طريقُ الاستِعْدَادِ لِما بعدَ الْمَوْت
إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديهِ ونشكرُه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ومن يضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ولا مثيلَ لهُ ولا ضدَّ ولا ندَّ له، ولا مَكانَ ولا حَيِّزَ ولا جِهَةَ لَهُ، وأشهَدُ أَنَّ سَيِّدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقُرَّةَ أعيُنِنا محمّدًا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه،صلّى الله وسلّم عليه وعلى كلِّ رسولٍ أرسلَهُ. الصلاةُ والسلامُ عليكَ سيّدي يا رسولَ اللهِ، سيّدي يا حبيبَ اللهِ يا أبا الزَّهراءِ يا أبا القاسِمِ يا محمَّدُ، أدرِكْنا يَا رسولَ اللهِ.
أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ أحبابَ محمَّد، فإنِّي أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ العلِيِّ العَظيم.يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ في كتابِهِ المبينِ: ﴿وَللهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ سورة ءال عمران/ الآيتان 189و 192.
إِخْوَةَ الإِيمان، حَرِيٌّ بِمَنْ مَرَّتْ هذهِ الآياتُ على سَمْعِهِ أو تَلاها بِلِسَانِهِ أَنْ يتفكَّرَ في عظيمِ معنَاهَا تَفَكُّرَ مُتَأَمِّلٍ مُتَدَبِّرٍ، متدبرٍ بوَعْيٍ وخُضُوعٍ، وجدِيرٌ بهِ أَنْ يَسْتَحْضِرَ بَقَلْبِه أنَّ هذَا العالَمَ بأَسْرِهِ العُلْوِيَّ والسفلِيَّ هو مِلْكٌ للهِ عز وجلَّ الذِي خلقَ وقدَّرَ ما يَجْرِي في هَذَا العَالَمِ مِنْ خَيْرٍ وشَرٍّ.
فهوَ سبحانَهُ لَهُ الأمرُ ولَهُ الحُكمُ لا يُسأَلُ عما يَفْعَلُ وهُمْ أيِ العِبادُ يُسْأَلُونَ، وجَديرٌ بهِ معَ ذلكَ أن يتفَكَّرَ في عظيمِ مخلوقاتِ اللهِ كالسَّمَواتِ والأرضِ وَمَا بينَهُما مِنْ حَوادِثَ جَمَّة تَدُلُّ على وُجُودِ اللهِ تباركَ وتعالَى، وكأَنَّ لِسَانَ حَالِها يقولُ: أَنَا مِنْ صُنعِ قَادِرٍ عليمٍ حَكِيمٍ.
قالَ أَبُو العَتَاهِيَةِ:
أَلا إِنَّنا كُلَّنــا بَائِدُ****وَأَيُّ بَنِي ءَادَمٍ خَـالدُ
فَيَا عَجَبًا كَيفَ يُعصَى الإلَهُ أَمْ كَيفَ يَجْحَدُه الجاحِدُ
وفي كُلِّ شَىْءٍ لَهُ ءَايَةٌ**** تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِـدُ
وَفِي كُلِّ تَحْرِيكَةٍ ءَايةٌ ***وَفي كُلِّ تسكينةٍ شاهدُ
فلَوْ نَظَرَ مُتَأَمِّلٌ إلَى السمَاءِ يَجِدُهَا مرفوعَةً بِغَيْرِ عَمَدٍ، ولو نَظَرَ إلى الأرضِ وجدَها مَمْدُودَةً فيهَا ما فِيهَا منَ العِبَرِ التِي تُؤَثِّرُ في نفسِ الخاضِعِ الخاشِعِ فهِيَ سُكنَى الإنسانِ وفيهَا مَعَاشُه، وإلَى باطنِها مَآلُه ثم يَخرُجُ منها يومَ القيامةِ حيثُ الحسابُ والثوابُ والعِقابُ، ثمَّ لو نَظَرَ هذا المتأمِّلُ بعدَ ذلكَ إلى نفسِه لوجدَ فيهَا العَجَبَ العُجابَ فتَرَاهُ يتَكَلَّمُ بلَحْمٍ ويُبْصِرُ بشَحْمٍ ويَتَغَيَّرُ من حالٍ إلى حَاٍل، مِنْ طُفُولَةٍ إلى شبَابٍ بالغٍ أَشُدَّهُ ثم إلَى كُهُولَةٍ وشَيخُوخَة، وترى أنَّ أحوالَ زمانِه أيضًا تتغيرُ فلا تستَقِرُّ على حَالٍ في الغَالِبِ، فتارَةً فَقْرٌ وتارةً غِنى، وتارَةً منصبٌ رفيعٌ وتارةً ذُلٌّ، وتارةً يفرَحُ الْمُحِبُّ وتارَةً يَشْمَتُ الْمُعادِي.
