عرف العرب من قبل الإسلام أشهر السنة، وحدّدوها وعرّفوا كلّ واحدٍ منها باسمٍ معيّنٍ مشتقّ من طبيعة الشّهر ومجرياته، بعد أن كان الخلاف بين القبائل على أسماء الأشهر وتحديدها؛ ممّا أدّى إلى اختلاف تحديد الحجّ وأشهره، وذلك ما استدعى زعماء القبائل وساداتها إلى الاجتماع لتحديد أسماء الأشهر، وأشهر السّنة الهجريّة تقويم قمريّ، يعتمد على القمر وحركته في تحديدها، وأمّا كَوْن السّنة التي تضمّ تلك الأشهر سنة هجريّة؛ فذلك لارتباطها بالهجرة النبويّة، فالتقويم الهجريّ يُؤرّخ استناداً إلى هجرة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- إلى المدينة المنورة وما مرّ عليها من سنواتٍ، وقد بدأ اعتمادها للتأريخ في خلافة عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، سنة سبعة عشر للهجرة.[١] ومن بين أشهر السّنة الهجريّة: شهر رمضان؛ الذي يعدّ من أعظم الشهور عند المسلمين؛ لتعلّقه بعبادةٍ عظيمةٍ، وفريضةٍ جليلةٍ، ألا وهي عبادة الصوم، وقد جاء في قول الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)،[٢] وقد سمّت العرب شهر رمضان بهذا الاسم؛ من رمضاء الحرّ، وشدّة الشّمس، وحرارتها وقت تسميته،[١] وفي هذا المقال سيتم الحديث عن شهر رمضان: صيامه، وحكمه، والحكمة التي من أجلها يصومه المسلمون. صوم رمضان وحكمه تعريف الصوم الصوم في اللغة من الجذر اللغوي صوم، وهو أصلٌ واحدٌ دالٌّ على الإمساك والرّكود، وتتعدّد أوجهه؛ فمنه: الصوم عن الكلام، ومن ذلك قول الله -تعالى- لمريم عليها السلام: (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا)،[٣] ومنه: صوم الرّياح؛ أي ركودها، ومنه كذلك: عبادة الصوم؛ وهي الإمساك عن المفطّرات.[٤] والصيام في الاصطلاح متوافق مع معناه اللغوي؛ إذ فيه معنى الإمساك، فقد عرّف علماء الفقه الصيام بأنّه: الإمساك عن الطعام والشراب وسائر المفطّرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس،[٥] وقد جاء في قول الله -تعالى- من سورة البقرة: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ).[٦] حكم صيام رمضان صوم رمضان فرض على كلّ مسلمٍ مكلّفٍ قادرٍ، وقد ثبتت فرضيّته في نصوصٍ كثيرةٍ من القرآن الكريم والسّنة الشّريفة، وهو ركن من أركان الإسلام الخمسة التي بُني الإسلام عليها، كما جاء عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (بُنِي الإسلامُ على خمسٍ: شَهادةِ أن لا إلهَ إلّا اللهُ، وأنَّ محمداً رسولُ اللهِ، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزكاةِ، والحجِّ، وصومِ رمضانَ)،[٧] والأمّة مجمعة على كَوْن صيام رمضان فرضاً، وإنّ في جحود فرضيّته كفر؛ لأنّه إنكار لما هو ثابت ومعلوم من الدّين بالضّرورة بشهادة واحتشاد نصوصٍ شرعيّةٍ كثيرةٍ عليه.[٨] الحكمة من صوم المسلمين رمضان قد يتوارد على ذهن كثيرين عن الحكمة من وراء امتناع الإنسان عن الأكل والشّرب وما اعتاده من المتاع لنهارٍ كاملٍ في شهرٍ كاملٍ، ولعلّ ذلك عائد إلى حِكمٍ تشريعيّةٍ جليلةٍ وعديدةٍ يخلّفها الصيام في نفس المسلم الصائم، ويمكن إجمال هذه الحِكم في ما يأتي:[٨] أنّ صيام شهر رمضان وسيلة لتحصيل تقوى الله تعالى، وتحقيقها في النفس، فقد ذكر الله -تعالى- في معرض آيات الصيام أنّ من غاياته تحقيق التقوى في النفوس: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)،[٩] والمسلم مأمور بتقوى الله تعالى، والصيام وسيلة لكسبها وتحقيقها. أنّ صيام شهر رمضان سبيل لشكر الله -تعالى- على النِّعم؛ إذ إنّ الامتناع عن كثيرٍ من النِّعم التي اعتادها الإنسان وألِفها يُشعره بقدرها وأهميِّتها، فيستذكر شكر الله تعالى، وحمده على تلك النِّعم. أنّ في الصيام تهذيبٌ للنفس، وتشذيبٌ لطباعها، فتدرّب على الصبر وغيره من الأخلاق الحسنة. أنّ في الصيام تعزيزٌ لشعور الرحمة في قلوب الصائمين؛ إذ يستشعرون بشعور المساكين والفقراء الذين يكون الحرمان والجوع حالهم الدائم. أنّ في الصيام تحصيلٌ للأجر العظيم، والثواب العميم من الله تعالى، فيغفر لمن صام رمضان مخلصاً نيّته لله ما تقدّم من الذنب وما تأخّر، كما جاء في الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: (مَن صامَ رمضانَ إيماناً واحتساباً، غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ، ومَن قامَ ليلةَ القدرِ إيماناً واحتِساباً غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ من ذنبِهِ).[١٠] أنّ الصيام سببٌ من أسباب دخول الجنة، فقد أعدّ الله -تعالى- للصائمين باباً في الجنة لا يدخله إلا الصائمون؛ تكريماً من الله -تعالى- لهم، ومصداق ذلك ما رواه سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: (إنَّ في الجنَّةِ باباً يُقالُ له: الرَّيَّانُ، يَدخُلُ مِنه الصَّائمونَ يومَ القيامَةِ، لا يَدخُلُ مِنه أَحدٌ غيرُهُم، يُقالُ: أينَ الصَّائمونَ؟ فيَقومونَ لا يَدخُلُ مِنه أَحدٌ غيرُهُم، فإذا دَخَلوا أُغلِقَ، فلن يَدخُلَ مِنه أَحدٌ).[١١] ويوجد غير ذلك الكثير من الحِكم الجليلة والغايات السامية التي يكتسبها المسلم الذي يصوم رمضان مخلصاً النية لله تعالى، متمثِّلاً لأمره ومبتغياً لرضاه وثوابه