الضعيــف المخيــف !!
( المقال للكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد )
( المقال للكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد )
المهمة سرية للغاية .. والترصد ليلاَ ونهاراَ .. وجيوش جرارة من البشر والمعدات مسخرة طوال الأربعة والعشرون ساعة .. والدقيقة الواحدة تكلفهم الملايين من الدولارات .. ثم المحك والإرث لتلك العادة التي أصبحت مرضاَ يلازم سياسات هؤلاء الحمقى .. حيث تلك الخطوط الحمراء التي تعدوها .. وحيث الخروج عن مسارات الأخلاقيات .. والطعن بجرأة في أسرار ومصائر الناس في كل انحناء العالم .. لقد أدمنوا التجسس وأدمنوا الغور في أسرار الخلائق .. فأصبحت صفة التجسس والتصنت فيهم عادة متمكنة .. وتلك الأجهزة العملاقة لديهم تخزن في ذاكرتها المليارات من المعلومات .. تلك المعلومات القليل منها هام أما جلها فتدخل في مسميات الغث .. والبعض من تلك المعلومات مجرد همسات الفطرة بين زوج وزوجة في بيت من بيوت العالم .. أو حديث الراعي الذي يسايس أغنامه وماشيته في مزرعة من المزارع !! ..
وهم يشتكون الآن من الوفرة الهائلة لتلك المعلومات .. فقد أصبحت المواكبة والمفاحصة والدراسة لتلك المعلومات الكثيرة الوفيرة مشكلة في حد ذاتها حيث لا يقدرون على ملاحقة الأوضاع والأمور ومراقبتها بالقدر الذي يفي بالمطلوب .. تداخلت الأهمية بمقادير هائلة من عاديات الأمور .. وأصبحت المشكلة تثقل الأضابير وتجهد ذاكرات الأجهزة المراقبة .. وتصح فيهم اليوم الحكمة التي تقول ( من راقب الناس مات هماَ وكمداَ وجهداَ ) .. فيا عجباَ لهؤلاء القوم في الظاهر نراهم على قوة ومتانـة .. وفي الباطن تلك أفعالهم توحي وتؤكد مدى ضعفهم وجبنهم وهشاشة مقوماتهم .. إنهم يفتقدون ويفتقرون الثقة كلياَ في أنفسهم .. وقد تكون الأسباب في ذلك هي تلك الضربة المؤلمة المفجعة التي نالتهم على حين غفلة في يوم من الأيام .. والتي لم تكن لديهم يوماَ في الحسبان .. وقد تفاقم مرض التجسس لديهم وهم الآن يشككون في كل شئ في هذا الوجود .. لدرجة أنهم أيضاَ يتجسسون على الحلفاء والأصدقاء .. ولا يثقون في أحد مهما كان ذلك الأحد من قوة التبعية والمعيـة .. بل الأكثر من ذلك أنهم الآن يتجسسون على بعضهم البعض في داخل البيت الواحد .. في الدولة الواحدة .. وقد تلاشت لديهم معالم الحياء والاستحياء كما تلاشت لديهم معالم الخصوصيات والحرمات والأخلاقيات .. ثم أيضاَ تلاشت لديهم مكتسبات ومقدسات ونغمات وفرية الحريات الشخصية .. هلع شديد وخوف وهلوسة وريبة سيطرت على عقول هؤلاء الناس .. وملئت قلوبهم وأدمغتهم حتى النخاع .. فهم لا يستطيعون الفكاك من فوبيـا الإرهاب .. ينامون ويصحون والخوف يشاطر ساحاتهم .. ولجئوا لرحمة التكنولوجيا وأقمار التجسس وأقمار التنصت وأجهزة الترصد والترقب ..