حَرِيٌّ بِكَ أَيُّها الإنسانُ الفَطِنُ إِنْ تَفَكَّرْتَ في هذِهِ الأَحْوَالِ والْمَرَاحِلِ أَنْ تَكُونَ وَقَّافًا عندَ حُدُودِ الشَّريعَةِ وأَنْ لا تَنْخَدِعَ ولا تَغْتَرَّ وأَنْ تَنْظُرَ إلَى مُجْرَيَاتِ الأُمُورِ نَظْرَةَ وَاعٍ مُنْصِفٍ، فَإِنَّ في اخْتِلافِ الليلِ والنَّهارِ وتَوَالِي الْحُقُبِ والدُّهورِ ومَا رَافَقَها مِنْ أَحْداث كَثيرَةٍ وذِكْرِيَاتٍ كَبيرَةٍ سَطَّرَهَا التَّاريخُ في سِجِلاَّتِهِ الغَائِرَةِ فِي قَلْبِ الماضِي مِنْ هَلاكِ فَراعِنَة وكَسْرِ أَكَاسِرَة وفَوَاتِ قَيَاصِرَة فَدُكَّتْ وتَمَرَّغَتْ في التُّرابِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبابِ.
فَمَا يُغْنِي المالُ وَالْمَتَاعُ، ومَا تَدْفَعُ الجُيوشُ والقِلاعُ، ومَا تَمْنَعُ البُروجُ والصُّروحُ مَنْ نَزَلَ بساحَتِهِ الموتُ وَهُوَ مُكِبٌّ علَى مَا يُسخِطُ اللهَ تبارَكَ وتعالَى.
وبِعَكْسِ ذلكَ فَمَا يُضيرُ فَقْرٌ وَتَعَبٌ، وَمَا تَضُرُّ فَاقَةٌ تَعَرَّضَ لَهَا امرُؤٌ في أيامٍ قلائِلَ ورَحَلَ منها على كامِلِ الإيمانِ ففازَ بِما عِندَ اللهِ، وما عِندَ اللهِ خَيْرٌ وأَبْقَى.
روَى الحسَنُ البصرِيُّ رضيَ اللهُ عنهُ أنهُ دَخَلَ على مجلِسِ أحدِ خُلفَاءِ بنِي أُمَيَّةَ وهو يَكادُ يَغْرَقُ فِي فرشِهِ من لُيونَتِها ونعومَتِها فَمَكَثَ عندَهُ قليلاً ثمَّ انصرَفَ، قالَ: ثم جِئْتُهُ مساءً فقِيلَ لِي: الأميرُ مَحمُومٌ، فانصرَفْتُ، ثم جِئْتُ مِنْ غَدٍ والناعيةُ تنعى وفاةَ الأميرِ، فدفنَّاهُ ثُمَّ قُمْنَا علَى قَبْرِهِ، ثم جِيءَ بِجِناَزَةِ مملوكٍ وضِيعٍ بينَ الناسِ وَدُفِنَ بِجَنْبِ الأَميرِ، قالَ: فَلَمْ أَنْصَرِفْ حَتَّى شكَكْتُ أيُّهُما قَبْرُ الأَميرِ، وهُنَا عبرَةٌ لمِنْ يَعْتَبِرُ، فالأميرُ والوزيرُ والغنِيُّ والفقِيرُ، والوضِيعُ والحقِيرُ نِهَايَتُهُمْ جميعًا الموتُ وما وَرَاءَهُمْ دَارَانِ، إِمَّا إلى نَعِيمٍ وإمَّا إلَى جَحِيمٍ.
