْبِ عَلِيٍّ وَمُنَازَعَتِهِ وَمُقَاتَلَتِهِ إِيَّاهُ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَمِنْ قَتْلِ النَّفْسِ لأَنَّهُ قِتَالٌ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مَالا فِي مُقَاتَلَتِهِ قَوْلُهُ (أَطِعْهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَاعْصِهِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ) هَذَا فِيهِ دَلِيلٌ لِوُجُوبِ طَاعَةِ الْمُتَوَلِّينَ لِلإِمَامَةِ بِالْقَهْرِ مِنْ غَيْرِ إِجْمَاعٍ وَلَا عَهْدٍ»[10].