رأي في قواعد رسم اللغة العربية
(مقدمة توثيقية)
حضرةَ صاحب المعالي السيد العلامة الجليل، رئيس مجمع اللغة العربية.
أذكَرني ما أنهاه إليَّ العلامة الدكتور "منصور فهمي" كاتبُ سرِّ المجمع من عزم بعض زملائنا الأعلام على إلقاء محاضرةٍ عامَّة في المؤتمر الثاني والعشرين (1955 - 1956م)، في تيسير قواعد رسم الكتابة، ورغبتِهم في أن يشاركَهم الأعضاء المراسلون بإبداء الرَّأي في شأن هذا التيسير.
مشاركتي القديمة في درس هذا الموضوع في "المؤتمر الثقافي العربي الأول"، الذي عقدتْه "جامعة الدول العربية" (سنة 1947م) في "بيت مري" في لبنان، ثم في اللجنة التي ألفها "المجمع العلمي العراقي" من بعض أعضائه العاملين، وعهد إليها أن تدرس ما بعث به "مجمع اللغة العربية" من مقرراته أو مقترحاته في ذلك.
وأذكر أن رئاسة "مكتب المؤتمر الثقافي العربي" هذا كانت قد عرَضتْ على "لجنة القواعد واللغة" التي شرفتُ برئاستِها يومئذٍ "لائحةً" وضعتْها لجنة وزارية بالقاهرة في وسائل تيسير قواعد رسم الكتابة، لترى رأيها فيها، فناقشتها طويلاً، ثم أمضتْها بعد أن اطمأنَّت إلى أن ما تضمنته من قواعد سليمة يحقق التطابق بين الكتابة والنطق بطريقة مطَّرِدة، خالية من الخلاف، بريئة من التعقيد.
ومع أن ما أقرَّته اللجنة من بعض هذه القواعد الجديدة، وهو موضوع رسم الهمزة، كان دون ما أطمح إليه من التيسير، فقد وقفت "اللجنة الثقافية" في "أمانة جامعة الدول العربية" منها موقف الحَذِر المستأنِي، واتَّخذت قرارًا بأنها مجرَّد عَرْض، وأنها ترى أن الزمن غير صالح لتنفيذها حتى تُعرَضَ على الهيئات الرسمية؛ كالمجاميع العلمية واللغوية ونحوها، لإبداء الرأي فيها، وذلك أخذًا بالحيطة، ومراعاةً لبعض الأحوال في الظاهر.
وإني لأحْمَدُ مجمع اللغة العربية أن عاد فأَوْلَى هذه المسألة الخطيرة عنايتَه ورعايته، بعد أن تخلَّت عنها "اللجنة الثقافية" المذكورة "للهيئات الرسمية" التي هو طليعتُها في الناحية اللغوية من غير شك؛ ذلك بأنها مقدَّمة عندي على جميع مسائل الإصلاح اللغوي؛ لأنها الدرجة الأولى في سُلَّم وسائل المعرفة، وهي على ما نعلم جميعًا من التصعيب والتعقيد، فهي أولى بأن تقدَّم على غيرها من المسائل التي تتطلَّب الإصلاح والتجديد، والإصلاح إنما يجب أن يبدأ فيه - من تحت - بدرجة السُّلَّم الأُولى، ويُرتَقى منها صُعُدًا إلى الذروة.
وفي عقيدتي أن الزمن كان وما يزال صالحًا لتنفيذ كل إصلاح يحفظ الأصول، ويقرِّب الغاية، ويحقق النهضة، ومن الإخلال بحق الأمة العربية حق نهضتها العتيدة أن تكون أُولى وسائل المعرفة عندها أداةً كثيرةَ التكاليف، ثقيلة الوطأة، عقيمة، معوِّقة، يشكو منها العالِم كما يشكو منها المتعلِّم، وتستنفد من الأوقات الثمينة في غير طائل ما ينبغي أن يستنفد في غيرها من المطالب العالية والدراسات المُجدِية.
وليس أدل على ذلك من هذه الاختلافات الكثيرة والصور المعقَّدة في رسم بعض قواعد الكتابة، ومن تخطئة الناس بعضهم لبعض منذ وضع علماءُ المِصْرَين - البصرة والكوفة - هذه القواعدَ، وبنَوها على أصولهم النَّحْوية وأقيستهم الصرفية المختلفة المتعارضة.
وها قد خلت العصور، ونحن جميعًا نخضع لحذلقات توصف بأنها "علم بأصول"، تأمر أن نكتب ما لا نلفظ فنطيع، وألا نكتب ما نلفظ فنمتثل، وأن نرسم الصوت بغير صورته فنفعل، وأن نكتب الحرف بصور متعددة - وكان يجب ألا تكون له إلا صورة واحدة - فلا نعصي لها أمرًا، وهي كلها - كما هو ظاهر - رسوم معقَّدة مستمَدَّة مما أشرت إليه من أصول نحاة المِصْرينِ المتضاربة، ومن خطوط بدائية غير قياسية الأصول.
ولستُ أدري كيف يصح في العقل الرشيد أن تسقطَ صورةُ الصوت الملفوظ؛ كالألف في مثل "هاذا"، و"ذالك"، و"ها أُلاء"، و"لاكن"، ونحوها من كلمات، وتُكتب: "هذا"، و"ذلك"، و"هؤلاء"، و"لكن"، بغير الألف الملفوظة؟!
وكيف يصح في المنطق السليم أن يُرسَمَ ما لا يُلفَظ من الحروف بصورة الملفوظ منها؛ كالألف التي تُزاد بعد واوِ الجماعة المتطرِّفة في الفعل، وفي الأسماء المجموعة المضافة عند بعض النحاة، وفي "المائة" إفرادًا وتثنيةً وتركيبًا (دون جمعها!) وهي لا تلفظ، والواو في مثل: "أولئك"، و"أُولاء"، و"أُولي"، ونحوها، وهي لا وجود لها في النطق؟!
وفيمَ يشغَل الناسُ أنفسَهم منذ عصور بكيفية كتابة الهمزة، ويُنفِقون أجزاءً ثمينة من أعمارهم في تأمُّل حركاتها وسكونها، وما يُحِيط بها من أحوال الحركة والسكون من عن يمينها ومن عن شمالها، أَمِن أجل أن يُجلِسوها على "الكرسي" الذي يليق بها من كراسي الألف والياء والواو، أو لينزعوا هذه الكراسي جميعًا من تحتها، ويلقوها في العراء، لتفترش الأرض متواضعةً ذليلةً بجانب بقية الحروف؟
لقد نوَّعوا رسم هذه "الهمزة" بحسب مواقعها في الكلمة، وقسموها أقسامًا أربعة، وعمدوا إلى الهمزة المتوسطة فقسموها إلى: همزة متوسطة بالأصالة، وهمزة متوسطة تنزيلاً أو عارضًا؛ ثم إذا الهمزة بالأصالة لها وحدَها ستَّ عَشْرةَ صورة عقلية حاصلة من ضرب حركاتها الثلاث وسكونها في حركات ما قبلها أو سكونها، إلى آخر ما يقال في شرح ذلك، ثم نجدهم - بعد تأصيل كل هذه الأصول للهمزة - يختلفون في رسمها في بعض الكلمات، "كالمئة"، اختلافًا شديدًا، فكتبها بعض النحاة "مئة" بصورة فئة، وكتبها آخرون "مأة" بألف عليها همزة، ورسمها آخرون "مائة" بألف زائدة ثم همزة على الياء، وقد زادوا هذه الألف في إفرادها وتثنيتها وتركيبها، وأسقطوها في جمعِها كما في "مئتين ومئات"، وكل فريق علَّل رسمه لها بنوع من التعليل، وعلَّل البصريون الزيادة بتعليل، وعلَّلها الكوفيون بتعليل آخر يطول إيراده بما فيه من المناقشات والمناقضات!
ثم فيمَ التنوع لكتابة الألف المتطرِّفة في آلاف من الكلمات من أسماء وأفعال ثلاثية وغير ثلاثية، تُنطَق ولكنها لا تُرسَم بصورتها المخصوصة بها دائمًا، بل ترسم بها حينًا، وبالياء حينًا آخر؟ ولأجل أن يرسم الكاتب هذا الحرف صحيحًا ولا يعد جاهلاً، يجب أن يلاحظ عدة أشياء: أن يعلم أول ما يعلم ما أصل الكلمة؟ أواوي هو أو يائي؟ وأن يحسب بعد حروفها ما عددها؟ وأن يلاحظ بعد هذا وذاك كونها اسمًا أو فعلاً، ثم يمعن في ملاحظة حركة الاسم: هل هو مكسور الأول أو مضمومه؟ ثم في أصله: هل هو عربي أو أعجمي، ثم في نوعه: هل هو من أسماء الناس، أو من أسماء البلدان، أو من أسماء الحيوان، أو من أسماء المشروبات، أو من أسماء الفنون والصناعات؟ كلُّ هذه الحذلقات، لأجل أن يتسنَّى له كتابة هذا الحرف إما بصورته وهي الألف، وإما بغير صورته وهي الياء!
قد يصح أن تكون أمثال هذه الحذلقات التي تضيق بها الصدور - ومنها كثير في كتب القوم - مقبولة سائغة في عهود التأخر والجمود، أيام ضيق نطاق المعرفة، وقصر العلم على الخاصة ومن إليهم ممن يخدم (السلطان)، وأيام صار من (العلماء!) مَن يرون في الكتابة وعلمها أنها من فروض الكفاية، كسائر اللوم والصناعات في نظرهم!
على أن تلك العصور التي حدث فيها كل هذا، لم تخلُ مع كلِّ ذلك من عبقريات ضاقت بهذه الحذلقات ذرعًا، فضربت بها عرض الحائط، ورسمت للإصلاح خطوطًا أصلية، ولكنها رسمتها عرضًا لا قصدًا، وعلى سبيل الانفراد، لا على سبيل التجمع كما نحاول (نحن) اليوم، وإن لازم محاولتنا شيء غير يسير من التردد والتلبُّث والحذر.
و(نحن) أولى بأن نضطلع بمثل هذا الإصلاح، وأن نزيد عليه؛ لأن عصرَنا يتطلَّب منا ذلك؛ إذ كانت بَيْعته تختلف كُلَّ الاختلاف عن طبيعة تلك العصور القديمة، وأهون ما نفكِّر فيه ونطلبه ونُلِحُّ في طلبه، هو أن نجعلَ هذا العلم غرضًا عامًّا مشاعًا بين الناس كالهواء والماء، لا يجوز أن يمنع منه مانع، ولا أن يحرمه إنسان له حق الحياة، ولعل التمثيل بالماء لا يستقيم لنا؛ إذ أصبح الماء يباع ويُشْرَى بالمقاييس والمقادير؛ حيث يسيل أنهارًا، وحيث يفيض فيطُمُّ على القريِّ[1]، ولن نرضى أن يكون شأن العلم كذلك، ويأبى المخلِصون إلا أن يُذِيعوه في الشعوب، وأن يَفرِضُوه عليها فرضًا، والكتابة هي وسيلة إذاعة هذا العلم وفرضه على الناس، والوسيلة ينبغي أن تكون سهلة خفيفة المؤونة، لا تثقيل فيها ولا تعقيد، ليفيد منها الناس في يسرٍ وسهولة، وليفرغوا للإفادة من الغايات، ولا يشغَلوا عن المنافع بوسائلها.
والطريقة المُثْلى - كما أراها - تتلخَّص في أصل عامٍّ، يسيرٍ كل اليسر، قريب التناول، سهل التعلُّم، لا يستنزف جهدًا عقليًّا، ولا يستنفد وقتًا؛ ذلك هو أن نقطع صلة الكتابة بأقيسةِ النُّحاة وأصول الصرفيين من علماء المِصرينِ جميعًا، ولهجات القبائل قطعًا تامًّا، فلا نفكر فيها أبدًا، ولا نلقي إليها بالاً، وأن نقيمها بعد ذلك على أساس التطابق بين الأصوات ورسم صورها أو رموزها المخصوصة بها، فنرسم كل صوت بنقشه الدالِّ عليه، ونستعين بالشكل أحيانًا حين لا تستبين القرينة، مع "تحفُّظات" قليلة تقتضيها أصول اللغة وطبيعة النطق بها، وأن نتخذ للهمزة رمزًا مستقلاًّ يلزم صورة واحدة في كلِّ موضع ترد فيها كسائر الحروف، وسأذكر رأيي في رسم هذه الصورة من بعد.
هذا الأصل العامُّ، هو شيءٌ منطقي تقتضيه طبيعة المطابقة بين الصوت وصورته المتعارفة، وهو - كما أريده - خالٍ من الخلاف، وكفيلٌ بأن يُسقِط عن الناسِ عالِمِهم ومتعلِّمهم تكاليفَ هذه القواعد المتعارضة الثقيلة المتكلفة الشاقة جملةً، ويجعل الكتابة صورة سليمة واضحة لما نطق به، وأداةً رفيقة صالحة للإبانة والاستفادة والإفادة في أيسر وقت وأهون جهد.
لقد وقع الناسُ عصورًا طوالاً تحت سلطان هذا الرسم القديم، ووقعنا مثلَهم تحت هذا السلطان، فخضعنا له خضوع "المنوَّمين" "للمنوِّمين"، وقد آن أوان أن نتحرَّر منه ومن قيوده، ولا خير في التلبث والتردد والحذر ما دُمْنا نريد أن نحقِّق منفعة أي منفعة، وأن ندرأَ مفسدةً، وأن نحفظ هذا الميراث العربي: لا نبطل نظامًا عامًّا من أنظمته، ولا نغيِّر أصلاً من أصوله.
أما ما اتَّخذته "اللجنة الثقافية" في "أمانة جامعة الدول العربية" من قرارٍ بحقِّ هذا الإصلاح (على ما فيه من نقصٍ يسير، وأنه مجرَّد عرض، وما ذهبت إليه من الرأي في الزمن وأنه غير صالح لتنفيذه)، فهو يدعوني إلى أن أضعَ بين يدَيها صورة مصغَّرة لإصلاح قواعد الكتابة الذي أراده أحرارُ العلماء ومفكِّروهم من (القدامى خاصةً)، لتستظهر بها في موقف التنفيذ إذا شاءت، ولتكون هذه الصورة جنةً لها ولغيرها، تقي بها نفسها من سهام مَن لا يحملون أنفسَهم على عناء التفكير والتأمل فيما ينبغي أن يأخذوا ويدعوا، وفيما ينبغي أن يدرأ به العيب عن لغتِنا، ووسائل تعليمها، وتيسير هذا التعليم من شؤون الإصلاح ووسائله ممَّا يتحقق به أكبر الخير والنفع للناس.
وفي كتب هؤلاء العلماء الأحرار المفكِّرين من القدامى آراء خطيرة في إصلاح هذا الرسم العربي في أهم أبوابه وأكثرها تعقيدًا وبلبلةً، جهر بها نفرٌ منهم مخالفين بها الجمهور المقلد، وهم فيما خالَفوهم به من ذلك على حق لا شِيَة فيه، ولكن الناس صمُّوا آذانهم عن سماعها، وأغلقوا منافذ عقولهم دونها، ومضوا في سبيلهم من التقليد في التعقيد.
ففي مسألة كتابة الهمزة، وهي مسألة شائكة ومعقدة جدًّا، نجد أبا زكريا يحيى بن زياد المعروف بالفرَّاء - إمام العربية في عصره وأعلم الكوفيين بالنحو بعد الكسائي، وكانت وفاته سنة 207 للهجرة - يضربُ بقواعدها لها عرض الحائط جملةً، ويختار لها شكلاً واحدًا لا ثاني له في جميع مواضعها، هو شكل الألف، ويقول: "يجوز أن تكتب ألفًا في كل موضع"[2].
وهذا الرأي عندي من حيث الأصل، أعني الاستقلال بالصورة الواحدة، هو المخرجُ الوحيد الذي ننجو به من شدائد الهمزة وتنويع رسمها، ولا بأس بهذه الصورة التي يختارها الفرَّاء، فإذا تم الاتفاق عليها - ويجب أن يتم على شكلٍ ما - كتبناها بصورة الألف (ا) مثلاً حيث وردت، وما أشكلت قراءته أو خفيت قرينته استعنَّا عليه بالحركات، وأرجو ألا يكون عامل الأُلفة للقواعد القديمة مثبِّطًا عن الإقدام على حسم مادة هذه المشكلة المزمنة.
وفي مسألة كتابة الألف المتطرِّفة بصورتها حينًا وبغير صورتها حينًا آخر، (ومشكلتها تلي مشكلة الهمزة في الخطورة) أصبتُ في "الشافية" نصًّا بأن جماعة من النُّحَاة قالوا "بكتابة الباب كله بالألف؛ حملاً للخط على اللفظ، ثالثةً كانت أو فوقها، منقلبةً عن ياء أو عن غيرها، وفي عَلَم أو غيره"، ووجَّهه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، المتوفى سنة 926هـ، في شرحه "مناهج الكافية" بأنه القياس، وبأنه أنفى للغلط، وقال ابن السيد البطليوسي الأندلسي في "الاقتضاب شرح أدب الكُتَّاب": إنه هو الذي اختاره أبو علي الفارسي في مسائله الحلبية، وهمُّك هؤلاء جميعًا من أئمة مشهود لهم بسَعة العلم ونفاذ البصر.
هذه الآراء العالية قد احتوت على بذرة الإصلاح الأولى لرسم الكتابة العربية، وهي حجج رائعة من القديم، يصح أن يُستظهر بها على مَن يتمسك بالقديم، غير السديد، وأصحابها من أئمة العربية وحراس لغة القرآن، وفيهم ناسٌ من أهل المائة الثانية الهجرية، وآخرون من أهل المائة الرابعة، ثم من أهل المائة العاشرة، أفلا يحقِّق أهل المائة الرابعة عشرة الإصلاح الذي فكَّر فيه أهل تلك العصور؟ ومتى نحياه الحياة العقلية السليمة الطيبة، ونحن نتلكأ عن أهون الأشياء؟
تكاد تنحصر مشكلات رسم الكتابة العربية في "رسم الهمزة، وفي رسم الألف زيادة ونقصًا وتغييرًا، وفي كتابة الألف المتطرِّفة".
فمن المفيد حقًّا أن نرسم الهمزة بشكل مستقلٍّ واحد كما أجازه الفرَّاء.
وأن تحمل الخط على اللفظ؛ لأنه القياس، ولأنه أنفى للغلط، كما رأى أبو علي، والبطليوسي، وصاحب الشافية، وزكريا الأنصاري، وغيرهم، لا في كتابة الألف وحدَها، بل في أبواب رسم الكتابة العربية كلها، مع التزام "التحفظات" التي أشرت إليها من قبل؛ ذلك لأنه هو الشيء الطبيعي المعقول، ولن يتسنى الإصلاح المنشود بغيره.
وتحياتي الطيبات للزملاء الأعلام المؤتمرين لتحقيق أمثل إصلاح مرجوٍّ لرسم الكتابة العربية، وأجل نفع أدبي مرتقب للعرب.
[1] من المثل: "جرى الوادي فطم على القريِّ"؛ أي: جرى سيل الوادي عظيمًا، وكثر حتى علا وغلب، وأتى على القريِّ فدفنه، والقريُّ: سبيل الماء من البلاغ، أو مدفعه من الرُّبا إلى الروضة... يضرب عند تجاوز الشر حدَّه.
[2] وقال أبو العباس أحمد القلقشندي في "صبح الأعشى" 3/210: "ومنهم مَن يجعل صورتها الألف على كل حال، فيكتبها على هذه الصورة: المرأة والكمأة ويسأم ويسإِم ويلأم، وهو أقل استعمالاً، وقد كتب منه حرف في القرآن بالألف، وهو قوله - تعالى -: ﴿ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ ﴾ [الأحزاب: 20]، يريد أنباإِكم"
(مقدمة توثيقية)
حضرةَ صاحب المعالي السيد العلامة الجليل، رئيس مجمع اللغة العربية.
أذكَرني ما أنهاه إليَّ العلامة الدكتور "منصور فهمي" كاتبُ سرِّ المجمع من عزم بعض زملائنا الأعلام على إلقاء محاضرةٍ عامَّة في المؤتمر الثاني والعشرين (1955 - 1956م)، في تيسير قواعد رسم الكتابة، ورغبتِهم في أن يشاركَهم الأعضاء المراسلون بإبداء الرَّأي في شأن هذا التيسير.
مشاركتي القديمة في درس هذا الموضوع في "المؤتمر الثقافي العربي الأول"، الذي عقدتْه "جامعة الدول العربية" (سنة 1947م) في "بيت مري" في لبنان، ثم في اللجنة التي ألفها "المجمع العلمي العراقي" من بعض أعضائه العاملين، وعهد إليها أن تدرس ما بعث به "مجمع اللغة العربية" من مقرراته أو مقترحاته في ذلك.
وأذكر أن رئاسة "مكتب المؤتمر الثقافي العربي" هذا كانت قد عرَضتْ على "لجنة القواعد واللغة" التي شرفتُ برئاستِها يومئذٍ "لائحةً" وضعتْها لجنة وزارية بالقاهرة في وسائل تيسير قواعد رسم الكتابة، لترى رأيها فيها، فناقشتها طويلاً، ثم أمضتْها بعد أن اطمأنَّت إلى أن ما تضمنته من قواعد سليمة يحقق التطابق بين الكتابة والنطق بطريقة مطَّرِدة، خالية من الخلاف، بريئة من التعقيد.
ومع أن ما أقرَّته اللجنة من بعض هذه القواعد الجديدة، وهو موضوع رسم الهمزة، كان دون ما أطمح إليه من التيسير، فقد وقفت "اللجنة الثقافية" في "أمانة جامعة الدول العربية" منها موقف الحَذِر المستأنِي، واتَّخذت قرارًا بأنها مجرَّد عَرْض، وأنها ترى أن الزمن غير صالح لتنفيذها حتى تُعرَضَ على الهيئات الرسمية؛ كالمجاميع العلمية واللغوية ونحوها، لإبداء الرأي فيها، وذلك أخذًا بالحيطة، ومراعاةً لبعض الأحوال في الظاهر.
وإني لأحْمَدُ مجمع اللغة العربية أن عاد فأَوْلَى هذه المسألة الخطيرة عنايتَه ورعايته، بعد أن تخلَّت عنها "اللجنة الثقافية" المذكورة "للهيئات الرسمية" التي هو طليعتُها في الناحية اللغوية من غير شك؛ ذلك بأنها مقدَّمة عندي على جميع مسائل الإصلاح اللغوي؛ لأنها الدرجة الأولى في سُلَّم وسائل المعرفة، وهي على ما نعلم جميعًا من التصعيب والتعقيد، فهي أولى بأن تقدَّم على غيرها من المسائل التي تتطلَّب الإصلاح والتجديد، والإصلاح إنما يجب أن يبدأ فيه - من تحت - بدرجة السُّلَّم الأُولى، ويُرتَقى منها صُعُدًا إلى الذروة.
وفي عقيدتي أن الزمن كان وما يزال صالحًا لتنفيذ كل إصلاح يحفظ الأصول، ويقرِّب الغاية، ويحقق النهضة، ومن الإخلال بحق الأمة العربية حق نهضتها العتيدة أن تكون أُولى وسائل المعرفة عندها أداةً كثيرةَ التكاليف، ثقيلة الوطأة، عقيمة، معوِّقة، يشكو منها العالِم كما يشكو منها المتعلِّم، وتستنفد من الأوقات الثمينة في غير طائل ما ينبغي أن يستنفد في غيرها من المطالب العالية والدراسات المُجدِية.
وليس أدل على ذلك من هذه الاختلافات الكثيرة والصور المعقَّدة في رسم بعض قواعد الكتابة، ومن تخطئة الناس بعضهم لبعض منذ وضع علماءُ المِصْرَين - البصرة والكوفة - هذه القواعدَ، وبنَوها على أصولهم النَّحْوية وأقيستهم الصرفية المختلفة المتعارضة.
وها قد خلت العصور، ونحن جميعًا نخضع لحذلقات توصف بأنها "علم بأصول"، تأمر أن نكتب ما لا نلفظ فنطيع، وألا نكتب ما نلفظ فنمتثل، وأن نرسم الصوت بغير صورته فنفعل، وأن نكتب الحرف بصور متعددة - وكان يجب ألا تكون له إلا صورة واحدة - فلا نعصي لها أمرًا، وهي كلها - كما هو ظاهر - رسوم معقَّدة مستمَدَّة مما أشرت إليه من أصول نحاة المِصْرينِ المتضاربة، ومن خطوط بدائية غير قياسية الأصول.
ولستُ أدري كيف يصح في العقل الرشيد أن تسقطَ صورةُ الصوت الملفوظ؛ كالألف في مثل "هاذا"، و"ذالك"، و"ها أُلاء"، و"لاكن"، ونحوها من كلمات، وتُكتب: "هذا"، و"ذلك"، و"هؤلاء"، و"لكن"، بغير الألف الملفوظة؟!
وكيف يصح في المنطق السليم أن يُرسَمَ ما لا يُلفَظ من الحروف بصورة الملفوظ منها؛ كالألف التي تُزاد بعد واوِ الجماعة المتطرِّفة في الفعل، وفي الأسماء المجموعة المضافة عند بعض النحاة، وفي "المائة" إفرادًا وتثنيةً وتركيبًا (دون جمعها!) وهي لا تلفظ، والواو في مثل: "أولئك"، و"أُولاء"، و"أُولي"، ونحوها، وهي لا وجود لها في النطق؟!
وفيمَ يشغَل الناسُ أنفسَهم منذ عصور بكيفية كتابة الهمزة، ويُنفِقون أجزاءً ثمينة من أعمارهم في تأمُّل حركاتها وسكونها، وما يُحِيط بها من أحوال الحركة والسكون من عن يمينها ومن عن شمالها، أَمِن أجل أن يُجلِسوها على "الكرسي" الذي يليق بها من كراسي الألف والياء والواو، أو لينزعوا هذه الكراسي جميعًا من تحتها، ويلقوها في العراء، لتفترش الأرض متواضعةً ذليلةً بجانب بقية الحروف؟
لقد نوَّعوا رسم هذه "الهمزة" بحسب مواقعها في الكلمة، وقسموها أقسامًا أربعة، وعمدوا إلى الهمزة المتوسطة فقسموها إلى: همزة متوسطة بالأصالة، وهمزة متوسطة تنزيلاً أو عارضًا؛ ثم إذا الهمزة بالأصالة لها وحدَها ستَّ عَشْرةَ صورة عقلية حاصلة من ضرب حركاتها الثلاث وسكونها في حركات ما قبلها أو سكونها، إلى آخر ما يقال في شرح ذلك، ثم نجدهم - بعد تأصيل كل هذه الأصول للهمزة - يختلفون في رسمها في بعض الكلمات، "كالمئة"، اختلافًا شديدًا، فكتبها بعض النحاة "مئة" بصورة فئة، وكتبها آخرون "مأة" بألف عليها همزة، ورسمها آخرون "مائة" بألف زائدة ثم همزة على الياء، وقد زادوا هذه الألف في إفرادها وتثنيتها وتركيبها، وأسقطوها في جمعِها كما في "مئتين ومئات"، وكل فريق علَّل رسمه لها بنوع من التعليل، وعلَّل البصريون الزيادة بتعليل، وعلَّلها الكوفيون بتعليل آخر يطول إيراده بما فيه من المناقشات والمناقضات!
ثم فيمَ التنوع لكتابة الألف المتطرِّفة في آلاف من الكلمات من أسماء وأفعال ثلاثية وغير ثلاثية، تُنطَق ولكنها لا تُرسَم بصورتها المخصوصة بها دائمًا، بل ترسم بها حينًا، وبالياء حينًا آخر؟ ولأجل أن يرسم الكاتب هذا الحرف صحيحًا ولا يعد جاهلاً، يجب أن يلاحظ عدة أشياء: أن يعلم أول ما يعلم ما أصل الكلمة؟ أواوي هو أو يائي؟ وأن يحسب بعد حروفها ما عددها؟ وأن يلاحظ بعد هذا وذاك كونها اسمًا أو فعلاً، ثم يمعن في ملاحظة حركة الاسم: هل هو مكسور الأول أو مضمومه؟ ثم في أصله: هل هو عربي أو أعجمي، ثم في نوعه: هل هو من أسماء الناس، أو من أسماء البلدان، أو من أسماء الحيوان، أو من أسماء المشروبات، أو من أسماء الفنون والصناعات؟ كلُّ هذه الحذلقات، لأجل أن يتسنَّى له كتابة هذا الحرف إما بصورته وهي الألف، وإما بغير صورته وهي الياء!
قد يصح أن تكون أمثال هذه الحذلقات التي تضيق بها الصدور - ومنها كثير في كتب القوم - مقبولة سائغة في عهود التأخر والجمود، أيام ضيق نطاق المعرفة، وقصر العلم على الخاصة ومن إليهم ممن يخدم (السلطان)، وأيام صار من (العلماء!) مَن يرون في الكتابة وعلمها أنها من فروض الكفاية، كسائر اللوم والصناعات في نظرهم!
على أن تلك العصور التي حدث فيها كل هذا، لم تخلُ مع كلِّ ذلك من عبقريات ضاقت بهذه الحذلقات ذرعًا، فضربت بها عرض الحائط، ورسمت للإصلاح خطوطًا أصلية، ولكنها رسمتها عرضًا لا قصدًا، وعلى سبيل الانفراد، لا على سبيل التجمع كما نحاول (نحن) اليوم، وإن لازم محاولتنا شيء غير يسير من التردد والتلبُّث والحذر.
و(نحن) أولى بأن نضطلع بمثل هذا الإصلاح، وأن نزيد عليه؛ لأن عصرَنا يتطلَّب منا ذلك؛ إذ كانت بَيْعته تختلف كُلَّ الاختلاف عن طبيعة تلك العصور القديمة، وأهون ما نفكِّر فيه ونطلبه ونُلِحُّ في طلبه، هو أن نجعلَ هذا العلم غرضًا عامًّا مشاعًا بين الناس كالهواء والماء، لا يجوز أن يمنع منه مانع، ولا أن يحرمه إنسان له حق الحياة، ولعل التمثيل بالماء لا يستقيم لنا؛ إذ أصبح الماء يباع ويُشْرَى بالمقاييس والمقادير؛ حيث يسيل أنهارًا، وحيث يفيض فيطُمُّ على القريِّ[1]، ولن نرضى أن يكون شأن العلم كذلك، ويأبى المخلِصون إلا أن يُذِيعوه في الشعوب، وأن يَفرِضُوه عليها فرضًا، والكتابة هي وسيلة إذاعة هذا العلم وفرضه على الناس، والوسيلة ينبغي أن تكون سهلة خفيفة المؤونة، لا تثقيل فيها ولا تعقيد، ليفيد منها الناس في يسرٍ وسهولة، وليفرغوا للإفادة من الغايات، ولا يشغَلوا عن المنافع بوسائلها.
والطريقة المُثْلى - كما أراها - تتلخَّص في أصل عامٍّ، يسيرٍ كل اليسر، قريب التناول، سهل التعلُّم، لا يستنزف جهدًا عقليًّا، ولا يستنفد وقتًا؛ ذلك هو أن نقطع صلة الكتابة بأقيسةِ النُّحاة وأصول الصرفيين من علماء المِصرينِ جميعًا، ولهجات القبائل قطعًا تامًّا، فلا نفكر فيها أبدًا، ولا نلقي إليها بالاً، وأن نقيمها بعد ذلك على أساس التطابق بين الأصوات ورسم صورها أو رموزها المخصوصة بها، فنرسم كل صوت بنقشه الدالِّ عليه، ونستعين بالشكل أحيانًا حين لا تستبين القرينة، مع "تحفُّظات" قليلة تقتضيها أصول اللغة وطبيعة النطق بها، وأن نتخذ للهمزة رمزًا مستقلاًّ يلزم صورة واحدة في كلِّ موضع ترد فيها كسائر الحروف، وسأذكر رأيي في رسم هذه الصورة من بعد.
هذا الأصل العامُّ، هو شيءٌ منطقي تقتضيه طبيعة المطابقة بين الصوت وصورته المتعارفة، وهو - كما أريده - خالٍ من الخلاف، وكفيلٌ بأن يُسقِط عن الناسِ عالِمِهم ومتعلِّمهم تكاليفَ هذه القواعد المتعارضة الثقيلة المتكلفة الشاقة جملةً، ويجعل الكتابة صورة سليمة واضحة لما نطق به، وأداةً رفيقة صالحة للإبانة والاستفادة والإفادة في أيسر وقت وأهون جهد.
لقد وقع الناسُ عصورًا طوالاً تحت سلطان هذا الرسم القديم، ووقعنا مثلَهم تحت هذا السلطان، فخضعنا له خضوع "المنوَّمين" "للمنوِّمين"، وقد آن أوان أن نتحرَّر منه ومن قيوده، ولا خير في التلبث والتردد والحذر ما دُمْنا نريد أن نحقِّق منفعة أي منفعة، وأن ندرأَ مفسدةً، وأن نحفظ هذا الميراث العربي: لا نبطل نظامًا عامًّا من أنظمته، ولا نغيِّر أصلاً من أصوله.
أما ما اتَّخذته "اللجنة الثقافية" في "أمانة جامعة الدول العربية" من قرارٍ بحقِّ هذا الإصلاح (على ما فيه من نقصٍ يسير، وأنه مجرَّد عرض، وما ذهبت إليه من الرأي في الزمن وأنه غير صالح لتنفيذه)، فهو يدعوني إلى أن أضعَ بين يدَيها صورة مصغَّرة لإصلاح قواعد الكتابة الذي أراده أحرارُ العلماء ومفكِّروهم من (القدامى خاصةً)، لتستظهر بها في موقف التنفيذ إذا شاءت، ولتكون هذه الصورة جنةً لها ولغيرها، تقي بها نفسها من سهام مَن لا يحملون أنفسَهم على عناء التفكير والتأمل فيما ينبغي أن يأخذوا ويدعوا، وفيما ينبغي أن يدرأ به العيب عن لغتِنا، ووسائل تعليمها، وتيسير هذا التعليم من شؤون الإصلاح ووسائله ممَّا يتحقق به أكبر الخير والنفع للناس.
وفي كتب هؤلاء العلماء الأحرار المفكِّرين من القدامى آراء خطيرة في إصلاح هذا الرسم العربي في أهم أبوابه وأكثرها تعقيدًا وبلبلةً، جهر بها نفرٌ منهم مخالفين بها الجمهور المقلد، وهم فيما خالَفوهم به من ذلك على حق لا شِيَة فيه، ولكن الناس صمُّوا آذانهم عن سماعها، وأغلقوا منافذ عقولهم دونها، ومضوا في سبيلهم من التقليد في التعقيد.
ففي مسألة كتابة الهمزة، وهي مسألة شائكة ومعقدة جدًّا، نجد أبا زكريا يحيى بن زياد المعروف بالفرَّاء - إمام العربية في عصره وأعلم الكوفيين بالنحو بعد الكسائي، وكانت وفاته سنة 207 للهجرة - يضربُ بقواعدها لها عرض الحائط جملةً، ويختار لها شكلاً واحدًا لا ثاني له في جميع مواضعها، هو شكل الألف، ويقول: "يجوز أن تكتب ألفًا في كل موضع"[2].
وهذا الرأي عندي من حيث الأصل، أعني الاستقلال بالصورة الواحدة، هو المخرجُ الوحيد الذي ننجو به من شدائد الهمزة وتنويع رسمها، ولا بأس بهذه الصورة التي يختارها الفرَّاء، فإذا تم الاتفاق عليها - ويجب أن يتم على شكلٍ ما - كتبناها بصورة الألف (ا) مثلاً حيث وردت، وما أشكلت قراءته أو خفيت قرينته استعنَّا عليه بالحركات، وأرجو ألا يكون عامل الأُلفة للقواعد القديمة مثبِّطًا عن الإقدام على حسم مادة هذه المشكلة المزمنة.
وفي مسألة كتابة الألف المتطرِّفة بصورتها حينًا وبغير صورتها حينًا آخر، (ومشكلتها تلي مشكلة الهمزة في الخطورة) أصبتُ في "الشافية" نصًّا بأن جماعة من النُّحَاة قالوا "بكتابة الباب كله بالألف؛ حملاً للخط على اللفظ، ثالثةً كانت أو فوقها، منقلبةً عن ياء أو عن غيرها، وفي عَلَم أو غيره"، ووجَّهه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، المتوفى سنة 926هـ، في شرحه "مناهج الكافية" بأنه القياس، وبأنه أنفى للغلط، وقال ابن السيد البطليوسي الأندلسي في "الاقتضاب شرح أدب الكُتَّاب": إنه هو الذي اختاره أبو علي الفارسي في مسائله الحلبية، وهمُّك هؤلاء جميعًا من أئمة مشهود لهم بسَعة العلم ونفاذ البصر.
هذه الآراء العالية قد احتوت على بذرة الإصلاح الأولى لرسم الكتابة العربية، وهي حجج رائعة من القديم، يصح أن يُستظهر بها على مَن يتمسك بالقديم، غير السديد، وأصحابها من أئمة العربية وحراس لغة القرآن، وفيهم ناسٌ من أهل المائة الثانية الهجرية، وآخرون من أهل المائة الرابعة، ثم من أهل المائة العاشرة، أفلا يحقِّق أهل المائة الرابعة عشرة الإصلاح الذي فكَّر فيه أهل تلك العصور؟ ومتى نحياه الحياة العقلية السليمة الطيبة، ونحن نتلكأ عن أهون الأشياء؟
تكاد تنحصر مشكلات رسم الكتابة العربية في "رسم الهمزة، وفي رسم الألف زيادة ونقصًا وتغييرًا، وفي كتابة الألف المتطرِّفة".
فمن المفيد حقًّا أن نرسم الهمزة بشكل مستقلٍّ واحد كما أجازه الفرَّاء.
وأن تحمل الخط على اللفظ؛ لأنه القياس، ولأنه أنفى للغلط، كما رأى أبو علي، والبطليوسي، وصاحب الشافية، وزكريا الأنصاري، وغيرهم، لا في كتابة الألف وحدَها، بل في أبواب رسم الكتابة العربية كلها، مع التزام "التحفظات" التي أشرت إليها من قبل؛ ذلك لأنه هو الشيء الطبيعي المعقول، ولن يتسنى الإصلاح المنشود بغيره.
وتحياتي الطيبات للزملاء الأعلام المؤتمرين لتحقيق أمثل إصلاح مرجوٍّ لرسم الكتابة العربية، وأجل نفع أدبي مرتقب للعرب.
[1] من المثل: "جرى الوادي فطم على القريِّ"؛ أي: جرى سيل الوادي عظيمًا، وكثر حتى علا وغلب، وأتى على القريِّ فدفنه، والقريُّ: سبيل الماء من البلاغ، أو مدفعه من الرُّبا إلى الروضة... يضرب عند تجاوز الشر حدَّه.
[2] وقال أبو العباس أحمد القلقشندي في "صبح الأعشى" 3/210: "ومنهم مَن يجعل صورتها الألف على كل حال، فيكتبها على هذه الصورة: المرأة والكمأة ويسأم ويسإِم ويلأم، وهو أقل استعمالاً، وقد كتب منه حرف في القرآن بالألف، وهو قوله - تعالى -: ﴿ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ ﴾ [الأحزاب: 20]، يريد أنباإِكم"