هُمَا مَحَلانِ مَا للنَّـاسِ غَيْرُهُما فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ مَاذَا أَنْتَ تَختارُ
لا رَيْبَ أَنَّ العَاقِلَ الفَطِنَ يَخْتَارُ الجنَّةَ دارَ النعيمِ وهذا أمرٌ عظيمٌ مُهِمٌّ بل هو أَمْرٌ بَالِغُ الأَهَمِّيَّةِ وإنما يَنْبَغِي أَنْ يَترافَقَ ذلكَ معَ العَمَلِ بالأَسْبَابِ التِي تُوصِلُ إلى جَنَّةٍ عرضُها السمواتُ والأرضُ.
والعمَلُ هو تطبيقُ هذا العِلمِ الشرعِيِّ الذي فيه حَياةُ الإسلامِ فَإِنْ عَمِلتَ بِهَذَا فُزْتَ وَنَجَوْتَ وإلا فَأَنْتَ مُهانٌ وفي هلاكٍ كبيرٍ وخِزْيٍ وَوَيْلٍ، وبُعْدًا لِمَنِ استَهْوَتْهُ الشياطِينُ فكانَ مِنْ أَهلِ النَّارِ، قالَ تعالَى: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾. نَعم إِنَّهُ خِزْيٌ وأَيُّ خِزْيٍ والعِياذُ باللهِ تعالَى.
مِنْ هُنَا فَإِنَّنا نُوجِّهُها دَعوةً صادِقَةً، وَمِنْ بَابِ الشَّفَقَةِ والنَّصيحَةِ إلَى الالتِزَامِ التَّامِّ والتمسُّكِ الكَامِلِ والاعتِصَامِ بِحَبْلِ اللهِ المتِينِ، بالثَّباتِ علَى التَّقوَى التِي هِيَ سبيلُ الفَوْزِ والفَلاحِ ودَرْبُ السَّعَادَةِ والنَّجَاحِ.
اللهمَّ ثَبِّتْنا علَى الإسلامِ وعلِّمْنَا مَا جَهِلْنَا يا أرحَمَ الراحمينَ والحمدُ للهِ رَبِّ العالَمينَ.
هذا وأستَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُم.
الْخُطبةُ الثانيةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَشْكُرُه وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ اللهِ مُحَمَّدٍ. عِبادَ اللَّهِ أُوصِيْ نَفْسِيَ وَإِيَّاكُمْ بِتَقْوَى اللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَاتَّقُوهُ.
وَاعْلَمُوا أَيُّهَا الأَحِبَّةُ أَنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَى نَبِيِّهِ الْكَريِمِ فَقَالَ﴿إنَّ اللَّهَ ومَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَآ أيُّهَا الذينَ ءامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ اللَّـهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ علَى سَيّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:﴿يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾(سُورَةَ الْحَجِّ)،
اللَّـهُمَّ إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعَاءَنَا فَاغْفِرِ اللَّـهُمَّ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا اللَّـهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ اللَّـهُمَّ اجْعَلْنا هُدَاةً مُهْتَدِينَ غَيْرَ ضَالِّينَ وَلاَ مُضِلِّينَ اللَّـهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَءَامِنْ رَوْعَاتِنَا وَاكْفِنَا مَا أَهَمَّنَا وَقِنَا شَرَّ مَا نَتَخَوَّفُ.
عِبادَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغِي، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. اذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوهُ يَزِدْكُمْ، وَاسْتَغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ وَاتَّقُوهُ يَجْعَلْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مَخْرَجًا، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ.