لا شكّ أن التعليم الجامعي ضروري جدّا لينهل الطالب من العلوم وليكتسب "حِرفة علمية" إن جاز التعبير ليعتاش منها وليمارس هذا العلم في عمله في المستقبل، سواء كان موضوعه الذي يدرسه من العلوم التطبيقية أو من العلوم الاجتماعية أو غير ذلك. ولكن ثمة بعد آخر ينبغي أن ينتبه إليه من يرنو إلى بناء عقله وتفكيره وهو "الثقافة"، وهي شيء آخر وراء مجرد التعليم أو الحصول على شهادة جامعية.
إنّ الحدّ الأدنى من التعليم يكسبك ثقافة كافية في مجال تخصصك، ويمنحك "رخصة" لمزاولة مهنة ما، ولكن الاقتصار على هذا الحدّ الأدنى مؤذٍ للمجتمع؛ ذلك أن الطالب إذا لم يبادر إلى بناء ثقافته -في مجاله قبل كل شيء- زيادة على الإطار المنهجي في الدراسة الأكاديمية فلن يساهم في بناء ثقافته الذاتية وثقافة المجتمع من حوله، بل سيعطي صورة سلبية عن "المتعلّم غير المثقّف" الذي يتعامل مع شهادته باعتبارها رخصة لمزاولة المهنة فحسب، دون وازع ثقافي يجعله يزداد ثقافة في مجاله أو يتعامل معه بشغف وفضول.
وإذا تجاوزنا قضية أنّ الأصل في اختيار الموضوع -إلى جانب امتلاك مؤهلات دراسته (العلامات) ووجود فرص عمل فيه- هو أن يحبّ الطالب هذا الموضوع ويجد نفسه فيه، كي يبدع فيه ويتقدم، فإنّ إحدى القضايا الخطيرة التي تواجه الطلاب هي قضية "الثقافة"، وفي هذا المقال سأوجّه بعض النصائح للطلاب الجدد على وجه الخصوص والطلاب عموما حول كيفية بناء الثقافة الذاتية.
إحدى أبرز المشكلات في سلوك الطلاب مع التعليم هي أنّهم يظنّون -أو هكذا يقال لهم- أنّه لا ينبغي لهم الاهتمام بشيء سوى مادة المساقات التعليمية التي تُجرى لهم بناء عليها الاختبارات الفصلية. وهذه النصيحة -على الخير الذي فيها- تقطع الطريق على خير عظيم يمكن للطالب أن يحصّله، وهو الخير الكامن في الوجود في مؤسسة أكاديمية مع أشخاص أكاديميين، واقتناص هذه الفرصة الثمينة في بناء الثقافة.
المكتبة.. ذلك الكنز المعرفي الثمين
لا يمكن بناء الثقافة دون القراءة والتوسع فيها، أي عدم الاقتصار على قراءة المواد المطلوبة بالامتحان بنيّة حفظها وإلصاقها في ورقة الامتحان، بل ينبغي للطالب أن يقرأ -في مجاله تحديدا- فيما وراء هذه المواد، وهنا تكون أمامه فرصة عظيمة تتمثّل بـ "المكتبة"! والمكتبة كنز عظيم ينبغي للطالب أن يدخله لا للدراسة فحسب، بل لاستعارة الكتب التي يدفعه الفضول العلمي لالتهامها، أو الجلوس فيها لساعات قليلة في الأسبوع من أجل القراءة والنهل من العلوم. وليس بالضرورة أن يكون ذلك في المجال الذي تدرسونه، بل قد يكون في مجال آخر لديكم مساحة كبيرة من الجهل فيه، وتعتقدون أنه من المهم الاطلاع عليه وبناء الثقافة فيه.
التلاقُح الثقافي.. أداة مهمة في توسيع الآفاق
وإلى جانب المكتبة فهناك الكثير من أهل الثقافة والعلم والطلاب النابهين في الجامعة، وهو ما يتيح للطالب فرصة عظيمة لمناقشة قضايا العلم والثقافة والمجتمع وغيرها، فالتفاعل مع الأشخاص الذين يحملون وجهات نظر مختلفة ومعارف مختلفة وتداول الآراء هو أداة مهمة وفعالة جدا في بناء ثقافة واسعة، متفهّمة، واعية للآراء الأخرى. ذلك أن إحدى أكبر مشكلات بعض الطلاب هي الاقتصار على لون واحد من القراءات أو الأشخاص، مما يبني عقلية منغلقة لا يمكنها استيعاب الاختلاف في القضايا الحياتية المختلفة، أو لا يمكنها إدارة الخلاف بشكل مرن وذكي. وهنا تكمن أهمية الوجود في وسط يجمع الأفكار من النقيض إلى النقيض. ليست هذه دعوة إلى قبول كل فكرة، ولكنها دعوة إلى الاطلاع على مختلف وجهات النظر، وهو ما يساهم في بناء ثقافة أقوى وأمتن.
