شرع الإسلام العديد من العبادات، وكلّ عبادةٍ شرعها فيها الكثير من الحكم، منها ما يدركه الإنسان بعقله ومنها ما لا يدركه، وهذه العبادات إذا أداها الإنسان على وجهها المشروع كان لها الأثر في نفسه، ويختلف ذلك الأثر من إنسانٍ إلى آخرٍ باختلاف صدق توجّهه إلى ربه، واستجماع خواطره واستحضار علاقته بخالقه، والغاية الكبرى من تشريع الإسلام للعبادات هي تزكية النفس والارتقاء بها إلى المنازل العُليا، فالإسلام ينظر إلى الإنسان على أنّه كائنٌ يجمع ما بين الطّهر الملائكي والشوائب الحيوانية، وأعطاه الله العقل والإرادة والتمييز، وميّزه بها، فإمّا أن يسير بطريق الشقاء والكدر، وإمّا أن يستغلّ ما ميّزه الله به فيسعد في الدارين، والصيام هو الإمساك المطلق عن الشهوات جميعاً لمدة شهرٍ كاملٍ، والصيام ليس فيه شيءٌ يظهر على الجوارح، ولكن أثره يظهر في النفس؛ إذ يربّي النفس على الإرادة، ويزيل كلّ ما فيها من الشهوات، ويعينها على التحكّم في ذاتها، ويعدّ الصوم بمثابة الامتحان الذي يؤديه المسلم كل سنةٍ مرةً واحدةً، والنجاح فيه يتمثل بأدائه على الوجه المشروع، أمّا فيما يتعلّق بدرجة النجاح المتعلقة بهذا الامتحان فلا يعلمها إلّا الله لتوقفها على أمورٍ معينةٍ؛ كالإخلاص مثلاً، ولذلك قال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه عن ربه عزّ وجلّ: (الصَّومُ لي وأنا أجزي بِهِ)،[١] وقد شُرع الصوم في جميع الشرائع، مع اختلاف هيئته واتفاق حكمته، ويشمل الصوم أموراً تتعدّى الإمساك عن شهوة البطن؛ كالإمساك عن شهوات اللسان، من الكذب والغيبة والنميمة، وبه تطمئن النفس ويكون لها اتصالاً مع الله، وتدوم العبادة لله وطاعته طول النهار، ويؤثر أيضاً على العبادات الأخرى؛ كالصلاة، حيث يلتزم المسلم بها على أوقاتها.[٢] مكانة الصيام وفضله يعدّ الصيام ركناً من أركان الإسلام الخمسة، فقد روى عبد الله بن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: (بُنِي الإسلامُ على خمسٍ: شَهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ وأنَّ محمداً رسولُ اللهِ، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، والحجِّ، وصومِ رمضانَ)،[٣] وللصيام في رمضان العديد من الفضائل، وفيما يأتي بيانٌ لبعضها بشكلٍ مفصّل:[٤] من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه، وذلك فيما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (مَن صامَ رمضانَ إيماناً واحتساباً، غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ)،[٥] والمقصود بالإيمان هو التصديق الجازم بفرضيته ووجوب الصوم فيه، واحتسابه لله، بمعنى صومه ابتغاء الأجر والثواب من الله تعالى. إذا دخل رمضان فُتحت أبواب الجنان وأُغلقت أبواب النيران، وهذه العلامة يشعر بها أهل السماء والمؤمنون الصادقون من أهل الأرض، وفي ذلك دلالةٌ على كثرة الطاعات وقلّة المعاصي والمنكرات وفي هذا تشجيع لهم على الاستزادة من القيام بالخير والطاعات، ودعوة إلى تعظيم هذا الشهر الفضيل. خصّ الله شهر رمضان بأنّ الشياطين تصفّد فيه، فلا يقومون بإيذاء العباد وإغوائهم، ولا يصلون إلى ما يصلون إليه في غير أيام رمضان، ولذلك يكثر الخير عند الناس في أيام رمضان ما لا يكون في غيره من الشهور، وكلّ ما يصدر عن الناس من المعاصي لا يكون إلّا من أهوائهم وشهواتهم، وكلّما كان التزام المسلم بآداب الصيام أكبر كان تأثير الشياطين عليه أقلّ. فيه ليلةٌ هي من أعظم الليالي وأشرفها عند الله وهي ليلة القدر، ففيها أنزل الله تعالى القرآن الكريم، وثواب العمل فيها يُضاعف إلى ثواب ألف شهرٍ، ويغفر الله لمن قامها ما تقدّم من ذنبه. من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه. الحكمة من مشروعية الصيام شرع الله -تعالى- لعباده صيام رمضان من أجل تحقيق التقوى، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)،[٦] وتقوى الله إنّما يكون بالحرص على فعل كلّ ما أمر به واجتناب ما نهى عنه، فالصيام يربّي النفس على ترك بعض المباحات لفترةٍ محددةٍ، فإذا كان الصيام لترك المباحات فإن ترك الحرام أولى من ذلك، وهو كالمدرسة التي يجب أن يتعلّم بها الطالب ما ينفعه، والمسلم ينبغي عليه أن يخرج من رمضان وقد تعوّد على القيام بجميع ما كان يقصّر في أدائه من الواجبات، ويترك ما كان يفعله من المحرّمات، ويعزم في قرارة نفسه على التوبة منها وعدم العودة إليها، وهو ما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (مَن لَم يدَع قَولَ الزُّورِ والعمَلَ بِه والجَهلَ، فليسَ للَّهِ حاجَةٌ أن يدَعَ طعامَه وشرابَهُ)،[٧] فالصوم في حقيقته لم يشرع من أجل الامتناع عن الطعام والشراب، وإنّما لتحقيق التقوى، فقول الزور هو الكذب، والجهل هو السّفه ويدخل فيه جميع المعاصي، وفي الحديث تنبيه إلى أنّ الصائم ينبغي أن يتأكّد من تركه للذنوب والمعاصي أثناء صيامه، حيث إنّ هذه الذنوب تجرح الصيام وتؤثر في الأجر المتحصّل منه، ويتضمن التقوى حسن التعامل مع الآخرين، فيدفع صاحبه إلى الالتزام بمكارم الأخلاق، وتجنّت المذموم منها، وهو الأثر الذي يظهر على الصائم، قال رسول الله: (وإذا كان يومُ صومِ أحدِكُم فلا يَرْفُثْ ولا يَصْخَبْ، فإنْ سابَّه أحدٌ أو قاتَلَهُ فلْيقلْ: إنِّي امْرُؤٌ صائمٌ)،[٨] والرفث هو الكلام البذيء، أمّ الصخب فهو رفع الصوت عند الغضب ونحوه