فتاوى العشر الأواخر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فمن المعلوم أن للعشر الأواخر من رمضان فضيلةً وميزة عن غيرها من أيام الشهر، ففيها أنزل القرآن كما قال تعالى: {إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1].
وليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، وهي ليلة عظيمة قال الله فيها: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 2، 3]. أي: أن العبادة فيها خير من عبادة ألف شهر.
وقد كان النبي " صلى الله عليه وسلم " يتفرغ للعبادة في هذه العشر، فيحيي ليله، ويوقظ أهله، ويشد مئزره، كما قالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره"[1]. وقالت: "كان إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله"[2].
وهذا الاجتهاد كما ذكر الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- شامل لجميع أنواع العبادة من صلاة وقرآن وذكر وصدقة وغيرها، حتى إنه " صلى الله عليه وسلم " كان يعتزل نساءه؛ اشتغالاً بالعبادة. بل إنه -عليه الصلاة والسلام- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان؛ لئلا يصرفه عن عبادة الله وذكره وشكره صارف.
وقد أجاب العلماء على كثير من الأسئلة المتعلقة بهذه العشر، وبينوا ما يخصها من أحكام وسنن وآداب، وهذه بعض فتاوى أهل العلم في ذلك.
أيهما أفضل
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: أيهما أفضل العشر الأواخر من رمضان أم عشر ذي الحجة؟
فأجاب رحمه الله:
أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة. قال ابن القيم: "وإذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب وجده شافيًا كافيًا، فإنه ليس من أيام العمل فيها أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة، وفيها يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم التروية".
وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالي الإحياء، التي كان رسول الله يحييها كلها، وفيها ليلة خير من ألف شهر، فمن أجاب بغير هذا التفضيل لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة.
من أحكام الاعتكاف
سؤال: ما هو الاعتكاف؟ وماذا يفعل المعتكف؟ ماذا عليه أن يمتنع منه؟ وهل يجوز للمرأة الاعتكاف في المسجد الحرام؟ وكيف ذلك؟
أجاب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- فقال:
الاعتكاف عبادة وسنة، وأفضل ما يكون في رمضان، في أي مسجد تقام فيه صلاة الجماعة، كما قال تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].
فلا مانع من الاعتكاف في المسجد الحرام، والمسجد النبوي الشريف، من الرجل والمرأة إذا كان لا يضر بالمصلين، ولا يؤذي أحدًا فلا بأس بذلك.
والذي على المعتكف أن يلزم معتكفه، ويشتغل بذكر الله والعبادة، ولا يخرج إلا لحاجة الإنسان كالبول والغائط ونحو ذلك، أو لحاجة الطعام إذا كان لم يتيسر له من يحضر له الطعام، فيخرج لحاجته، فقد كان النبي يخرج لحاجته.
ولا يجوز للمرأة أن يأتيها زوجها وهي في الاعتكاف، وكذلك المعتكف ليس له أن يأتي زوجته وهو معتكف؛ لأن الله تعالى قال: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187].
والأفضل له ألاَّ يتحدث مع الناس كثيرًا، بل يشتغل بالعبادة والطاعة، لكن لو زاره بعض إخوانه، أو زار المرأة بعض محارمها أو بعض أخواتها في الله وتحدثت معهم أو معهن فلا بأس، وكان النبي يزوره نساؤه في معتكفه، ويتحدث معهن ثم ينصرفن، فدل ذلك على أنه لا حرج في ذلك.
والاعتكاف هو المكث في المسجد لطاعة الله تعالى، سواء كانت المدة كثيرة أو قليلة؛ لأنه لم يرد في ذلك -فيما أعلم- ما يدل على التحديد لا بيوم ولا بيومين، ولا بما هو أكثر من ذلك.
وهو عبادة مشروعة إلا إذا نذره صار واجبًا بالنذر، وهو في حق الرجل والمرأة سواء، ولا يشترط أن يكون معه صوم على الصحيح، فلو اعتكف الرجل أو المرأة وهما مفطران فلا بأس في غير رمضان.
شروط الاعتكاف
سؤال: ما هي شروط الاعتكاف؟ وهل الصيام منها؟ وهل يجوز للمعتكف أن يزور مريضًا، أو يجيب دعوة، أو يقضي حوائج أهله، أو يتبع جنازة، أو يذهب إلى عمل؟
أجابت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء:
يشرع الاعتكاف في مسجد تقام فيه صلاة الجماعة، وإن كان المعتكف ممن تجب عليهم الجمعة، ويتخلل مدة اعتكافه جمعة، فالاعتكاف في مسجد تقام فيه جمعة أفضل، ولا يلزم له الصوم. والسنة ألاّ يزور المعتكف مريضًا أثناء اعتكافه، ولا يجيب دعوة، ولا يقضي حوائج أهله، ولا يشهد جنازة، ولا يذهب إلى عمله خارج المسجد؛ لما ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "السنة على المعتكف ألا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد فيه".
بداية اعتكاف العشر ونهايته
سؤال: إذا أراد شخص أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فمتى يبدأ اعتكافه؟ ومتى ينتهي؟
أجابت اللجنة الدائمة:
روى البخاري ومسلم رحمها الله، عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه". وتنتهي مدة اعتكاف عشر رمضان بغروب شمس آخر يوم منه.
أقسام خروج المعتكف من معتكفه
سؤال: ما هي أقسام خروج المعتكف من معتكفه؟
أجاب سماحة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
خروج المعتكف من معتكفه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون خروجًا لما ينافي الاعتكاف، كما لو خرج ليجامع أهله، أو خرج ليبيع ويشتري، وما أشبه ذلك مما هو مضاد للاعتكاف ومنافٍ له، فهذا الخروج لا يجوز وهو مبطل للاعتكاف، سواء شرطه أم لم يشترطه.
ومعنى قولنا: (لا يجوز) أنه إذا وقع في الاعتكاف أبطله، وعلى هذا فإن كان الاعتكاف تطوعًا وليس بواجب بنذر، فإنه إذا خرج لا يأثم؛ لأن قطع النفل ليس فيه إثم، ولكنه يبطل اعتكافه، فلا يبنى على ما سبق.
القسم الثاني: أن يخرج لأمر لا بد له منه، وهو أمر مستمر، كالخروج لقضاء الحاجة إذا لم يكن في المسجد ما يقضي به حاجته، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا بد منها، وهي أمور مطردة مستمرة، فهذا خروج له أن يفعله، سواء اشترط ذلك أم لا يشترطه؛ لأنه وإن لم يشترط في اللفظ فهو مشترط في العادة، فإن كل أحدٍ يعرف أن سيخرج لهذه الأمور.
القسم الثالث: ما لا ينافي الاعتكاف، ولكنه له منه بد، مثل الخروج لتشييع جنازة، أو لعيادة مريض، أو لزيارة قريب، وما أشبه ذلك مما هو طاعة، ولكنه له منه بد، فهذا يقول أهل العلم: إن اشتراطه في ابتداء اعتكافه، فإنه يفعله، وإن لم يشترطه فإنه لا يفعله.
النية تكفي
سؤال: إذا نذر الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة، فهل يكره الوفاء بنذره؟
أجاب سماحة الشيخ عبد الرحمن السَّعدي رحمه الله بقوله:
إن كان يحتاج إلى شد رحل فلا يجوز، كما صح في الحديث: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد".
فكل موضع مسجد أو غيره عينه لعبادة -اعتكاف أو غيره- وهو يحتاج إلى شد رحل فإنه لا يجوز، وإن كان بعض الأصحاب كالموفّق وغيره أجاز ذلك.
فالذي عليه المحققون هو ما دل عليه الحديث في المنع، وإن كان لا يحتاج إلى شد رحل، فإن كان الذي عينه تقام فيه الجمعة، وهو يتخلل اعتكافه جمعة، لم يعتكف في مسجد لا تقام فيه الجمعة؛ لأنه يأتي بأقل مما وجب عليه، وإن كان المسجدان سواء في إقامة الجمعة أو عدمها، فهو مخير، إن شاء وفّى بما نذره، وإن شاء في الآخر، كما ذكر هذا الأصحاب رحمهم الله تعالى.
الاتصال بالهاتف
سؤال: هل يجوز للمعتكف الاتصال بالهاتف لقضاء حوائج المسلمين؟
أجاب الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
نعم، يجوز للمعتكف أن يتصل بالهاتف لقضاء بعض حوائج المسلمين إذا كان الهاتف في المسجد الذي هو معتكف فيه؛ لأنه لم يخرج من المسجد، أما إذا كان خارج المسجد، فلا يخرج لذلك.
