حماية جناب التوحيد وصيانته من الشرك ووسائله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ إله الأولين والآخرين وقيوم السموات والأرضين وخالق الخلق أجمعين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد معاشر المؤمنين عباد الله : اتقوا الله ، فإن من اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
معاشر المؤمنين : لقد قامت دعوة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم على النصح للعباد وبيان دين الله تبارك وتعالى على التمام والكمال ، لقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم رسولاً أمينا ، ونبياً رحيما ، ومعلِّما مشفقا كما قال الله عز وجل : ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[التوبة:128] ، فبلَّغ صلوات الله وسلامه عليه البلاغ المبين ، وما ترك خيراً إلا دلّ الأمة عليه ولا شراً إلا حذّرها منه ، ترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك ، أقام الحجة وأبان المحجة وأوضح السبيل - صلواتُ الله وسلامه وبركاته عليه - .
عباد الله: ولما كان مقام التوحيد أعظم المقامات والشّرك أخطرَ الأمور وأعظمها ؛ فهو الذنب الأكبر والجرم الذي لا يُغفر ، لما كان شأن التوحيد كذلك وشأن الشرك كذلك ، كان بيان النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد أعظم البيان، ونهيه وتحذيره عن الشرك أعظم النهي - صلوات الله وسلامه عليه - ، فهو صلى الله عليه وسلم أبان التوحيد وحمى حماه ، وأوضح الشرك وحذر منه وسدّ ذرائعه نصحاً للأمة وشفقة على العباد.
عباد الله: وعندما نتتبع سنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم نجد الأحاديث المتكاثرة والنصوص المتضافرة في بيان التوحيد وتعلية شأنه ، والتحذير من الشرك وبيان خطورته وسد الذرائع الموصلة إليه.
عباد الله: ومن نصح النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام الخطير نهيه الأمة عن الغلو في الدين كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث بن عباس رضي الله عنهما: ((إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ)) .
ونهى عليه الصلاة والسلام عن التنطع كما في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ )) ، والتنطع عباد الله أوّلُ سهام الغلو .
ونهي عليه الصلاة والسلام عن إطرائه والمبالغة في مدحه، فقال صلى الله عليه وسلم : ((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ )) ، ولما كان عليه الصلاة والسلام قد كَمَّل مقام العبودية أتمَّ تكميل كره المِدْحة - عليه الصلاة والسلام - ، كره أن يُمدح تتميماً لهذا المقام وصيانة للأمة من التمادي في المدح والغلو ، جاء في مسند الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (( أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا ، وَيَا خَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا بِقَوْلِكُمْ وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولُ اللَّهِ ، وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَا رَفَعَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ )) .وقال في رواية (( مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ )) .
عباد الله : ولما كان ما يتعلق بالقبور أخطر ما يكون على الناس في الوقوع في الشرك والانزلاق في منزلقاته كانت الحِيطة وسدّ الذرائع في هذا الباب عن نبينا صلى الله عليه وسلم متكاثرة ، ففي بدء الإسلام نهى - عليه الصلاة والسلام- عن زيارة القبور مطلقاً حمايةً لحمى التوحيد وصيانةً للأمة عن الشّرك ، ثم لما قويَ التوحيد في القلوب شرع ذلك وأباحه وأبان الحكمة منه عليه الصلاة والسلام ، فقال في حديثه الصحيح : ((كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ )) ، وجاءت عنه صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة فيها الاحتياط في هذا الباب وسد الذرائع ومن ذلكم : نهيه عليه الصلاة والسلام أن يُبنى على القبر أو أن يجصّص والحديث في صحيح مسلم ، ونهي عليه الصلاة والسلام أن يصلى إلى القبور صيانة للتوحيد كما قال صلى الله عليه وسلم : (( لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا )) ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم النهي الشديد والوعيد في اتخاذ القبور مساجد بأن تقصد لغرض الصلاة والدّعاء والعبادة وطلب البركة ، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها : لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - أي لما نزل به ملائكة الموت - طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ : ((لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ )) قالت عائشة رضي الله عنها: يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا.
عباد الله: ولما كان تعلق الناس بالأنبياء والصّالحين وحبهم لهم باباً قد يفضي بالناس إلى الغلو وإلى التعلّق بالصالحين وإلى الخلط في باب الشفاعة جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة صيانة للأمّة في هذا الباب : جاءه رجل وقال: يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم : (( أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ )) فربطه بالعبادة والإخلاص لله جلّ وعلا ، ولما قال له أبو هريرة رضي الله عنه : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : (( أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ )) ؛ فربطهم بكلمة التوحيد عليه الصلاة والسلام ، والحديث في صحيح البخاري ، وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا )) ؛ فجعل نيل شفاعته عليه الصّلاة والسلام مرتبطاً بالإخلاص والبعد عن الشرك . وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الغُلول يوما وعظّم أمره وعظّم شأنه ثم قال عليه الصلاة والسلام: (( لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ - أي الذهب والفضة - فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ)) .
تأمّلوا عباد الله هذا النصح العظيم والبيان الوافي من الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ؛ فدعوته صلى الله عليه وسلم كلُّها ربطٌ بالله وبعبادة الله والتوكّل على الله والالتجاء إلى الله ، لا بالتّعلق بالأنبياء أو الصالحين أو غيرهم، فإن النافع الضّار المعطيَ المانع الذي بيده أزمّة الأمور هو الله وحده ، ونبينا عليه الصلاة والسلام وسائر عباد الله ليس لهم من ذلك شيء ، وقد أنزل الله على نبيه ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾[آل عمران:128].
وتأمّلوا - رعاكم الله - في هذا المقام حرص نبينا عليه الصلاة والسلام على هداية عمّه أبى طالب فجاءه عند موته ولما حضرته الوفاة وقال: ((أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ )) ، ومات وهو يقول بل على ملّة عبد المطلب، وحزن عليه الصلاة والسلام وأنزل الله في تسليته ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾[القصص:56].
وتأمّلوا في هذا المقام لما ركب ابن عباس رضي الله عنه مع نبينا صلى الله عليه وسلم على دابته وهو غلام فالتفت عليه صلى الله عليه وسلم وقال : (( يَا غُلَامُ... إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ )) .
ومن حمايته - عليه الصلاة والسلام - لحمى التوحيد وسده لذرائع الشرك : أنه كان في كل مقام إذا سمع ألفاظاً تخدش التوحيد أو تخل بجنابه أو توقع قائلها في الشرك ولو في شرك الألفاظ غضب غضباً شديداً وحذّر من ذلك أشد التحذير ، والنقول في هذا المعنى كثيرة ومن ذلكم : أنه عليه الصلاة والسلام سمع رجلا يقول: ما شاء الله وشئت ، فغضب عليه الصلاة والسلام وقال: ((أَجَعَلْتنِي لِلَّهِ نِدًّا ؟ قُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ )) ، وسمع جاريتان تُنشدان فتقولان : " وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ " فغضب عليه الصلاة والسلام وقال : (( أَمَّا هَذَا فَلَا تَقُولُوهُ ، مَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ )) ، والأحاديث في هذا المعني كثيرة والمقام لا يسع بالبسط بأكثر من هذا.
ألا فلنتقِ الله - عباد الله - ولنتأمل في هذا المقام العظيم - مقام التوحيد - ، ولنحذر أيضا من الشرك الذي هو أخطر الذنوب وأعظمها ، ولنحذر منه ومن وسائله وأسبابه ، ونسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا أجمعين إيماننا وتوحيدنا ، وأن يعيذنا من الشرك كله صغيره وكبيره ، وأن يوفقنا لكل خير يحبه ويرضاه ، إنه تبارك وتعالى سميع الدّعاء وهو أهل الرّجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الخطبة الثانية :
الحمد لله عظيم الإحسان ، واسع الفضل والجود والامتنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
عباد الله : اتقوا الله تعالى ، واعلموا أن تقواه عز وجل أساس السعادة وسبيل الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة .
عباد الله : إننا حينما نتأمل في هذه النصوص العظيمة والدلائل المباركة في حماية نبينا صلى الله عليه وسلم لحمى التوحيد وسده لذرائع الشرك والباطل نأسف أشد الأسف ونتألم أشد الألم لواقع أقوام ينتسبون إلى دينه عليه الصلاة والسلام ويخالفونه في هذا المعني أشد المخالفة ، فيستغيثون بغير الله ، ويستنجدون بالأنبياء والأولياء والمقبورين ، ويتعلقون بالقباب والأضرحة والأتربة وغير ذلك ؛ إذا التجئوا التجَئوا إلى غير الله ، وإذا استغاثوا استغَاثوا بغير الله ، وإذا طلبوا الغَوْث طلبوا الغوث من غير الله ، يقول قائلهم : " أغثني يا رسول الله " ، أو يقول : " المدد يا رسول الله ، إن لم تدركني يا رسول الله فمن الذي يدركني ، إن لم تأخذ بيدي فمن الذي يأخذ بيدي ، أنا مستجيرٌ بك ، مستغيث بجنابك .. " إلى غير ذلك من الدّعوات الآثمة والكلمات الشركيّة الناقلة من ملة الإسلام، فأين قائل هذه الكلمات من هذه الأحاديث المباركة والنصح العظيم من رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام !! فهو عليه الصلاة والسلام - كما أخبر - لا يملك شيئا ، فالملك بيد الله والأمر لله من قبل ومن بعد، ورسولنا عليه الصلاة والسلام عبْدٌ لا يُعبَد، بل رسولٌ يُطاع ويُتبع ، فالواجب - عباد الله - أن يكون أهل الإسلام على حَيطة وحذر وصيانةٍ لدينهم وتوحيدهم من أن يخالطه الشرك أو أن يدخلوا في ذرائعه ووسائله المفضية إليه ، وهو باب - عباد الله - لابد فيه من حيطةٍ شديدة وحذرٍ بالغ ليسلَم المسلم بإذن الله طالما كان ملتجئا إلى الله مفوضاً أمره إليه معتنياً في هذا المقام أتم العناية.
عباد الله : ولقد تكاثرت في هذا الزمان الدّعايات المغرِضة التي تستهدف خلخلة إيمان الناس وتوحيدهم وصرفهم عن عبادة الله وربطَ قلوبهم بالأسباب لا بمسببها ، فالواجب علينا - عباد الله - أن نرعى للتوحيد مقامه وأن نعرف له شأنه وأن نكون على أشد الحذر من الشرك . وتأملوا هنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في بيان خطورة الشّرك وتسلله للناس ؛ قال صلى الله عليه وسلم : (( لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ )) ، فقال أبو بكر : " وَهَلْ الشِّرْكُ إِلاَّ مَنْ جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَر ؟ " فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلهُ وَكَثِيره ؟ )) قَالَ : (( قُلْ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أعْلَم ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَم )) . وهي دعوة - عباد الله - مباركة ينبغي علينا المحافظة عليها والإكثار منها ؛ اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم ، ونعوذ بك اللهم مما لا نعلم .
هذا وصلوا سلموا - رعاكم الله - على الناصح الأمين والرسول الكريم محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾[الأحزاب:56] ، وقال صلى الله عليه وسلم :(( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين ؛ أبى بكر وعمر وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمِّر أعداء الدين ، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمّد صلى الله عليه وسلم ، اللهم عليك بأعداء الدّين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم . اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك وجعل عمله في رضاك ، اللهم وفق جميع ولاة أمر المسلمين لما تحبه وترضاه .
اللهم آتِ نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر ، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله دقه وجله أوله وآخره سره وعلنه ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا ، اللهم اسقنا وأغثنا ، اللهم اسقنا وأغثنا ، اللهم اسقنا وأغثنا ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وزدنا ولا تنقصنا ، وآثرنا ولا تأثر علينا ، اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلا إليك ، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وبصفاتك العليا وبأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت يا من وسعت كل شيء رحمة وعلما أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين ، اللهم إنا نسألك غيثا مغيثا ، هنيئا مريئا ، سحاً طبقا ، نافعا غير ضار ، عاجلاً غير آجل ، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر ، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدم ولا عذاب ولا غرق ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ إله الأولين والآخرين وقيوم السموات والأرضين وخالق الخلق أجمعين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين ؛ صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد معاشر المؤمنين عباد الله : اتقوا الله ، فإن من اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
معاشر المؤمنين : لقد قامت دعوة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم على النصح للعباد وبيان دين الله تبارك وتعالى على التمام والكمال ، لقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم رسولاً أمينا ، ونبياً رحيما ، ومعلِّما مشفقا كما قال الله عز وجل : ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[التوبة:128] ، فبلَّغ صلوات الله وسلامه عليه البلاغ المبين ، وما ترك خيراً إلا دلّ الأمة عليه ولا شراً إلا حذّرها منه ، ترك أمته على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك ، أقام الحجة وأبان المحجة وأوضح السبيل - صلواتُ الله وسلامه وبركاته عليه - .