كما لجئوا لمحاصرة الاتصالات والمكالمات .. وكل ذلك لم يغني عنهم عند الحاجة ولم يفيدهم بذاك القدر الذي يستحق الجهد الكبير .. حيث فرد واحد متواضع قابع في خيمة في عمق الصحراء لا يملك من تلك المعدات والتكنولوجيا شيئاَ ومع ذلك يستطيع أن يتخذ قراراَ ويخطو بخطوة تزلزل العالم .. وفي لحظات يستطيع أن يقلب موازين الكبار والصغار ويفشل مخططاتهم .. ويدمر كل علامات الاحتياط والحذر .. وتخيب تلك المجهودات المبذولة في الرقابة والتجسس طوال الساعات والأيام والسنوات .. وعندها تتكشف مدى مهزلة التكنولوجيا ومقدراته الذي لا يقدر التعامل مع عرس البداوة والتواضع .. ففي لحظات قليلة يتضح عدم جدوى تلك المجهودات المكلفة والقاتلة .. والتي تكلف الأموال الطائلة والأنفس في عمليات التجسس والتصنت .. حيث في سويعات قليلة تضيع تلك المجهودات الجبارة الهائلة وتضيع ثمرة المليارات التي أنفقت في الرقابة والاحتياط لتذهب هدراَ وهباءَ .. والعبرة لو كانوا يعقلون ليست في مقدرات التجسس والتصنت والرقابة والأقمار تلك المكلفة .. ولكن العبرة والحكمة في معالجة مسببات الإرهاب .. فلماذا يتطرف الإنسان ويصير إرهابيا إن لم تكن في حوزته قضية عادلة يريد تسويتها .. وتلك المليارات التي ينفقونها في أعمال التجسس والاحتياط بدلاَ منها لو تراجعوا وأنصفوا في قضايا العالم لأسكتوا الإرهاب في شهور قليلة وبأقل المجهودات والتكاليف .. وقد دامت تلك الحروب لسنوات وما زالت في أوجها دون أن يكون هناك خاسر أو كاسب .. والمحصلة حتى الآن تؤكد الجانب الخاسر هو الذي ينفق الملايين ليلاَ ونهاراَ ولا ينام باطمئنان .. ولا يجد راحة البال التي تذهب الروع والهلع .. هؤلاء المتوهمين الذين لا يرون إلا العناد والإصرار في مواصلة حرب لا منتصر فيها لجانب يعرفون جيداَ مواضع الداء ولكنهم يجهلون كلياَ حقيقة الدواء .. وفي نفس الوقت تؤكد المحصلة أن الجانب الآخر هو الجانب ( الضعيف القوي ) وهو المنتصر فقط بقوة التواضع والإرادة والعزيمة والتمسك بحكمة الإخافة والترهيب .. ولا حيلة له غير ذلك .. ومع ذلك مجرد إشارة منه أو تلميحات عرضية تكلف الآخرين المليارات من الدولارات في الدقيقة الواحدة بجانب حالات الاستنفار القصوى التي تكلفهم الكثير والكثير .. ثم تلك المعدات الباهظة المكلفة المسخرة أرضاَ وجواَ وبحراَ .. فهؤلاء الضعفاء قادرون على إرهاق الأعداء الأقوياء بالتخويف والترهيب والتهديد من على البعد متى ما يريدون .. ودون أن يبذلوا حرباَ في ميدان من الميادين .. فيرغمون تلك الدول القوية على السهر ويسلبون النوم من الأعين .. يخلقون مظاهر التخويف والتهديد فيحس الأعداء بعدم الاستقرار والأمن والسلام ثم يهدرون المزيد والمزيد من المقدرات البشرية والمادية الهائلة في أعمال التجسس والترقب .. فالجانب ( الضعيف المخيف ) بطريقة عجيبة يملك زمام الأمور في تحريك المخاوف .. ومجرد التلميح منه بتحركات هنا وهناك أو بإشارات أو بحروف أو برمزيات يكلف الآخرين المليارات في الساعة الواحدة .. فذلك الجانب قوي رغم ضعفه الظاهر .. وسبحان الله الذي يضع سره في أضعف مخلوقاته .
( المقال للكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد )