ليلة القدر إنّ من سنن الله -تعالى- في الكون أن يختار ما يُريد، ومن ذلك أنّه اختار من الأشهر كلّها شهر رمضان المبارك، ومن بين أيّامه العشر الأواخر منه، وخصّ ليلةً منه بفضلٍ ومنزلةٍ عظيمةٍ، وهي ليلة القدر، ومن الجدير بالذكر أنّه لم يُعلم وقتها بالتحديد، وقد كان للعلماء في ذلك أكثر من أربعين قولٍ مختلفٍ، ويُعزى ذلك إلى اختلاف الأحاديث الواردة عن الرسول محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- حول وقتها، وكذلك تباين آثار الصحابة -رضي الله عنها- حول موعدها على وجه التحديد، وإنّ الخير يكمن في عدم معرفة وقتها بالتحديد؛ فذلك مدعاةٌ للإنسان بأن يجتهد في العشر الأوخر كلّها، فالصادق هو الذي يتعب في عشر ليالٍ ليُدرك فضل وأجر ليلةٍ واحدةٍ، والمُتقاعس هو من يتثاقل عن ذلك، ويرغب في معرفة اليوم الوحيد الذي يجدر به الاجتهاد فيه في أداء العبادة، وعليه فإنّ من يجتهد في العشر كاملةً ينال الأجر العظيم، فالأجر يزداد بزيادة العمل، أمّا بالنسبة لتسميتها بليلة القدر فيرجع ذلك إلى عدّة أسباب، أولها أنّ الله -عزّ وجلّ- قدّر فيها أرزاق العباد وأقدارهم لعامٍ قادمٍ، وممّا يدلّ على ذلك قول الله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ*فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ)،[١] وثانيها أنّ الله -عزّ وجلّ- أنزل فيها القرآن العظيم، وهو أعظم الكتب منزلةً وقدراً، وثالثها أنّ الله -تعالى- أعدّ لمُحييها على الوجه الذي يرضاه رفعة القدر والسعادة.[٢] فضل ليلة القدر خصّ الله -عزّ وجلّ- ليلة القدر بفضائلٍ عديدةٍ، منها:[٣][٤] جعل الله -تعالى- ليلة القدر ليلةً مباركةً، وما يدلّ على ذلك قوله في مُحكم كتابه الكريم: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ)،[٥] ويُقصد ببركة ليلة القدر أنّ فيها الكثير من الفضل، والخير، والثواب. أنزل الله -تعالى- القرآن العظيم في ليلة القدر، حيث قال: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).[٦] تننزّل الملائكة إلى الأرض في ليلة القدر بالرحمة والخير العظيم، وما يدلّ على ذلك قول الله تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ).[٧] وعد الله -تعالى- من قامها إيماناً واحتساباً بمغفرة ما تقدّم من ذنوبه. جعل الله -تعالى- ليلة القدر ليلة سلام، وذلك لنزول الملائكة، وعموم الخير والبركة فيها، وكذلك لسلام الإنسان من العذاب والعقاب؛ بسبب تقرّبه إلى الله -تعالى- بعمله الصالح، حيث قال الله تعالى: (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ).[٨] يعدّ العمل في ليلة القدر خيراً من العمل في ألف شهرٍ، وما يدلّ على ذلك قول الرسول محمّد صلّى الله عليه وسلّم: (أتاكم شهرُ رمضانَ، شهرٌ مبارَكٌ، فرض اللهُ عليكم صيامَه، تفتحُ فيه أبوابُ الجنَّةِ، و تُغلَق فيه أبوابُ الجحيم، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطينِ، وفيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألف شهرٍ، من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ).[٩] أنزل الله -تعالى- في ليلة القدر سورةً في مُحكم كتابه الكريم، يتلوها المسلمون إلى يوم يُبعثون. ما يُستحبّ فعله ليلة القدر يجدر بالمسلم الحرص على تحرّي ليلة القدر، والقيام بما سُنّ فيها من أعمالٍ ابتغاء وجه الله تعالى؛ حتى ينال الأجر العظيم، ومن الأمور التي يُستحبّ فعلها ليلة القدر:[١٠] الاعتكاف: فقد ورد أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وفي العام الذي تُوفّي فيه كان قد اعتكف العشر الوسطى والعشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، ويُقصد باعتكاف النبي -صلّى الله عليه وسلّم- تفرّغه للعبادة، وتخلّيه عن كثيرٍ من المُباحات؛ حتى يتمّ أُنسه بالله تعالى، ويُحقّق لذّة مناجاته، وكان يخلو بنفسه، فلا يختلط بالناس والأصحاب عند اعتكافه. القيام: ويُقصد بذلك إحياء ليلة القدر بالصلاة فيها، والتهجّد، وحريّ بالمسلم أن يقوم بذلك مُصدّقاً لما أعدّ الله -تعالى- لقائمها من الأجر والثواب، واحتساباً لذلك، لا طلباً للرياء ولا السُّمعة. الدعاء: حيث إنّ أفضل الدعاء ما أوصى به النبي صلّى الله عليه وسلّم، عندما سألته عائشة -رضي الله عنها- عن أفضل الدعاء، فقال: (اللهمَّ إنك عفوٌ تحبُّ العفوَ فاعفُ عني)،[١١] واسم الله العفوّ يعني أنّه الماحي للذنوب، والمُتجاوز عن السيئات، ويُستدلّ على أنّ الله -تعالى- لم يُسمّ نفسه به إلّا لأنّه يُحبّ أن يعفو عن عباده، ويُقابل عفوهم عن بعضهم البعض بعفوه عنهم. إيقاظ الأهل للصلاة: فقد صحّ عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه كان يجتهد في أداء العبادات، ويسهر للطاعة، ويُوقظ أهله للصلاة، وقد رغّب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أن يُوقظ أحد الزوجين الآخر للصلاة والتهجّد، حتى وإن لزم الأمر نضح الماء على الوجه. أداء الصلوات المفروضة في المساجد: وإنّ أقلّ ما في ذلك أداء صلاة المغرب، وصلاة العشاء، وصلاة الفجر في المساجد جماعةً. علامات ليلة القدر ورد وصف ليلة القدر في السنة النبوية الشريفة؛ ليتمكّن المسلم من تحرّيها، وقد بيّن الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- عدداً من علاماتها، ومنها:[٤][١٢] طلوع الشمس صبيحة ليلة القدر دون شعاعٍ. انشراح صدر المؤمن، وطمأنينته في ليلة القدر بشكلٍ يفوق الليالي الأخرى. شعور المسلم بلذّة القيام في ليلة القدر بشكلٍ أكثر من غيرها. قوّة النور في ليلة القدر. لُطف الجو فيها، فلا رياح ولا عواصف. رؤية الليلة في المنام، كما كان يحصل مع بعض الصحابة رضي الله عنهم