{{:::الدعوة إلى الإيمان قبل الأعمال والأحكام :::}}
((للأمانة..:::الكـاتب :عدنان محمد العرعور:::))
مما لا شك فيه أن للدعوة إلى الله - تعالى -، منهجيةً مبنيةً على أسس راسخة، وسبلاً بيّنة من الكتاب والسنة، واجبة الاتباع، لا تخضع لعواطف الناس، ولا تتأثر بأهوائهم، ولا تستجيب لاستخفافاتهم، بل هي منهجٌ مرسوم على بصيرة عظيمة: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِىَ أَدْعُو إِلَىَ اللّهِ عَلَىَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108].
وإن إغفال الالتزام بهذا المنهج، جرَّ على المسلمين مصائبَ مؤلمةً، وكوارثَ كبيرة، وتراجعاتٍ دعويةً مؤسفة.
وما سبق ذكره في هذا البحث، كان بياناً لصفات الداعية، ومراعاةً لأحوال المدعوين.
لكن، كيف تُعالج هذه الحالات معالجة منضبطة؟ وما هي ضوابط هذا المنهج؟ هذا هو الذي سيُتعرض إلى بعضه في هذا الفصل.
فما هو المنهج؟ وما المقصود منه؟
المنهج: هو الأصول والقواعد الدعوية التي يجب على الداعية أن يراعيها في دعوته؛ لتحقيق الحكمة، لكي يوفق في مسيرته، وتثمر دعوته.
والمقصود من القواعد المنهجية: إرشادُ الداعية في طريقه، وضبطُ مسلكِه الدعوي، ومعالجةُ أحوال المدعوين، لإعطاء كل حال موقفها وأسلوبها، و منهجيتها الدعوية، وسنتناول هذا كله من خلال المباحث الثمانية التالية:
المبحث الأول: الدعوة إلى الإيمان قبل الأعمال والأحكام:
و فيه ثمانية مطالب:
المطلب الأول: معنى هذه القاعدة:
المقصود من هذه القاعدة؛ أن تُقَدَّم الدعوة إلى الإيمان، بمفاهيمه وأصوله، على الدعوة إلى العبادات والمعاملات، من حلال وحرام، في المأكولات، والملبوسات، وغيرها، وتطبيقُ هذه القاعدة هو الأصل في مقام الدعوة، وبخاصة لمن فقد الإيمان، أو حصل له فيه خلل أو ضعف، وليست هذه القاعدة مطردة في كل حال و لا في كل مقام وليس لها دور في مقام التعليم والفقه، وسيأتي تفصيل هذه الحالات.
المطلب الثاني: الحكمة من هذه القاعدة وثمرتها:
يَكْمُنُ سر هذه القاعدة؛ في أن الإيمان يدفع صاحبه إلى المسارعة إلى التصديق بالخبر، ماضياً كان أو أُنُفاً، والامتثال للحكم صعباً كان أو سهلاً، والاستجابة للطلب فعلاً كان أو تركاً، والقيام به بسهولة، ويسر، ونشاط، وشوق.
ومن أهم ذلك؛ العقيدة والعبادة، فإنهما إذا بُنيتا على إيمان واحتساب، سُلِّم للعقيدة بكل قبول ويقين دون شك ولا تردد، وأديت العبادة برغبة وطمأنينة، دون تعنت ولا استثقال، بل وَجد المرء فيها راحته، وقرة عينه.
ومما هو معلوم؛ أن الإيمان يزيد وينقص، فكلما نقص الإيمان، استثقل صاحبه الأعمال، وأعرض عنها، وشق عليه ترك المحرمات، وكلما ازداد الإيمان، ازداد المدعو تسليماً للعقيدة، واستجابة للأحكام، وإقبالاً على الأعمال، واستسهل ذلك، بل استمتع به وتلذذ، دون عناء كبير من الداعية في الدعوة لكل أمر، فإن الداعية إذا بنى دعوته على الإيمان، لم يجد تعنُّتاً من المدعوين في الاستجابة والتسليم، كما يجده لو بدأ بالأعمال والأحكام قبل الإيمان.
ولذلك قال: ((.... وجُعلت قرّة عيني في الصلاة))[1].
لأنها بنيت على إيمان واحتساب، و تسليم ورغبة.
وكان يقول لبلال - إذا حان وقت الصلاة-: ((أرحنا بها يا بلال))[2]، فانظر الفارق بين "أرحنا بها"، وبين: "أرحنا منها"، وهي لسان حال كثير من الكسالى في كل زمان.
فكل هذا ثمرة الإيمان قبل الأحكام.
وأما عندما تؤدى العبادة بلا إيمان، أو بإيمان ضعيف، فيستثقلها صاحبها، ويؤديها على كره، وبغير خشوع.
قال - تعالى - عن المنافقين: (إِنّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوَاْ إِلَى الصّلاَةِ قَامُواْ كُسالىََ يُرَآءُونَ النّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاّ قَلِيلاً * مّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَىَ هَؤُلآءِ وَلاَ إِلَى هََؤُلآءِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) [النساء: 142-143]
وقال - سبحانه -: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلاَةِ وَإِنّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الّذِينَ يَظُنّونَ أَنّهُم مّلاَقُواْ رَبّهِمْ وَأَنّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) [البقرة: 45-46]
أي: إن أداء الصلاة لثقيل، وإن فعلها لشاق، على الذين لا يؤمنون بها، ولا يخشعون فيها، وذلك لفقدان الإيمان بالعبادة المؤداة كما هو الحال عند المنافقين، أو لضعفه فيها عند المسلمين الكسالى.
علاوة على هذا؛ فإن الإيمان شرطٌ لقبول العمل، وزيادته تدفع صاحبها إلى الإقبال على العمل الصالح، والانتهاء عن العمل الفاسد بصدق، قال الله - تعالى -: (فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنّا لَهُ كَاتِبُونَ) [الأنبياء: 94].
ولأجل ذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهم بالإيمان في كل مناسبة، فمن ذلك قوله: ((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه))[3].
المطلب الثالث: مثل العبادة عند قوي الإيمان، وعند ضعيفه:
إن مثل الذي يؤدي العبادة عن كره وضعف إيمان، ومثل الذي يؤديها عن إيمان واحتساب، كمثل رجلين: رجل تزوج من لا يحب، ورجل تزوج ممن يحب.
فأما الأول: فلا يُقبِل على أهله إلا كُرْها، من غير رغبة ولا استمتاع، ولا يشعر بطمأنينة معها، وينتظر بفارغ الصبر مفارقتها، وإذا فارقها شعر براحة، وفارقها بغير حسرة، ولا تمنٍ في الرجوع إليها.
وأما الذي تزوج من يحب، فإنه يُقبِل على زوجته برغبة ولهفة، وشوق واستمتاع، ولا يحب فراقها، وإذا فارقها فارقها على كره وحسرة، وفي نفسه شوق للعود إليها.
وهكذا من أقبل على الطاعة، بإيمان مسبق، أقبل عليها بحب وشوق، وفارقها على كره، ومن أقبل على الطاعة، بغير إيمان أو بضعف فيه، أقبل عليها على كره، وأداها بمشقة، وفارقها على فرح.
ويظهر هذا جليا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن تبعهم من الصالحين في خشوعهم في عباداتهم، وشوقهم لها، وقصصُ الصالحين في ذلك كثيرة، فمنهم من دخل في صلاة وأجري له عمليةٌ جراحية[4]، ومنهم: الذي هدم المسجد وهو يصلي ولم يشعر[5] ومنهم، ومنهم...، وكل ذلك بموجِب الإيمان القوي الذي سبق العبادة، فدفعهم إلى هذا...
وكذلك يظهر جليا التقصير في المنافقين ومن تبعهم في أعمالهم، وذلك لانعدام الإيمان، أو لضعفه كما سبق بيانه.
المطلب الرابع: أدلة الإيمان قبل الأعمال والأحكام ودعوة الرسل:
سبق أن ذُكر: أن الإيمان يقذف في القلب حب الاستجابة، والمسارعة إلى الطاعة، والحلاوة في العبادة، واللذة في المناجاة..
لذلك أمر الله به قبل الأعمال، وكان - سبحانه - يُذكّر المؤمنين به قبل أمره ونهيه.
قال - تعالى -: (يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِى نَزّلَ عَلَىَ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الّذِىَ أَنَزلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً) الآية [النساء: 136].
فقدّم - سبحانه - الأمر بالإيمان على كل عمل.
وقال - تعالى -: (قُل لّعِبَادِىَ الّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصّلاَةَ.. ) الآية [إبراهيم: 31].
أي: ما دمتم آمنتم، وبنيتم قواعد دينكم فابدؤوا بالأعمال، فإنها من لوازم إيمانكم.
ومثل هذا كثير في القرآن الكريم، ومنه كل كلام لله فيه: (يا أيها الذين آمنوا... )، فنداء المؤمنين بوصفهم، يثير في النفس كوامن هذا الوصف، وهو هاهنا، (الإيمان) الذي يدفع نحو الاستجابة لما بعد النداء، من أمر أو نهي..
ومثل ذلك قوله - تعالى -بعد أن يأمر أو ينهى-: (.. ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ.. ) الآية [التحريم: 2].
فمن لم يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يتأثر بموعظة، ولا يستجيب لطلب.
وهذا سر قول الكافرين لأنبيائهم: (قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مّنَ الْوَاعِظِينَ). [الشعراء:136]
ولذلك كان الأنبياء يَدعُون إلى الإيمان قبل الأحكام، - ورأس الإيمان التوحيد- ويمكثون السنين الطوال في هذا.. وقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه ثلاث عشرة سنة، يدعو إلى الإيمان، ويُربِّي أتباعه على زيادته، دون أن يتعرض لمعظم الأحكام، أو ينهى عن معظم المحرمات، وكان بعض أصحابه يمارسون ماعُدّ بعد ذلك من الكبائر، كالخمر، والميسر وما شابه ذلك، ولم ينههم عنها، قبل أن يتوطن الإيمان في قلوبهم.
فلما وقر الإيمان في القلوب، وذلت لبارئها النفوس، أمرهم بالعبادات، ثم بين لهم أحكام المعاملات، ونهاهم عن المحرمات.
ولم ينزل تحريم الخمر إلا بعد ثلاث سنوات خَلَوْنَ من هجرته - عليه الصلاة والسلام - إلى المدينة.
ولما نزل تحريمه، سارع المسلمون إلى الاستجابة، لِمَا سبق فيهم من الإيمان.
فعن أنس قال: "كان لنا خمر غير فَضِيخِكُم هذا الذي تسمونه الفَضِيخ[6]، فإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً و فلاناً إذ جاء رجل فقال: وهل بلغكم الخبر؟ فقالوا: وماذاك؟ قال: حرمت الخمر، قالوا: أهرق هذه القلاس يا أنس، قال: فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل". [7]
وقصة نساء الأنصار حين نزول آية الحجاب مشهورة.
فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: " يرحم الله نساء المهاجرات الأُول لما أنزل الله: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنّ عَلَىَ جُيُوبِهِنّ) [النور: 31]، شققن مُرُوطَهُنَّ فاختمرن بها". [8]
وكل هذه الاستجابات، كانت لسبق الإيمان الأحكام، ولو أنهم أمروا باجتناب المحرمات قبل الإيمان لما أطاعوا.
فقد قالت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -: " إنما نزل أول ما نزل منه أي: القرآن سورة من الُمفصَّل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبداً، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب: (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر).، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده.. [9] قال: "فأخرَجَتْ له المصحف فَأَمْلَتْ عليه آي السور".
فانظر إلى هذا التأصيل لهذه القاعدة من عائشة - رضي الله عنها -..
و لما رأى ابن عمر - رضي الله عنه - إعراض الناس عن الأحكام، وعدم العمل بالقرآن - رغم حفظهم له- علَّلَ ذلك بمخالفة مضمون هذه القاعدة، وأن الأحكام سبقت عند هؤلاء الإيمان، فلم يعملوا بالأحكام حق العمل، فقال - رضي الله عنه -: " لقد عشنا بُرْهةً من دهرنا، وأحدُنا يُؤتى الإيمان قبل القرآن، فتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فنتعلم حلالها وحرامها، وآمِرَهَا وزَاجِرَها، وما ينبغي أن يقف عنده منها، كما تَعَلَّمُونَ أنتم اليوم القرآن، ثم لقد رأيت اليوم رجالاً يُؤتى أحدُهُم القرآن قبل الإيمان، فيقرأ ما بين فاتحتِهِ إلى خاتمتِهِ، ما يَدْرِي ما آمِرُه ولا زاجِرُه، ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه، فينثُرُه نَثْرَ الدَّقَلِ"[10] الحديث. قلت: كل هذا بسبب أن القرآن سبق الإيمان.
المطلب الخامس: صور من تطبيق هذه القاعدة:
إن لتطبيق هذه القاعدة حالاتٍ وصوراً خاصة بها من ذلك:
الصورة الأولى: كون المدعو غير مؤمن، فهذا يُدعى إلى الإيمان بالإجمال، ومقتضياته: من التوحيد والإذعان، والتسليم والانقياد، ويُدعى إلى أصول الإسلام العامة، قبل دعوته إلى العبادات، و فرعيات الدين، والحلال والحرام.
فإن استجاب؛ تُدرِّج معه في تبليغه الأحكام - كما سيُبيَّن في باب التدرّج - مع الاستمرار في الجرعات الإيمانية، ليزيد إيمانه، وليس من الحكمة في شيء دعوته أومناقشته في بعض الأحكام الإسلامية، وبخاصة الفرعية منها؛ كحقوق المرأة، والحجاب، والإرث، وهو كافر بالأصل كله.
غير أنه يجوز ذلك حيناً على سبيل بيان محاسن الإسلام، كعدالة الإسلام في توزيع الإرث، واحترام المرأة، وفوائدِ بعض الواجبات كالحجاب، ومضارِ بعض المحرمات كالخمر، ولكن على سبيل الإجمال.
الصورة الثانية: كون المدعو مسلماً، غير أن فيه جهلاً، وتقصيراً وعصياناً، فأمثال هؤلاء يُدعون إلى زيادة الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتفصيل في مقتضيات الإيمان، ولوازمه، من الاستجابة والتسليم، ويدعون بالترغيب والترهيب قبل أن يقال لأحدهم: هذا حرام، وهذا حلال، والمشكلة ليست في عدم علمه بذلك، - فهو يعلم ذلك - وإنما المشكلة في قلة إيمانه، وضعف استجابته، وإصلاح هذا لا يتم بمجرد إخباره عن حُكم يعلمه، بل لا بد من معالجة أسباب ذلك، وهي هاهنا ضعف الإيمان.
المطلب السادس: قاعدة الإيمان قبل الأعمال والأحكام، لا تمنع تبليغ الحلال والحرام:
إن تقرير هذه القاعدة في منهج الداعي، لا يعني: ألا يخبر الناس بالحلال والحرام، وإنما يعني: أن يقدم في مقام الدعوة الإيمان على التحريم والتحليل في مقام الدعوة.
لأن الإيمان قاعدة الأعمال، كما هي الحال في قواعد البناء، إذ لا يمكن أن يُقام بناء إلا على قواعد، وكذلك في الإسلام، لا تقوم الأعمال بلا إيمان، وإلا كان العامل منافقاً، وإن كان مؤمناً بلا أعمال كان مرجئاً. [11]
والقاعدة؛ ليست مطردة في كل حال، ومع كل مدعو، فقد يكون من الحكمة مواكبةَ الإيمان بالأحكام، ويلزم أحياناً تقديم بيان بعض الأحكام إذا تعيّن ذلك، أو لزم تحذير المدعو مباشرة من المحرم الذي يتعاطاه.
لكن القاعدة تقرر: أن الأصل في الدعوة البدء بدعوة الناس إلى الإيمان، والقناعة والتسليم، ثم بعد ذلك يُدعون إلى الأحكام.
المطلب السابع: تطبيق هذه القاعدة على أهل العصر:
نظراً لبعد العهد الذي بين زماننا وعهد النبوة، وما مر على الأمة من رزايا، وما دُسّ فيها من بلايا، وما حدث من التأثر بالآخرين، وما فُتح على الناس من الدنيا.. نظراً لهذا ولغيره.. فقد ضَعُفَ الإيمان في قلوب كثير من المسلمين، الأمر الذي دفعهم إلى استثقال العبادات، وصعوبة هجر المنكرات، وتخلى كثير من المسلمين عن التمسك بدينهم، بل عن أداء بعض الأركان، وتفشى في الأمة سراً وجهاراً العصيان، ورغم هذا كله ما يزال وللأسف بعض العلماء والدعاة في مقام الأحكام.. يُصْدِرُون للناس وعلى الناس الأحكام، وكأنّ الناس على درجة من الإيمان توازي درجة الصحابة، بل وضعوا أنفسهم في مقام قضائي، كأنهم يعيشون في دنيا تختلف عن الدنيا التي يعيش فيها الآخرون.
فَفَرّ الناس منهم وهم لا يشعرون، وهم مازالوا على منابر الأحكام، ومنصات القضاء يصولون ويجولون.
فلعلّ هذا من أسرار جفاء الناس عن الطاعة، واستثقالهم العبادة، وعدم استجابتهم للأحكام.
لذا بات من الضروري جداً؛ أن يعيد هؤلاء الدعاة النظر في هذا المسلك، وأن يعملوا بهذه القاعدة المنهجية ((الإيمان قبل الأعمال والأحكام)) حتى يقوى الإيمان، فيرجع الناس ليسمعوا الأحكام، ويعملوا بها.
المطلب الثامن: سبل زيادة الإيمان:
يُستحسن -قبل مغادرة هذه القاعدة- ذكرُ بعض سُبل زيادة الإيمان التي تُعين العبد على الإقبال على الرحمن، وأداء ما افترضه من الواجبات والأركان. والانتهاء عن العصيان، وتُسهِّل على الداعية الدعوة، وقبول المدعوين لها.
ومن المعلوم من نصوص الكتاب والسنة، وما عليه أهل السنة والجماعة: أن الإيمان يزيد وينقص.
قال - تعالى -: (وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِيمَاناً...) الآية [المدثر:31].
وقال - تعالى -: (الّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاسُ إِنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173].
وكلما ازداد الإيمان، ازداد العبد صلاحاً وإقبالاً على ربه، وكلما نقص وضعُف، اقترب العبد من السوء، وأعرض عن ربه.
من الوسائل التي تزيد الإيمان:
- الأولى: التركيز على بيان صفات الله - عز وجل – جميعها، من العلم، والسمع، والبصر، والحكمة، و...، و بيان مقتضى الإيمان بها، وما يثمر من المحبة لله، والخشية منه، والوقوف عند حدوده، ومراقبته.
قال - تعالى -: (الرّحْمَنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) [الفرقان: 59]
وقال - تعالى -: (وَللّهِ الأسْمَآءُ الْحُسْنَىَ فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الّذِينَ يُلْحِدُونَ فِيَ أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأعراف:180]
ودعاء العبد بأسماء الله - وهو مؤمن بها، مدرك لمعناها - يَهَبُه لذة المناجاة، ويزيده قربة من ربه.
- الوسيلة الثانية: تبيين مصالح الطاعة، ومفاسد المعصية العامة والخاصة، فإن مقتضى حكمة الله أن لكل حكم مصلحةً بالغة في طاعته، ومفسدةً عظيمة في مخالفته، ومن ذلك ما يُدْرك، ومنه ما لا يُدْرك: (أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك: 14].
ولا يحل لمخلوق الخروج من شرع الله، سواءً أدرك الحكمة من ذلك أو لم يدرك، وسواءً حصّل مصلحته الظاهرة أو لم يحصّلها.
قال - تعالى -: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب: 36]، وقال - تعالى -: (إِنّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوَاْ إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلََئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور:51].
- الوسيلة الثالثة: الدعوة إلى محبة الله - عز وجل -، ومحبة رسوله ?، والرغبة في لقاء الله - عز وجل -، ولقاء رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بذكر نعم الله على الإنسان، وفضل رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال - تعالى -: (وَالّذِينَ آمَنُواْ أَشَدّ حُبّاً للّهِ.. ) الآية [البقرة: 165]، وقال - سبحانه -: (يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ... ) الآية [المائدة: 54].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.. )) الحديث.[12]
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه...)) الحديث. [13]
- الوسيلة الرابعة: الدعوة إلى تأمل خلق الله بعامة، وخلق الإنسان بخاصة.
قال - تعالى -: (إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلّيْلِ وَالنّهَارِ لاَيَاتٍ لاُوْلِي الألْبَابِ * الّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكّرُونَ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ...)
[آل عمران:190- 191]
وقال - تعالى -: (وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لّلْمُوقِنِينَ * وَفِيَ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ)[الذاريات:20- 21]
وقال صلى الله عليه وسلم: ((تفكروا في آلاء الله - وفي رواية: خلق الله-، ولا تتفكروا في الله))[14].
- الوسيلة الخامسة: استعمال أسلوب الترغيب والترهيب، وذلك بذكر جزاء المطيعين الصالحين، وجزاء المخالفين المفسدين.
وهذا أسلوب القرآن الكريم في دعوته، وأسلوب الرسل، وفي مقدمتهم محمد صلى الله عليهم وسلم جميعاً، وسيأتي تفصيل ذلك في مبحث الموازنة بين الترغيب والترهيب من منهجية الدعوة.
- الوسيلة السادسة: الحث على أداء العبادات، فإن العبادات - بعامة، وبعضها بخاصة كقيام الليل- تزيد في الإيمان.
قال - تعالى - في الحديث القدسي: ((وما تَقرَّب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضتُه عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مَسَاءَتَه))[15].
-الوسيلة السابعة: تلاوة القرآن وسماعه والتفكر فيه وفهمه.
قال - تعالى -: (إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ) [الأنفال: 2]
-الوسيلة الثامنة: مصاحبة الأخيار، ومجانبة الأشرار.
ولربما كانت هذه الوسيلة من أهم الوسائل تأثيرا في الإنسان، في زيادة إيمانه أو نقصانه.
وفضلاً عن النصوص من الكتاب والسنة التي تبيَّن هذا، فإن الشاهد الواقعي يؤكد تأثير الصحبة وبخاصة في مقتبل العمر..
وقد قال - تعالى -: (فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنّا كُنّا غَاوِينَ) [الصافات: 32]، وقال: (وَمَآ أَضَلّنَآ إِلاّ الْمُجْرِمُونَ) [الشعراء: 99].
وقال: ((المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يُخالل)).[16]
- الوسيلة التاسعة: استحضار مصير الإنسان، وعدم الغفلة عنه، والتذكير باليوم الآخر، وما يكون فيه من مواقف ومآل، فهو من أعظم الواعظين، ومن أفضل سبل زيادة الإيمان، والناظر في كتاب الله يجد من هذا اللون الكثير، فكم مرة قرن الله الإيمان باليوم الآخر بنفسه - سبحانه -؟ (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ.. ) [البقرة: 232] وكم مرة ختم الآيات بـ (وإليّ المصير)، (وإلى الله المصير)، وهكذا.
وقال: ((أكثروا من ذكر هادم اللذات))[17].
وقال ابن مسعود: "كفى بالموت واعظاً"[18].
وللإيمان وسائل كثيرة لزيادته، وهذه من أهمها. [19]
ـــــــــــــــ
[1] رواه أحمد (3/285)، والنسائي (7/61)، والحاكم (2/160)، وصححه، ووافقه الذهبي.
[2] رواه أبو داوود (4985، 4986)، والطبراني في الكبير (6/277)، وأبو بكر الإسماعيلي في معجمه (2/581)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (10/442)، وانظر صحيح أبي داود (4171، 4172).
[3] البخاري (38، 1901)، ومسلم (760).
[4] راجع سير أعلام النبلاء (4/429).
[5] راجع مجموع الفتاوى (22/605).
[6] الفضيخ: شراب يتخد من البسر (التمر قبل أن يصبح رطباً ويسمى بلحاً) وحده من غير أن تمسه النار. انظر لسان العرب(3/45)، مادة: (فضخ)، وكانوا يصنعون منه الخمر.
[7] رواه البخاري (4617)، ومسلم (1980).
* المرط: هو كساء (ثوب) للمرأة يصنع من صوف أو غيره، النهاية في غريب الحديث والأثر(3/319).
[8] رواه البخاري (4758، 4759).
[9] رواه البخاري (4993).
[10] رواه البيهقي (3/120)، وابن عساكر (31/160)، والحاكم (1/36) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعرف له علة، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
الدقل: التمر الرديء، النهاية، مادة: (د ق ل).
[11] المرجئ من المرجئة: وهم طوائف؛ منهم من يقول: إن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان ولا تزيده ولا تنقصه، وأن إيمان جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام كإيمان أفسق الفاسقين من المسلمين، ومنهم من يقول: الإيمان هو النطق باللسان فقط، ولا علاقة للقلب بذلك، ومنهم من يقول: الإيمان هو معرفة الله فقط، ولو لم يسلم العبد، ولو لم يؤمن بالنبي، والفرقتان الأخيرتان ضالتان بل الأخيرة كافرة [مجموع الفتاوى لابن تيمية7/194-206]، [الفرق بين الفرق للبغدادي(1/19)، ومابعدها، مقالات الإسلاميين للأشعري(1/132)، وما بعدها، الملل والنحل للشهرستاني (1/39)، وما بعدها].
[12] البخاري (16)، ومسلم (43)
[13] البخاري (6507)، ومسلم (2683).
[14] رواه الطبراني في الأوسط (6315)، وأبو الشيخ في العظمة (1)، واللالكائي في السنة (927)، والبيهقي في الشعب (120)، وذكره الشيخ الألباني في الصحيحة (1788).
[15] رواه البخاري (6502).
[16] رواه أبو داود (4833)، والترمذي (2378)، وقال حسن غريب، وصححه غير واحد من الأئمة، منهم: الحاكم كما في المستدرك (4/171)، والألباني في الصحيحة (927).
[17] واه الترمذي (2307)، والبيهقي في الشعب (10559)، وفي الزهد الكبير (690)، والحاكم (4/321)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (9/469)، وورد بلفظ هاذم كذلك والأول أصح.
[18] رواه أحمد في الزهد (176)، و نعيم بن حماد في زوائد زهد ابن المبارك (148)، وابن أبي الدنيا في اليقين (30)
[19] ولكاتب هذه الحروف رسالة مطولة في سبل زيادة الإيمان يسر الله نشرها.