الفضول.. الفريضة العلمية الغائبة
إحدى معادلات التعلّم الغائبة -مع الأسف- عن معظم طلابنا هي معادلة "الفضول"، وهي ببساطة أن يُقبل الإنسان على القراءة والدراسة بفضول ونهم، أي برغبة عارمة في قلبه وعقله للمعرفة والاستكشاف. يقرأ لأنّه يريد أن يعرف تلك المعلومة، لأنّ ثمّة نهمًا قاتلا يجتاح صدره يدفعه إلى المعرفة واكتشاف المعلومة أو حل المعادلة أو معرفة الأحداث.. ومن هناك تنبع أهمية اختيار الموضوع بناء على ما يتناسب مع شغفنا واهتماماتنا، فهذه خطوة أساسية تمهّد الطريق وتجعله سهلا لممارسة "الفضول" في دراسة المواد العلمية وحفظها.
وحتى ندرك الفرق بين الدراسة الممزوجة بالفضول والدراسة الجافة المنطلقة فقط من ضرورة أداء هذا الواجب لاجتياز الاختبار، يحسنُ بكم أن تقارنوا بين حفظكم لأشياء تحبّونها (رواية، مسلسل، فيلم) وحفظكم لمادة تقرؤونها بنية اجتياز الامتحان فقط، دون التفاعل معها ولا فضول يدفع لقراءتها. ستجدون ببساطة أنّكم ستتذكّرون أحداث الرواية لأنّ ثمّة "تجربة شعورية" حاضرة أثناء قراءتها، وستذكرون مقاطع الفيلم وأحداثه ولحظاته الفريدة لأنّكم تفاعلتم معها، ولأنّ مشاعركم كانت مشدودة إلى كل كلمة تخرج من فم ذلك الممثّل.
وهكذا، يصنع الفضول العجائب عندما يوجد أثناء تحصيل معرفة ما. ولا زلت أذكر أنني منذ المرحلة الإعدادية والثانوية كنت أحبّ مادة التاريخ، وكنت - بخلاف معظم الطلاب - لا أملي ما يقوله الأستاذ، لسبب بسيط: أنّ الأستاذ إنما كان يملي مادة الكتاب بلغته! كنت أترك كل شيء وأستمع للأستاذ وهو يحكي لنا أحداث الحروب والصراعات السياسية والأحوال الاجتماعية بشغف وفضول لمعرفة ماذا سيحدث بعد ذلك، وكنت حين أعود إلى البيت أقرأ صفحات للأمام كي أعرف المزيد.. وبهذا النهج - التلقائي غير المخطّط - ورغم أنني لم أكن أكتب شيئا في الدفتر، كنت أقتصر قبل الامتحان على قراءة المادة المطلوبة قراءة واحدة مستوعبة، ثم أحصل على نتيجة جيّدة في الامتحان، دون المعاناة في الدراسة والحفظ!
المنهجية العلمية في التعامل مع المعارف
من أهم الأدوات التي ينبغي للطالب أن يكتسبها في الجامعة أداة البحث العلمي، والتعامل العلمي عموما مع كل معلومة يجدها أمامه. فأنت حين تكتب وظيفة نهائية ضمن مساق تعليمي معيّن، يُطلب منك أن تذكر مصدر كل معلومة تودعها في سطور هذه الوظيفة، ولا يقبل منك الأستاذ الدكتور أن تسرد كلاما من عنديّاتك دون إحالة إلى مصدر. إنّ الالتفات إلى قيمة هذا السلوك واعتماده كمنهج حياة في تناول الأفكار والمعلومات؛ هو من أهم ما يمكن أن تستفيده من الجامعة، بل يكاد يفوق أهمية المواد نفسها التي ستنسى الكثير منها بعد التخرّج!
حن نعيش أزمة في مجتمعنا تتمثّل بالتعامل غير العلمي مع المعلومات والأخبار؛ إذ تعاني الأجيال - من مختلف الأعمار - من فقدان المقدرة على تمحيص المعلومة وقبول الآراء والأفكار والأخبار، وذلك بسبب غياب المنهج العلمي، رغم أنّ حضارتنا الإسلامية قدّمت لنا منهجا دقيقا في التعامل مع المعلومات، وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (سورة الإسراء: 36).
وفي سِيَرِ علمائنا قدوة حسنة أيضا؛ فالناظر إلى كتب "الحديث" الإسلامية على سبيل المثال، سيجد تفانيا عظيما في عدم قبول أي خبر عن النبي صلى الله عليه وسلّم دون أن يكون "مُسندًا"، أي دون معرفة مصدر المعلومة، ولم يقتصروا على ذلك، بل أسّس علماؤنا لعلم لم يوجد عند أمة من الأمم قبلهم أو بعدهم، وهو علم الرجال أو علم الجرح والتعديل، وهو قائم على دراسة كل شخصيات الرواة - وهم بالآلاف - في كتب متخصصة، من حيث توثيقهم وضعف نقلهم أو قوّته وعدالتهم وغير ذلك من المعايير الدقيقة التي تؤثر في الحكم النهائي على الحديث؛ هل هو صحيح أم لا؟ فما بالنا نحن أحفاد هؤلاء العظماء نُغفل قيمة "التوثيق العلمي" سواء في الوظائف الجامعية أو فيما نكتب وننشر وفيما نتحدث بين الناس؟!
إنّ قيمة التوثيق العلمي قيمة مهمة جدا ليس فقط لنكون أخلاقيين، وهو أهم ما في الأمر، بل كذلك لنكون على درب نهضة أمتنا؛ إذ لا نهضة ولا رقيّ بدون منهج علمي متين تُبنى من خلاله العقول. واحذر أخي الطالب، أختي الطالبة من منهج سرقة الوظائف العلمية وتزويرها للحصول على الشهادة الجامعية، فربما تكون قد حصلت على شهادة لتزاول بها عملك، ولكنك خسرت أخلاقك وضميرك أولا، ثم خسرت شغف المعرفة وممارسة البحث العلمي الذي يبني فيك العقلية العلمية، والتي بفقدانها ستعاني طوال حياتك من الضحالة والسطحية!
وللغة العربية نصيب..
في إطار حديثنا عن "الطلاب العرب" لا بدّ من التأكيد على أهمية امتلاك لغة عربية جيّدة لكل مثقّف عربي، أيا كان توجّهه وأيّا كان مجال دراسته: الطب، الفيزياء، علم الأحياء، التاريخ، العبرية، الإنجليزية، التمريض... إلخ.. فاللغة هي وعاء الفكر، وأي فكر يكون لشعب عربي يجهل لغته ويجافيها؟
عندما أراد أصحاب الفكر الصهيوني بناء شعب متخيّل وتصييره واقعًا -كما هو اليوم- كان من أول ما التفتوا إليه هو إعادة إحياء اللغة العبرية، والتي كانت لغة مكتوبة ومَتْلُوّة في المعابد دون أن تكون متداولة في الحياة، وقد نجحوا في هذه المهمة مع لغة انقطعت عن الوجود الواقعي لقرون متطاولة! فما بالنا نحن والعربية بيننا وفينا نتنكّر لها وننفر عنها؟!
إنّ فترة الدراسة الجامعية -عن تجربة- هي أكثر الفترات خصوبة للقراءة والتداول الثقافي، وهي بذلك من الفرص المتاحة ليبني الطالب ثقافته العربية بمطالعة كتب الأدب -القديم والحديث- واللغة والتراث عموما، مما يزيد من ارتباطه بلغته العربية. وليس من المروءة أن يكون المرء حاملا للقب "الماجستير" مثلا في علم النفس، ثم هو لا يستطيع كتابة رسالة عادية بلغة عربية سليمة خالية من الأخطاء!
إنّ الهدف من الاطلاع على الثقافة العربية والقراءة في هذا المجال ليس هو مجرد إتقان الكتابة والقراءة بلغة سليمة، بل اللغة -كما ذكرت- هي وعاء للفكر وركن أساسي في إحياء أي أمة ونهضتها، ولذا كان الاهتمام باللغة جزءًا من إعادة الحياة لنفوسنا والاعتزاز بتلك الثقافة وأمجادها الغائبة، وهو عنصر مهم في بناء القلوب المندفعة للتقدّم بوازع أصيل، ومهم أيضا لمقاومة التغريب والاستلاب الحضاري والتبعية اللغوية والفكرية.