ان الحمد لله ، نحمده و نستعينه ، و نستغفره ، و نعوذ بالله
من شرور انفسنا و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له
و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أن محمدا
عبده و رسوله صلى الله عليه و على آله و أصحابه و من تبعهم
بإحسان الى يوم الديـــن ، أما بعد ...
عيون لا تؤمن بقدر الله
د. خالد راتب
أجملُ ما في هذه الحياة أنْ يرضى الإنسانُ بما قسمه الله له، وهذا ما أكَّد عليه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمر به؛ حيث قال: ((يا أبا هريرة، كن وَرِعًا تكن من أعبد الناس، وارضَ بما قَسَمَ الله لك، تكن من أغنى الناس، وأَحِبَّ للمسلمين والمؤمنين ما تُحب لنفسك وأهل بيتك، واكره لَهم ما تكره لنفسِك وأهل بيتك، تكن مؤمنًا، وجاور من جاورت بإحسان، تكن مسلمًا، وإياك وكثرة الضحك؛ فإن كَثْرَةَ الضحك فساد القلب))؛ (حديث حسن)؛ انظر: حديث رقم: 7833 في صحيح الجامع.
ولو تأمَّل كلُّ إنسان في نِعَمِ الله، لوجد نفسَه مسبوغًا بنعم لا تُعَدُّ ولا تُحصى؛ قال تعالى: ﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ﴾ [لقمان: 20]، وأسبغ عليكم نِعَمَه؛ أي: أكملها وأَتَمَّها؛ يقول الشيخ الشعراوي: "هذه حقيقةٌ لا يُنكرها أحد، فهل تنكرون أنَّه خلقكم، وخلق لكم من أنفسكم أزواجًا منها تتناسلون؟! هل تنكرون أنه خلق السَّمواتِ بما فيها من الكواكب والمجرَّات، وخلق الليلَ فيه منامُكم، والنهار وفيه سعيكم على معايشكم؟! ثُمَّ في أنفسِكم وما خلقه فيكم من الحواسِّ الظاهرة وغير الظاهرة، وجعل لكلٍّ منها مَجالاً ومُهمة تؤديها دون أنْ تشعر أنت بما أودعه الله في جسمك من الآيات والمعجزات، وكل يوم يطلع علينا العلم بجديد من نِعَم الله علينا في أنفسنا، وفي الكون من حولنا، فمعنى ﴿ ظَاهِرَةً ﴾؛ أي: التي ظهرتْ لنا، و﴿ وَبَاطِنَةً ﴾ لَم نصل إليها بعدُ، ومن نِعَم الله علينا ما ندركه، ومنها ما لا ندركه، وقيل: "النعم الظاهرة الإسلام، وما حَسُنَ من خلقك، والباطنة ما ستر عليك من سيِّئ عملك"؛ (تفسير القرطبي).
كل إنسان على وجه الأرض أُعْطِيَ مِنَ النِّعَم ما يكفيه وزيادة، حتى نكاد نَجزم أنَّ الكل قد تساوى في هذه النعم، ولكن رغم ذلك التساوي في النعم نَجد كثيرًا من الناس لا يرضى بما قسمه الله له، فيَظَلُّ ناقمًا حاسدًا حاقدًا، يلعن الزمانَ ويَنْعَى حَظَّه، بل يتمنى أنْ تَزولَ النعم عن أصحابها، وأَنْ تأتِي إليه، وهذا هو عين الحسد.
إن هذه العيون الحاسدة عيون ساخطة على قَدَرِ الله، قد فقدت البصيرةَ وإن تنعَّمت بالإبصار؛ لأنَّها أرادت أنْ تُحاكم الله في كونه، وذلك بعدم رضاها بما قدره - سبحانه - في كونه، وكأنَّها تقول بلسان الحال: "لِمَ يا رب أعطيت فلانًا وحرمتني؟!".
والحسد جريمة وكبيرة؛ لِمَا فيه من اعتراض على قدر الله؛ لذا عَدَّه ابنُ القيم من أركان الكفر؛ يقول ابن القيم: "أركان الكفر أربعة: الكبر، والحسد، والغضب، والشهوة... فإنَّ الحسد في الحقيقة نوعٌ من معاداة الله، فإنه يكره نعمةَ الله على عبده، وقد أحَبَّها الله، وأحب زوالها عنه، والله يكره ذلك، فهو مضاد لله في قضائه وقدره، ومحبته وكراهته، ولذلك كان إبليس عَدُوَّه حقيقةً؛ لأن ذنبَه كان عن كِبْرٍ وحَسَد، فقَلْعُ هاتين الصفتين بمعرفةِ الله وتوحيده، والرضا به وعنه، والإنابة إليه..."؛ (الفوائد لابن القيم).
وابن القيم في كلامِه السابق يُشَخِّص الدَّاءَ، ويضع الدواء، فالحسدُ داء عُضَال، ناتج عن فساد في المعتقد، وهو يَحتاج من الإنسان أن يقترب من الله بمعرفته وتوحيده، وأنَّه - سبحانه - يفعل في مُلكه ما يشاء، لا رادَّ لحُكْمِه، وهذا القرب الإيمانيُّ من الله بالاجتهاد في تَحصيل مُراد الله، وترك الناس وما وُهِبُوا من نعمٍ - يَجعل الإنسانَ مُطمئنًا منشرحَ الصدر؛ لأنَّ الإيمان سيجعله راضيًا، فيصبح القليل في يده كثيرًا، وساعتها لا ينظر إلى مَن هو أعلى منه في الدُّنيا؛ لأنَّ الدُّنيا كلها لا تساوي عند الله جناحَ بعوضة.
وفي الختام، نقول لكل عين حاسدة: إنَّك تأكلين نفسَك بهذه النار المتأججة؛ لأنَّ الحاسِدَ لا يزال في سخط، فيأخذ صفةَ النار التي إذا لم تَجد ما تأكله تأكلُ نفسها، كما يَجب على الحاسد أنْ يَقِفَ مع نفسه وَقْفَةً متأنية، ويسأل نفسَه هذا السؤال: لو كنت أنا مكانَ صاحِبِ النعمة، هل كنت أرضى أن يَحسدها أحد، أو أنْ يتمنى زوالَها عني؟ بالطبع ستكون الإجابة: لا، وألف لا... فلماذا لا تحب لأخيك ما تُحبه لنفسك؟!
شبكة الألوكة