عباد الله: ولما كان مقام التوحيد أعظم المقامات والشّرك أخطرَ الأمور وأعظمها ؛ فهو الذنب الأكبر والجرم الذي لا يُغفر ، لما كان شأن التوحيد كذلك وشأن الشرك كذلك ، كان بيان النبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد أعظم البيان، ونهيه وتحذيره عن الشرك أعظم النهي - صلوات الله وسلامه عليه - ، فهو صلى الله عليه وسلم أبان التوحيد وحمى حماه ، وأوضح الشرك وحذر منه وسدّ ذرائعه نصحاً للأمة وشفقة على العباد.
عباد الله: وعندما نتتبع سنة نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم نجد الأحاديث المتكاثرة والنصوص المتضافرة في بيان التوحيد وتعلية شأنه ، والتحذير من الشرك وبيان خطورته وسد الذرائع الموصلة إليه.
عباد الله: ومن نصح النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام الخطير نهيه الأمة عن الغلو في الدين كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث بن عباس رضي الله عنهما: ((إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ)) .
ونهى عليه الصلاة والسلام عن التنطع كما في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ )) ، والتنطع عباد الله أوّلُ سهام الغلو .
ونهي عليه الصلاة والسلام عن إطرائه والمبالغة في مدحه، فقال صلى الله عليه وسلم : ((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ فَقُولُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ )) ، ولما كان عليه الصلاة والسلام قد كَمَّل مقام العبودية أتمَّ تكميل كره المِدْحة - عليه الصلاة والسلام - ، كره أن يُمدح تتميماً لهذا المقام وصيانة للأمة من التمادي في المدح والغلو ، جاء في مسند الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (( أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا ، وَيَا خَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا بِقَوْلِكُمْ وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولُ اللَّهِ ، وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَا رَفَعَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ )) .وقال في رواية (( مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ )) .
عباد الله : ولما كان ما يتعلق بالقبور أخطر ما يكون على الناس في الوقوع في الشرك والانزلاق في منزلقاته كانت الحِيطة وسدّ الذرائع في هذا الباب عن نبينا صلى الله عليه وسلم متكاثرة ، ففي بدء الإسلام نهى - عليه الصلاة والسلام- عن زيارة القبور مطلقاً حمايةً لحمى التوحيد وصيانةً للأمة عن الشّرك ، ثم لما قويَ التوحيد في القلوب شرع ذلك وأباحه وأبان الحكمة منه عليه الصلاة والسلام ، فقال في حديثه الصحيح : ((كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ )) ، وجاءت عنه صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة فيها الاحتياط في هذا الباب وسد الذرائع ومن ذلكم : نهيه عليه الصلاة والسلام أن يُبنى على القبر أو أن يجصّص والحديث في صحيح مسلم ، ونهي عليه الصلاة والسلام أن يصلى إلى القبور صيانة للتوحيد كما قال صلى الله عليه وسلم : (( لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا )) ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم النهي الشديد والوعيد في اتخاذ القبور مساجد بأن تقصد لغرض الصلاة والدّعاء والعبادة وطلب البركة ، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها : لَمَّا نُزِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - أي لما نزل به ملائكة الموت - طَفِقَ يَطْرَحُ خَمِيصَةً لَهُ عَلَى وَجْهِهِ فَإِذَا اغْتَمَّ كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ : ((لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ )) قالت عائشة رضي الله عنها: يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا.
