مضمار الصالحين
شائع بن محمد الغبيشي
افتخر النهار علي الليل قائلاً : أنا وقت النشاط و العمل و البناء و النماء بل أنا الحياة على الحقيقة في ساعاتي انتصر جند الله على مر العصور فسائل عني طلائع الفتوح و بشائر النصر و بي أقسم الله في كتابه فقال : { و النهار إذا تجلى } .
اغتر النهار بصمت الليل و سكونه فتمادى في الفخر و حقره قائلاً : أما أنت فزمان الكسل و الخمول و الدعة فأوقاتك تُعمر بالنائمين الخاملين , أنت بيت الذعر و الخوف فبك يفرح اللصوص و أرباب الجرائم .
انتفض الليل من سكونه و نطق قائلاً : أنا زمن السكون و الراحة جعلني الله سكناً و لباساً لعباده , أنا مأوى العُبَّاد و أرباب الإحسان فلهم معي أحاديث و أسمار ، كم فرح بي ألأنبياء و الأتقياء و الصالحون و كم كان سوادي ستراً لمسرى الأنبياء أحرسهم من أعين الأعداء , أسحاري لذة العارفين و سلوة الخائفين و ملاذ المذنبين , أقسم الله بي في القرآن بل سميت بي سورة من سوه ، في ثلثي الأخير ينزل الرب جل وعلا .
طأطأ النهار رأسه خجلاً و حياءً و اتجه إلى الليل يقبل رأسه و يعترف له بالفضل.
إنه الليل مضمار الصالحين فيه يصفُّ أهل الحب الصادق أقدامهم بين يدي سيدهم جل ذكره فيه تكون لذة المناجاة و جميل التضرع و حلاوة الاستغفار : { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} ، و فيه يفرح المخلصون فهو وقتهم الذهبي للمسارة بالعمل .. فيه أزمنة شريفة ، فيه ينزل الرب إلى السماء الدنيا جل وعز ، فتفتح أبواب الرحمات وتجاب الدعوات ، وتقال العثرات
قلت للــيل هل بجوفك ســر عابق بالحديث والأسرار
قال لي : لم ألق في حياتي حديثاً كحديث السمار في الأسحار
[يا ليل كم من توبة فيك رفعت وقبلت يا ليل كم من رقبة فيك أعتقت يا ليل كم من هائم فيك وجد بغيته ياليل كم للمحبين فيك من أسرار وللصادقين فيك من أخبار]
الليل له مع النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه و الصالحين و الأخيار من بعدهم قصص و أخبار يقول عز وجل لرسوله و مصطفاه (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً) فامتثل الحبيب عليه الصلاة والسلام أمر ربه فقام وأطال في القيام ، وبكى وأطال في البكاء .
عن عطاء قال : دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقال عبد الله بن عمير : حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت وقالت : قام ليلة من الليالي فقال : يا عائشة ! ذريني أتعبد لربي قالت : قلت : والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك قالت : فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجره ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض وجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال : يا رسول الله ! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ ! قال : أفلا أكون عبدا شكورا ؟ لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها : { إن في خلق السماوات والأرض } رواه ابن حبان و صححه الألباني .
وصف الله الصالحين من عباده في الليل فقال (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ* وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) فكانت بيوتهم في ظلام الليل مدارس تلاوة وجامعات تربية ، ومعاهد إيمان حتى أن أحدهم يكون في حراسة جيش المسلمين فيأسره سواد الليل فلا يملك نفسه إلا أن يصف قدميه متهجداً لله ، فهذا عباد بن بشر يكون حارساً للجيش في الخلاء فيسحره سكون الليل و هدأة الناس فلا يملك نفسه من أن يصف قدميه لله قائماً و ساجداً يترنم بالقرآن فيبصره العدو و يرسل إليه سهماً و عباد يترنم بسورة الكهف فيصيبه السهم فينزعه و يسترسل في صلاته فتتابعت عليه السهام فيوقظ صاحبه فيقول له سبحان الله أفلا أيقظتني قال كنت في سورة أقرأها فلم أحب أن أقطعها حتى أنفذها و أيم الله لولا أن أضيع ثغراً أمرني رسول الله بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أو أنفذها.
و عن عائشة رضي الله عنها قالت في حديث الهجرة الطويل : (ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون وينظرون إليه وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن ) رواه البخاري
و عن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلن يصلي ما شاء الله حتى إذا كان آخر الليل يعظ أهله يقول : الصلاة الصلاة و يتلوا : { و أمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها } ) رواه أبو داود
قال الحافظ ابن كثير عن ليل عمر : [ كان يصلي بالناس العشاء ثم يدخل بيته ، فلا يزال يصلي إلى الفجر ]
لقد كان الصالحون يتلذذون بالليل و قدومه فلا تسل عن فرحهم إذا ظفروا به لسان حالهم (حبيب جاء على فاقة ) .
قال أبو سليمان الدارني رحمه الله : أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم و لولا الليل ما أحببت الدنيا .
وقال ثابت البناني رحمه الله : ما شيء أجده في قلبي ألذ عندي من قيام الليل .
وقال بعض السلف : إني لأفرح بالليل حين يقبل لما يلّتذ به عيشي وتقر به عيني من مناجاة من أحب وخلوتي بخدمته والتذلل بين يديه .
و قال عمر بن ذر رحمه الله: لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم ونظروا إلى أهل السآمة والغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم من الضجعة والنوم قاموا إلى الله فرحين مستبشرين بما قد وهب لهم من حسن عبادة السهر وطول التهجد فاستقبلوا الليل بأبدانهم وباشروا ظلمته بصفاح وجوههم فانقضى عنهم الليل وما انقضت لذتهم من التلاوة ولا ملت أبدانهم من طول العبادة فأصبح الفريقان وقد ولى عنهم الليل بربح وغبن أصبح هؤلاء قد ملوا النوم والراحة وأصبح هؤلاء متطلعين إلى مجيء الليل للعبادة شتان ما بين الفريقين .
قيل للحسن ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوها فقال لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره .
و قيل لحسان بن سنان رحمه الله ما تشتهي ؟ قال : ليلة بعيدة الطرفين أحيي ما بين طرفيها .
وقال بعض العلماء : لذة المناجاة ليست من الدنيا إنما هي من الجنة أظهرها الله تعالى لأوليائه لا يجدها سواهم.
وقال ابن المنكدر رحمه الله : ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث قيام الليل ولقاء الإخوان والصلاة في الجماعة .
أخي تلك نعمة ولذة ربما حرمنها على مدار العام و من رحمة الله بنا أن بلّغنا شهر رمضان لنتذوق ذلك النعيم فلا أقل من أن نتشبه بأولئك القوم في شهر رمضان لعل الله أن يلحقنا بهم فدونك شهر رمضان ، دونك وقت السحر وقت النزول الإلهي , دونك مضمار الربح فلا تضيع الفرصة فقد كان صلى الله عليه و سلم و أصحابه و الصالحون من بعدهم يبتهلون ليالي شهر رمضان و يشغلونها بأنواع العبادات فدونك مضمار الصالحين .
محبكم : شائع محمد الغبيشي
مشرف تربوي بإدارة التربية و التعليم بمحافظة القنفذة