درس نبوي في التعبير عن الحب
كانت أشبه الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم سمتاً وهدياً، لا تخطي بقيامها قيامه، ولا بقعودها قعوده، ولا بتكفئها إذا مشت مشيته، ولا بحديثها إذا تحدثت حديثه، وكان تعامله صلى الله عليه وسلم معها على أرقى مستوى من العاطفة الأبوية والاحتفاء الكريم·
كان صلى الله عليه وسلم إذا زارته البضعة النبوية قام إليها يتلقاها ورحب بها قائلاً: مرحباً بابنتي ثم أخذ بيدها وقبلها، وأجلسها في مكانه الذي كان جالساً فيه مبالغة في الحفاوة والمحبة والإكرام، وإذا زارها هو قامت إليه ورحبت به وأخذت بيده وقبلته وأجلسته مكانها في صورة غاية في الأدب والاحترام المتبادل، وعلى أجمل ما تكون حفاوة الولد بالوالد· كان هذا الحب الأبوي الدافق من رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة يلتقي بحب الابنة البارة التي تتذوق حبه وتبادله إياه محبة واحتفاء وبراً·.
فلما مرض صلى الله عليه وسلم مرضه الذي توفي فيه أرسل إليها يدعوها إليه فأقبلت تمشي لا تخطي مشيتها مشية أبيها صلى الله عليه وسلم ، فلم يقم صلى الله عليه وسلم كما كان يقوم ولم يتلقاها كما كان يتلقى فإن العافية قد انهزمت في بدنه الشريف وقد أمضه المرض وأنهكته الحمى، وإذا بفاطمة تنكب عليه تقبله وقد كان هو الذي يبادر لتقبيلها، فأجلسها عن يمينه فما كان يستطيع أن يقوم عن مكانه وقد كان يقوم لها عنه· جلست فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطاف بهما أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم فلا تغادر منهن امرأة، فتحدث إليها النبي صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يتحدث ثم أسر إليها وأصاخت إليه، وأزواجه يرقبن هذه النجوى وينظرن أثرها على وجه فاطمة الوضي المنور·
وإذا بفاطمة تتلقى النجوى بتأثر بالغ عرفه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من بكائها الذي لم تستطع أن تغالبه فقد بكت بكاء شديداً، وعجب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يخصها أبوها بالسر من بينهن ثم هي تبكي، وقالت لها عائشة: خصك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسر من بيننا ثم أنت تبكين، ولو علمن ما أسر به لعذرنها ولبادرنها البكاء·
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أسر إليها أخرى وقد رأى بكاءها وتأثرها فما زال يناجيها حتى استنار وجهها وبرق محياها وضحكت بعد تأثر وبكاء· فعجبت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لسرعة تغير انفعال فاطمة من بكاء إلى ضحك، ومن حزن إلى فرح حتى قالت عائشة: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن، قد كنت أظن فاطمة أعقل النساء فإذا هي من النساء (يعني في سرعة تغير انفعالها)، وما علمت عائشة سبب هذا التغير حينئذ ولو علمته لعذرت ولعلمت أن هذا دليل آخر على كمال عقلها وعظيم حبها لأبيها·
فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سارعت عائشة إلى فاطمة تسألها عن السر الذي أضحكها وأبكاها وما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت فاطمة: إني إذا لبذرة (أي مضيعة لا أحفظ السر) ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يلبث النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا يسيرا حتى توفي ولحق بالرفيق الأعلى، فقالت لها عائشة عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتني، فاستجابت فاطمة حينئذ لأن السر قد صار علناً، والخبر صار عياناً، ولم يعد ثمة سر يفشى، وقالت: أما الآن فنعم، أما حين سارني في الأمر الأول فإنه أخبرني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن في كل سنة مرة وأنه قد عارضني به العام مرتين ولا أرى الأجل إلا قد اقترب وأني مقبوض في وجعي هذا فاتقي الله واصبري فإني نعم السلف أنا لك، فبكيت بكائي الذي رأيت، ثم سارني أنني أول أهل بيته لحوقاً به وقال ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة فضحكت لذلك، واستبان حينئذ لعائشة أن بكاء فاطمة وضحكها، وحفظها للسر يوم حفظته، وإخبارها يوم أخبرت به كل ذلك دلالات أخر على فقهها ووفور عقلها، وكمال فضلها وشرفها، فصلوات الله وسلامه وبركاته على سيدة نساء العالمين، البضعة النبوية والجهة المصطفوية، وها هنا وقفات منيرة:
1- نرى هذا التدفق العاطفي، والإعلان بالحب الأبوي، وجمال التعبير عنه بالزيارات المتبادلة، والقبلة الحانية، والكلمة الجميلة المعبرة، والترحيب الحفي، والتلذذ بذكر الأبوة (مرحباً بابنتي)، إن التعبير عن عاطفة الأبوة بهذه الكثافة والوضوح والتنوع يجعل علاقة الأبوة والبنوة في غاية القوة والعافية والجمال، ويدل على صحة نفسية عالية واستواء في المشاعر وارتواء للعواطف·
إن في نفوس الآباء عاطفة أبوة فطرية ولكن يقع التقصير أو الفشل في التعبير عنها، وجعل الأبناء يتذوقون نشوتها ويعيشون دفئها· وقد يعتمد بعض الآباء على دلالة الحال وربما أعلن ذلك قائلاً: أو لا يرون عملي وكدحي أليس كل ذلك من أجلهم ولهم، ولكن الدرس النبوي الأبوي يدلنا على أن التعبير عن الحب وتلبية الحاجات النفسية ليس أدنى من أداء واجبات الأبوة الأخرى ومسئولياتها، وحين يتم ذلك فإنه أكبر عون للأبناء على بر الآباء والإحساس بعظيم حقهم·
2- هناك معنى آخر يصاحب الحب وقوة العاطفة في أبوة النبي صلى الله عليه وسلم وهو الاحترام والاحتفاء بابنته فاطمة، يظهر ذلك في قيامه لها وتلقيها وأخذه بيدها وإجلاسها مكانه، وإظهار هذا كله أمام أزواجه كلهن· إن الذي يحترم ابنته هذا الاحترام هو الذي عاش في بيئة تزدري المرأة بحيث يراوح مصيرها بين الوأد الحسي أو المعنوي { أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ } [النحل: 59]، ولكن هذا النبي العظيم لم يكن يستمد رؤيته من منظور اجتماعي ولكنه يتلقى الوحي من الله لإقامة البشرية على الطريقة السوية والصراط المستقيم، فإذا أبوته درس للبشرية يعلمها أن الأولاد بحاجة إلى الاحترام لبناء شخصياتهم كما هم بحاجة إلى العاطفة لإشباع مشاعرهم وبناء نفسياتهم لتصنع ثم شخصية سوية متكاملة·
3- نلاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضى إلى فاطمة بسر خاص لم يفض به إلى أبي بكر ولا عمر ولا ابن عمه علي ولا زوجاته أمهات المؤمنين، وهو سر يعنيه ويعنيها بالدرجة الأولى·
إن من معاني الأبوة الحقيقية إشعار الأبناء بالأهمية باطلاعهم على هموم الآباء وقضاياهم مما يشعرهم بالقرب والمسئولية ويبني في نفوسهم الثقة والمشاركة، كما أن كتمان الأب لقضاياه وهمومه عن أبنائه يشعرهم بالإقصاء والتهميش· إن هذا الإفضاء إلى فاطمة بهذا السر هو إحدى صور العلاقة الوثيقة الجميلة والرائعة بين الأب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنته فاطمة رضي الله عنها·
4- الأبناء يكبرون ويكبر حبهم معهم وليسوا لعباً يلهى بهم صغاراً ويهملون كباراً· فهذا التعامل من النبي صلى الله عليه وسلم بما فيه من رقة وعاطفة وحنان وحب أبوي غامر كان لفاطمة وهي في الخامسة والعشرين من عمرها زوجة وأم لخمسة أولاد· إننا نغفل أحياناً عن التعبير الواضح بمشاعر الحب الأبوي لأبنائنا وبناتنا الكبار ويشغلنا عن ذلك ترقب مراسم التوقير والاحترام منهم فهل يذكرنا ذلك هذا الدرس النبوي الأبوي·
5- ظهر أثر اختصاص فاطمة بهذا الخبر صلى الله عليه وسلم بتهيئتها للمصاب العظيم الذي ستكون أشد الناس فاجعة به، فالمصاب هو في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الأب العظيم الكريم الحفي المحب، ويا لله لفاطمة وهي تنظر بعينيها إلى محيا رسول الله وهو ينعي إليها نفسه، ويخبرها أنه ميت في مرضه ذلك، وتعلم وهي تنظر إلى صفحة وجهه المبارك أن هذا آخر العهد به في الدنيا·
لقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون هو الذي يخبرها بذلك في حياته ويهيئها لاحتمال المصاب ومواجهة الحدث، فلما توفي صلى الله عليه وسلم كانت فاطمة على الحال الحسنة من الثبات والصبر والاحتساب، فقد كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والموت يتغشاه وهي تقول: واكرب أبتاه، فيغالب النبي سكراته وكربه ليقول لها: ليس على أبيك كرب بعد اليوم، فلما مات قالت: يا أبتاه أجاب ربي دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه، ولما دفن ما زادت على أن قالت: أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب، ولقد علمت - رضي الله عنها - أنها ما طابت ولن تطيب لولا أن هذه سنته التي دل عليها أمته، فصلوات الله وسلامه وبركاته على أهل ذلك البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً·
بقلم: الشيخ د· عبد الوهاب بن ناصر الطريري