استعمال حبوب منع الحيض
سؤال: إذا كان المرأة يأتيها الحيض في العشر الأواخر من رمضان، فهل يجوز لها أن تستعمل حبوب منع الحيض لتتمكن من أداء العبادة في هذه الأيام الفاضلة؟
أجاب سماحة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله:
لا نرى أنها تستعمل هذه الحبوب لتعينها على طاعة الله؛ لأن الحيض الذي يخرج شيء كتبه الله على بنات آدم.
وقد دخل النبي على عائشة، وهي معه في حجة الوداع وقد أحرمت بالعمرة، فأتاها الحيض قبل أن تصل إلى مكة، فدخل عليها وهي تبكي.
فقال "ما يبكيك؟" فأخبرته أنها حاضت.
فقال لها: "إن هذا شيء قد كتبه الله على بنات آدم".
فالحيض ليس منها، فإذا جاءها في العشر الأواخر فلتقنع بما قدر الله لها، ولا تستعمل هذه الحبوب. وقد بلغني ممن أثق به من الأطباء أن هذه الحبوب ضارة في الرحم، وفي الدم، وربما تكون سببًا لتشويه الجنين إذا حصل لها جنين؛ فلذلك نرى تجنبها، وإذا حصل لها الحيض وتركت الصلاة والصيام فهذا ليس بيدها بل بقدر الله.
إحياء ليلة القدر
سؤال: كيف يكون إحياء ليلة القدر؟ أبالصلاة أم بقراءة القرآن والسيرة النبوية والوعظ والإرشاد والاحتفال لذلك في المسجد؟
أجابت اللجنة الدائمة للإفتاء:
أولاً: كان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر من رمضان ما لا يجتهد في غيرها بالصلاة والقراءة والدعاء.
ثانيًا: حث النبي على قيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا؛ فعن أبي هريرة عن النبي أنه قال: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"[3]. وهذا الحديث يدل على مشروعية إحيائها بالقيام.
ثالثًا: من أفضل الأدعية التي تقال في ليلة القدر ما علّمه النبي عائشة -رضي الله عنها- التي قالت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أيُّ ليلةٍ ليلةُ القدر ما أقول فيها؟
قال: "قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفو عني"[4].
رابعًا: أما تخصيص ليلة من رمضان بأنها ليلة القدر فهذا يحتاج إلى دليل يعينها دون غيرها، ولكن أوتار العشر الأواخر أحرى من غيرها، والليلة السابعة والعشرون هي أحرى الليالي بليلة القدر؛ لما جاء في ذلك من الأحاديث الدالة على ما ذكرنا.
خامسًا: وأما البدع فغير جائزة، لا في رمضان ولا في غيره، فقد ثبت عن رسول الله أنه قال: "من أحدث في أمرنا هذا ليس منه فهو رد"[5].
فما يفعل في بعض ليالي رمضان من الاحتفالات لا نعلم له أصلاً، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وبالله التوفيق.
تحديد ليلة القدر
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن ليلة القدر؟
فأجاب رحمه الله:
ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، هكذا صح عن النبي أنه قال: "هي في العشر الأواخر من رمضان". وتكون في الوتر منها.
لكن الوتر يكون باعتبار الماضي، فتطلب ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين، وليلة خمس وعشرين، وليلة سبع وعشرين، وليلة تسع وعشرين.
ويكون باعتبار ما بقي، كما قال النبي : "لتاسعة تبقى، لسابعة تبقى، لخامسة تبقى، لثالثة تبقى".
فعلى هذا إذا كان الشهر ثلاثين يكون ذلك ليالي الأشفاع، وتكون الاثنين وعشرين تاسعة تبقى وليلة أربع وعشرين سابعة تبقى، وهكذا فسّره أبو سعيد الخدري في الحديث الصحيح.
وإن كان الشهر تسعًا وعشرين، كان التاريخ بالباقي كالتاريخ الماضي، وإذا كان الأمر هكذا فينبغي أن يتحراها المؤمن في العشر الأواخر جميعه[6].
[1]رواه مسلم.[2]متفق عليه.[3]رواه الجماعة إلا ابن ماجه.[4]رواه الترمذي وصححه.[5]متفق عليه.[6] موقع وذكّر