عباد الله: ولما كان تعلق الناس بالأنبياء والصّالحين وحبهم لهم باباً قد يفضي بالناس إلى الغلو وإلى التعلّق بالصالحين وإلى الخلط في باب الشفاعة جاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة صيانة للأمّة في هذا الباب : جاءه رجل وقال: يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم : (( أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ )) فربطه بالعبادة والإخلاص لله جلّ وعلا ، ولما قال له أبو هريرة رضي الله عنه : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ قَالَ : (( أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ )) ؛ فربطهم بكلمة التوحيد عليه الصلاة والسلام ، والحديث في صحيح البخاري ، وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا )) ؛ فجعل نيل شفاعته عليه الصّلاة والسلام مرتبطاً بالإخلاص والبعد عن الشرك . وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الغُلول يوما وعظّم أمره وعظّم شأنه ثم قال عليه الصلاة والسلام: (( لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ يَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ - أي الذهب والفضة - فَيَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَغِثْنِي فَأَقُولُ لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا قَدْ أَبْلَغْتُكَ)) .
تأمّلوا عباد الله هذا النصح العظيم والبيان الوافي من الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ؛ فدعوته صلى الله عليه وسلم كلُّها ربطٌ بالله وبعبادة الله والتوكّل على الله والالتجاء إلى الله ، لا بالتّعلق بالأنبياء أو الصالحين أو غيرهم، فإن النافع الضّار المعطيَ المانع الذي بيده أزمّة الأمور هو الله وحده ، ونبينا عليه الصلاة والسلام وسائر عباد الله ليس لهم من ذلك شيء ، وقد أنزل الله على نبيه ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ﴾[آل عمران:128].
وتأمّلوا - رعاكم الله - في هذا المقام حرص نبينا عليه الصلاة والسلام على هداية عمّه أبى طالب فجاءه عند موته ولما حضرته الوفاة وقال: ((أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ )) ، ومات وهو يقول بل على ملّة عبد المطلب، وحزن عليه الصلاة والسلام وأنزل الله في تسليته ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾[القصص:56].
وتأمّلوا في هذا المقام لما ركب ابن عباس رضي الله عنه مع نبينا صلى الله عليه وسلم على دابته وهو غلام فالتفت عليه صلى الله عليه وسلم وقال : (( يَا غُلَامُ... إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ )) .
ومن حمايته - عليه الصلاة والسلام - لحمى التوحيد وسده لذرائع الشرك : أنه كان في كل مقام إذا سمع ألفاظاً تخدش التوحيد أو تخل بجنابه أو توقع قائلها في الشرك ولو في شرك الألفاظ غضب غضباً شديداً وحذّر من ذلك أشد التحذير ، والنقول في هذا المعنى كثيرة ومن ذلكم : أنه عليه الصلاة والسلام سمع رجلا يقول: ما شاء الله وشئت ، فغضب عليه الصلاة والسلام وقال: ((أَجَعَلْتنِي لِلَّهِ نِدًّا ؟ قُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ )) ، وسمع جاريتان تُنشدان فتقولان : " وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ " فغضب عليه الصلاة والسلام وقال : (( أَمَّا هَذَا فَلَا تَقُولُوهُ ، مَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ )) ، والأحاديث في هذا المعني كثيرة والمقام لا يسع بالبسط بأكثر من هذا.
ألا فلنتقِ الله - عباد الله - ولنتأمل في هذا المقام العظيم - مقام التوحيد - ، ولنحذر أيضا من الشرك الذي هو أخطر الذنوب وأعظمها ، ولنحذر منه ومن وسائله وأسبابه ، ونسأل الله عز وجل أن يحفظ علينا أجمعين إيماننا وتوحيدنا ، وأن يعيذنا من الشرك كله صغيره وكبيره ، وأن يوفقنا لكل خير يحبه ويرضاه ، إنه تبارك وتعالى سميع الدّعاء وهو أهل الرّجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الخطبة الثانية :
الحمد لله عظيم الإحسان ، واسع الفضل والجود والامتنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
عباد الله : اتقوا الله تعالى ، واعلموا أن تقواه عز وجل أساس السعادة وسبيل الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة .
عباد الله : إننا حينما نتأمل في هذه النصوص العظيمة والدلائل المباركة في حماية نبينا صلى الله عليه وسلم لحمى التوحيد وسده لذرائع الشرك والباطل نأسف أشد الأسف ونتألم أشد الألم لواقع أقوام ينتسبون إلى دينه عليه الصلاة والسلام ويخالفونه في هذا المعني أشد المخالفة ، فيستغيثون بغير الله ، ويستنجدون بالأنبياء والأولياء والمقبورين ، ويتعلقون بالقباب والأضرحة والأتربة وغير ذلك ؛ إذا التجئوا التجَئوا إلى غير الله ، وإذا استغاثوا استغَاثوا بغير الله ، وإذا طلبوا الغَوْث طلبوا الغوث من غير الله ، يقول قائلهم : " أغثني يا رسول الله " ، أو يقول : " المدد يا رسول الله ، إن لم تدركني يا رسول الله فمن الذي يدركني ، إن لم تأخذ بيدي فمن الذي يأخذ بيدي ، أنا مستجيرٌ بك ، مستغيث بجنابك .. " إلى غير ذلك من الدّعوات الآثمة والكلمات الشركيّة الناقلة من ملة الإسلام، فأين قائل هذه الكلمات من هذه الأحاديث المباركة والنصح العظيم من رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام !! فهو عليه الصلاة والسلام - كما أخبر - لا يملك شيئا ، فالملك بيد الله والأمر لله من قبل ومن بعد، ورسولنا عليه الصلاة والسلام عبْدٌ لا يُعبَد، بل رسولٌ يُطاع ويُتبع ، فالواجب - عباد الله - أن يكون أهل الإسلام على حَيطة وحذر وصيانةٍ لدينهم وتوحيدهم من أن يخالطه الشرك أو أن يدخلوا في ذرائعه ووسائله المفضية إليه ، وهو باب - عباد الله - لابد فيه من حيطةٍ شديدة وحذرٍ بالغ ليسلَم المسلم بإذن الله طالما كان ملتجئا إلى الله مفوضاً أمره إليه معتنياً في هذا المقام أتم العناية.
عباد الله : ولقد تكاثرت في هذا الزمان الدّعايات المغرِضة التي تستهدف خلخلة إيمان الناس وتوحيدهم وصرفهم عن عبادة الله وربطَ قلوبهم بالأسباب لا بمسببها ، فالواجب علينا - عباد الله - أن نرعى للتوحيد مقامه وأن نعرف له شأنه وأن نكون على أشد الحذر من الشرك . وتأملوا هنا قول النبي صلى الله عليه وسلم في بيان خطورة الشّرك وتسلله للناس ؛ قال صلى الله عليه وسلم : (( لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ )) ، فقال أبو بكر : " وَهَلْ الشِّرْكُ إِلاَّ مَنْ جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَر ؟ " فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ ، لَلشِّرْكُ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى شَيْءٍ إِذَا قُلْتَهُ ذَهَبَ عَنْكَ قَلِيلهُ وَكَثِيره ؟ )) قَالَ : (( قُلْ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أعْلَم ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَم )) . وهي دعوة - عباد الله - مباركة ينبغي علينا المحافظة عليها والإكثار منها ؛ اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم ، ونعوذ بك اللهم مما لا نعلم .
هذا وصلوا سلموا - رعاكم الله - على الناصح الأمين والرسول الكريم محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾[الأحزاب:56] ، وقال صلى الله عليه وسلم :(( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين ؛ أبى بكر وعمر وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين ، ودمِّر أعداء الدين ، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمّد صلى الله عليه وسلم ، اللهم عليك بأعداء الدّين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم . اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك وجعل عمله في رضاك ، اللهم وفق جميع ولاة أمر المسلمين لما تحبه وترضاه .
اللهم آتِ نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى ، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر ، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله دقه وجله أوله وآخره سره وعلنه ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا ، اللهم اسقنا وأغثنا ، اللهم اسقنا وأغثنا ، اللهم اسقنا وأغثنا ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا ، وزدنا ولا تنقصنا ، وآثرنا ولا تأثر علينا ، اللهم رحمتك نرجو فلا تكلنا إلا إليك ، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وبصفاتك العليا وبأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت يا من وسعت كل شيء رحمة وعلما أن تسقينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من اليائسين ، اللهم إنا نسألك غيثا مغيثا ، هنيئا مريئا ، سحاً طبقا ، نافعا غير ضار ، عاجلاً غير آجل ، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر ، اللهم سقيا رحمة لا سقيا هدم ولا عذاب ولا غرق ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .