إنَّ شريعة الإسلام هي شريعةُ الرَّحمة للعالَمين، وهي شِرعة العدل والسَّماحة في كلِّ الميادين؛ من أجل ذلك لم يكن عجيبًا أن تجدَ هذه الشريعةَ تأتي في مسائل القتال والجهاد بقواعدَ أخلاقيَّة، ومبادئَ أدبيَّة لا يملك أيُّ مُنصِف إلاَّ أن يعبِّر عن شدة احترامه وإجلاله لهذه الشريعة، والجزم بأنَّه لا يمكن لكلِّ ذاك المكنون الأخلاقي إلاَّ أن ينبثق من نور الوحي الإلهي.
ومن هذه القواعد الأخلاقيَّة العظيمة قاعدة: "عدم قتال مَن لم يُقاتِل"، وهي تابعةٌ في الأساس لقاعدةٍ عُظمى؛ وهي قاعدة تحريم الاعتداء على الآخرين بغير حقٍّ، أو التَّعدِّي على الأبرياء بغير ذنب اقترفوه.
من أجل ذلك قرَّرت الشريعةُ الإسلاميَّة: أنَّ قتال الذين لا يشتركون في القِتال ولا يَقدرون عليه هو نوعٌ من الاعتداء الذي نهى الإسلام عنه، وذَمَّه وحرَّمه، وعدَّه من الجرائم الحربيَّة.
ومن الأدلة على ذلك:
- قوله الله - تعالى-: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].
قال شيخ الإسلام ابن تيميةَ: "وإذا كان أصلُ القتال المشروع هو الجِهادَ، ومقصودُه هو أن يكون الدِّين كلُّه لله، وأن تكون كلمةُ الله هي العليا، فمن مَنَع هذا قوتِل باتِّفاق المسلمين.
وأمَّا من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنِّساء والصِّبيان، والراهب والشيخ الكبير، والأعمى والزَّمِن ونحوهم - فلا يُقتل عند جمهور العلماء إلاَّ أن يُقاتِل بقوله أو فِعْله، وإن كان بعضُهم يرى إباحةَ قتل الجميع لمجرَّد الكفر إلاَّ النِّساء والصبيان؛ لكونِهم مالًا للمسلمين.
والأوَّل هو الصواب؛ لأنَّ القتال هو لِمَن يقاتلنا إذا أردنا إظهارَ دِين الله؛ كما قال الله – تعالى -: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190]"[1].
ومن الأدلة أيضًا: ما جاء في الصَّحيحَين عن نافع: أنَّ عبدالله - رضي الله عنه - أخبرَه: أنَّ امرأةً وُجدت في بعض مغازي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مقتولة، فأنكر رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قتْلَ النِّساء والصِّبيان[2].
وفي لفظ: "فنهى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن قتْلِ النِّساء والصِّبيان" [3].
ومثله ما أخرجه أحمد وأبو داود بسند صحيح: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خرج في غزوة غزاها، وعلى مقدمته خالدُ بن الوليد، فمرَّ أصحابُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على امرأةٍ مقتولة ممَّا أصابتِ المُقدِّمة، فوقفوا ينظرون إليها، ويتعجَّبون من خَلقها، حتى لحقهم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على راحلته، فانفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((ما كانتْ هذه لتقاتِل))، فقال لأحدهم: ((الْحقْ خالدًا فقلْ له: لا تقتلوا ذُريَّة، ولا عسيفًا))[4].
وقد ذكر المحقِّقون أنَّ هذه الواقعة كانت في غزوة حنين.
ومنها أيضًا: ما رواه مسلم وأبو داود عـن سليمان بن بُريدةَ، عـن أبيه: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((اغزُوا باسم الله، وفي سبيل الله، وقاتِلوا مَن كَفَر بالله، اغزوا ولا تَغدِروا، ولا تَغلُّوا ولا تُمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا))[5].
وفي رواية عند البيهقي وغيره: ((ولا تقتلوا وليدًا طِفلًا، ولا امرأةً، ولا شيخًا كبيرًا...)) [6].
وفي شرح معاني الآثار للطحاوي بسند صحيح: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان إذا بعث جيوشَه قال: ((لا تقتلوا الوِلْدان))، وفي رواية: ((لا تقتلوا شيخًا كبيرًا))، وفي رواية ((لا تقتلوا وليدًا ولا امرأةً))[7].
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كتب عمر - رضي الله عنه - إلى الأجناد:"لا تقتلوا امرأة ولا صبيًّا".
ومن وصايا أبي بكر لأمراء الجُند: "لا تقتلوا امرأةً، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هَرمًا، ولا تقطعوا شجَرًا مُثمرًا، ولا تُخرِّبُنَّ عامرًا، ولا تَعقرنَّ شاةً ولا بعيرًا إلاَّ لمأكلة، ولا تُغرقُنَّ نخلًا ولا تحرقنَّه، ولا تغلل، ولا تجبُن"[8].
وعن يَزيد بن هُرْمُز: أنَّ نجدَةَ كتبَ إلى ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - يسأله عن قتْل أطفال المشركين، فكتب إليه ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "إنَّك كتبتَ إليَّ تسأل عن قتل أطفال المشركين، فإنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يقتلْهم، وأنت فلا تقتلْهم، إلاَّ أن تعلمَ منهم ما عَلِم الخَضِرُ من الغلام حين قتلَه"[9].
فلا يُقتل أحدٌ بذنب غيره، ولا يُؤخذ ابنٌ بجريرة أبيه، أو امرأة بجريرة زوجها، ولا تزر وازرةٌ وزرَ أخرى، وهذا أسمى معاني العدالة والرَّحمة.
روى النسائي بسند صحيح عن مسروق عن عبدالله قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا ترجعوا بعدي كفَّارًا يضرب بعضُكم رِقابَ بعض، ولا يُؤخذ الرَّجل بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه))[10]، والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة.
أمَّا من الناحية العمليَّة التطبيقيَّة، فإنَّنا نجد بتصفُّح السِّيرة النبويَّة ودراستها أنَّه على الرَّغم من كثرة عدد الحروب والغزوات التي خاضها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثُمَّ التي خاضها أصحابه - رضوان الله تعالى عنهم - فإنَّه لم يُعرف عنهم أنَّهم قصدوا قتلَ ذراري وأطفال المشركين، أو قتْل نِسائهم، أو شيوخهم رغمَ ما تعرَّض له المسلمون من اعتداءات سافرة.
وقد جمع العلماءُ أصنافَ الذين لا يجوز قتالهم، أو التعرُّض له بالاعتداء، فذكروا منهم: النِّساء، والأطفال، والرُّهبان ورجال الدِّين، والشُّيوخ كِبار السِّن، والزَّمنْىَ[11]، والعُسفاء - وهم الأجراء والفلاَّحون - ويُشترط في الجميع ألاَّ يشتركوا في القِتال، ولا يُعينون عليه بحال.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "وللعلماء فيهم صور سِتٌّ:
الأولى: النساء: إن قاتلنَ قُتلنَ، قال سحنون: في حالة المقاتلة وبعدَها؛ لعموم قوله – تعالى -: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ [البقرة: 190]، وقوله – تعالى-: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾ [البقرة: 191]، وللمرأة آثارٌ عظيمة في القِتال؛ منها: الإمداد بالأموال، ومنها: التحريض على القتال، وقد يَخرجنَ ناشراتٍ شعورهنَّ، نادباتٍ مثيرات معيِّرات بالفرار، وذلك يُبيح قَتلَهنَّ.
غيرَ أنَّهنَّ إذا حصلن في الأَسْر فالاسترقاق أنفعُ لسرعةِ إسلامهنَّ، ورجوعهنَّ عن أديانهن، وتعذر فرارهنَّ إلى أوطانهن، بخلاف الرَّجل.
الثانية: الصبيان: فلا يُقتلون للنهيِ الثابت عن قتْل الذُّريَّة، ولأنَّه لا تكليفَ عليهم، فإن قاتَلَ الصبيُّ قُتِل.
الثالثة: الرهبان: لا يُقتلون، ولا يُسترقُّون، بل يُترك لهم ما يعيشون به مِن أموالهم، وهذا إذا انفردوا عن أهْل الكُفر؛ لقول أبي بكر ليزيد: "وستجد أقوامًا زعموا أنَّهم حبسوا أنفسَهم لله، فذرهم وما زعموا أنَّهم حبسوا أنفسهم له، فإن كانوا مع الكفَّار في الكنائس قُتِلوا".
الرابعة: الزَّمْنى: الصحيح أن تُعتبر أحوالُهم، فإن كانت فيهم إذايةٌ قُتلوا، وإلاَّ تُركوا وما هم بسبيله من الزَّمانة، وصاروا مالاً على حالهم وحشوة.
الخامسة: الشيوخ: قال مالك في كتاب محمَّد: "لا يُقتلون، والذي عليه جمهور الفقهاء: إن كان شيخًا كبيرًا لا يُطيق القِتال، ولا يُنتفع به في رأي، ولا مدافعة، فإنَّه لا يُقتل، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قول الجماعة، والثاني: يقتل هو والراهب، والصحيح الأوَّل؛ لقول أبي بكر ليزيد، ولا مخالِفَ له، فثبت أنَّه إجماع، وأيضًا فإنَّه ممَّن لا يقاتل، ولا يُعين العدوَّ، فلا يجوز قتلُه كالمرأة.
السادسة: العسفاء: وهم الأُجراءُ والفلاَّحون، فقال مالك في كتاب محمَّد: لا يُقتلون، وقال الشافعي: يُقتل الفلاَّحون والأجراء والشُّيوخ الكِبار إلاَّ أن يُسلِموا، أو يُؤدُّوا الجِزية.
والأوَّل أصحُّ؛ لقوله - عليه السلام - في حديث رباح بن الربيع: ((الْحقْ بخالد بن الوليد، فلا يَقتلنَّ ذريَّة ولا عسيفًا".
ومن هذه القواعد الأخلاقيَّة العظيمة قاعدة: "عدم قتال مَن لم يُقاتِل"، وهي تابعةٌ في الأساس لقاعدةٍ عُظمى؛ وهي قاعدة تحريم الاعتداء على الآخرين بغير حقٍّ، أو التَّعدِّي على الأبرياء بغير ذنب اقترفوه.
من أجل ذلك قرَّرت الشريعةُ الإسلاميَّة: أنَّ قتال الذين لا يشتركون في القِتال ولا يَقدرون عليه هو نوعٌ من الاعتداء الذي نهى الإسلام عنه، وذَمَّه وحرَّمه، وعدَّه من الجرائم الحربيَّة.
ومن الأدلة على ذلك:
- قوله الله - تعالى-: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190].
قال شيخ الإسلام ابن تيميةَ: "وإذا كان أصلُ القتال المشروع هو الجِهادَ، ومقصودُه هو أن يكون الدِّين كلُّه لله، وأن تكون كلمةُ الله هي العليا، فمن مَنَع هذا قوتِل باتِّفاق المسلمين.
وأمَّا من لم يكن من أهل الممانعة والمقاتلة كالنِّساء والصِّبيان، والراهب والشيخ الكبير، والأعمى والزَّمِن ونحوهم - فلا يُقتل عند جمهور العلماء إلاَّ أن يُقاتِل بقوله أو فِعْله، وإن كان بعضُهم يرى إباحةَ قتل الجميع لمجرَّد الكفر إلاَّ النِّساء والصبيان؛ لكونِهم مالًا للمسلمين.
والأوَّل هو الصواب؛ لأنَّ القتال هو لِمَن يقاتلنا إذا أردنا إظهارَ دِين الله؛ كما قال الله – تعالى -: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190]"[1].
ومن الأدلة أيضًا: ما جاء في الصَّحيحَين عن نافع: أنَّ عبدالله - رضي الله عنه - أخبرَه: أنَّ امرأةً وُجدت في بعض مغازي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مقتولة، فأنكر رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قتْلَ النِّساء والصِّبيان[2].
وفي لفظ: "فنهى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن قتْلِ النِّساء والصِّبيان" [3].
ومثله ما أخرجه أحمد وأبو داود بسند صحيح: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خرج في غزوة غزاها، وعلى مقدمته خالدُ بن الوليد، فمرَّ أصحابُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على امرأةٍ مقتولة ممَّا أصابتِ المُقدِّمة، فوقفوا ينظرون إليها، ويتعجَّبون من خَلقها، حتى لحقهم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على راحلته، فانفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((ما كانتْ هذه لتقاتِل))، فقال لأحدهم: ((الْحقْ خالدًا فقلْ له: لا تقتلوا ذُريَّة، ولا عسيفًا))[4].
وقد ذكر المحقِّقون أنَّ هذه الواقعة كانت في غزوة حنين.
ومنها أيضًا: ما رواه مسلم وأبو داود عـن سليمان بن بُريدةَ، عـن أبيه: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((اغزُوا باسم الله، وفي سبيل الله، وقاتِلوا مَن كَفَر بالله، اغزوا ولا تَغدِروا، ولا تَغلُّوا ولا تُمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا))[5].
وفي رواية عند البيهقي وغيره: ((ولا تقتلوا وليدًا طِفلًا، ولا امرأةً، ولا شيخًا كبيرًا...)) [6].
وفي شرح معاني الآثار للطحاوي بسند صحيح: أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان إذا بعث جيوشَه قال: ((لا تقتلوا الوِلْدان))، وفي رواية: ((لا تقتلوا شيخًا كبيرًا))، وفي رواية ((لا تقتلوا وليدًا ولا امرأةً))[7].
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كتب عمر - رضي الله عنه - إلى الأجناد:"لا تقتلوا امرأة ولا صبيًّا".
ومن وصايا أبي بكر لأمراء الجُند: "لا تقتلوا امرأةً، ولا صبيًّا، ولا كبيرًا هَرمًا، ولا تقطعوا شجَرًا مُثمرًا، ولا تُخرِّبُنَّ عامرًا، ولا تَعقرنَّ شاةً ولا بعيرًا إلاَّ لمأكلة، ولا تُغرقُنَّ نخلًا ولا تحرقنَّه، ولا تغلل، ولا تجبُن"[8].
وعن يَزيد بن هُرْمُز: أنَّ نجدَةَ كتبَ إلى ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - يسأله عن قتْل أطفال المشركين، فكتب إليه ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "إنَّك كتبتَ إليَّ تسأل عن قتل أطفال المشركين، فإنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يقتلْهم، وأنت فلا تقتلْهم، إلاَّ أن تعلمَ منهم ما عَلِم الخَضِرُ من الغلام حين قتلَه"[9].
فلا يُقتل أحدٌ بذنب غيره، ولا يُؤخذ ابنٌ بجريرة أبيه، أو امرأة بجريرة زوجها، ولا تزر وازرةٌ وزرَ أخرى، وهذا أسمى معاني العدالة والرَّحمة.
روى النسائي بسند صحيح عن مسروق عن عبدالله قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا ترجعوا بعدي كفَّارًا يضرب بعضُكم رِقابَ بعض، ولا يُؤخذ الرَّجل بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه))[10]، والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة.
أمَّا من الناحية العمليَّة التطبيقيَّة، فإنَّنا نجد بتصفُّح السِّيرة النبويَّة ودراستها أنَّه على الرَّغم من كثرة عدد الحروب والغزوات التي خاضها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثُمَّ التي خاضها أصحابه - رضوان الله تعالى عنهم - فإنَّه لم يُعرف عنهم أنَّهم قصدوا قتلَ ذراري وأطفال المشركين، أو قتْل نِسائهم، أو شيوخهم رغمَ ما تعرَّض له المسلمون من اعتداءات سافرة.
وقد جمع العلماءُ أصنافَ الذين لا يجوز قتالهم، أو التعرُّض له بالاعتداء، فذكروا منهم: النِّساء، والأطفال، والرُّهبان ورجال الدِّين، والشُّيوخ كِبار السِّن، والزَّمنْىَ[11]، والعُسفاء - وهم الأجراء والفلاَّحون - ويُشترط في الجميع ألاَّ يشتركوا في القِتال، ولا يُعينون عليه بحال.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "وللعلماء فيهم صور سِتٌّ:
الأولى: النساء: إن قاتلنَ قُتلنَ، قال سحنون: في حالة المقاتلة وبعدَها؛ لعموم قوله – تعالى -: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ [البقرة: 190]، وقوله – تعالى-: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾ [البقرة: 191]، وللمرأة آثارٌ عظيمة في القِتال؛ منها: الإمداد بالأموال، ومنها: التحريض على القتال، وقد يَخرجنَ ناشراتٍ شعورهنَّ، نادباتٍ مثيرات معيِّرات بالفرار، وذلك يُبيح قَتلَهنَّ.
غيرَ أنَّهنَّ إذا حصلن في الأَسْر فالاسترقاق أنفعُ لسرعةِ إسلامهنَّ، ورجوعهنَّ عن أديانهن، وتعذر فرارهنَّ إلى أوطانهن، بخلاف الرَّجل.
الثانية: الصبيان: فلا يُقتلون للنهيِ الثابت عن قتْل الذُّريَّة، ولأنَّه لا تكليفَ عليهم، فإن قاتَلَ الصبيُّ قُتِل.
الثالثة: الرهبان: لا يُقتلون، ولا يُسترقُّون، بل يُترك لهم ما يعيشون به مِن أموالهم، وهذا إذا انفردوا عن أهْل الكُفر؛ لقول أبي بكر ليزيد: "وستجد أقوامًا زعموا أنَّهم حبسوا أنفسَهم لله، فذرهم وما زعموا أنَّهم حبسوا أنفسهم له، فإن كانوا مع الكفَّار في الكنائس قُتِلوا".
الرابعة: الزَّمْنى: الصحيح أن تُعتبر أحوالُهم، فإن كانت فيهم إذايةٌ قُتلوا، وإلاَّ تُركوا وما هم بسبيله من الزَّمانة، وصاروا مالاً على حالهم وحشوة.
الخامسة: الشيوخ: قال مالك في كتاب محمَّد: "لا يُقتلون، والذي عليه جمهور الفقهاء: إن كان شيخًا كبيرًا لا يُطيق القِتال، ولا يُنتفع به في رأي، ولا مدافعة، فإنَّه لا يُقتل، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قول الجماعة، والثاني: يقتل هو والراهب، والصحيح الأوَّل؛ لقول أبي بكر ليزيد، ولا مخالِفَ له، فثبت أنَّه إجماع، وأيضًا فإنَّه ممَّن لا يقاتل، ولا يُعين العدوَّ، فلا يجوز قتلُه كالمرأة.
السادسة: العسفاء: وهم الأُجراءُ والفلاَّحون، فقال مالك في كتاب محمَّد: لا يُقتلون، وقال الشافعي: يُقتل الفلاَّحون والأجراء والشُّيوخ الكِبار إلاَّ أن يُسلِموا، أو يُؤدُّوا الجِزية.
والأوَّل أصحُّ؛ لقوله - عليه السلام - في حديث رباح بن الربيع: ((الْحقْ بخالد بن الوليد، فلا يَقتلنَّ ذريَّة ولا عسيفًا".