بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله
حب الناس لمعرفة الغيب، وميلهم لاستكشاف المجهول، يدفعهم لأن ينسوا حاضرهم، ولم يفكروا في ماضيهم،
وكلما عرفوا شيئا من الغيب؛ ندموا وتمنوا الحاضر والواقع، وكلما اتضح شيءٌ من المجهول؛
ندموا وتمنوا أن لو بقوا في المعلوم والمعروف، وكل ذلك التمني والندم يكون بعد فوات الأوان،
والناس لو اطلعوا على الغيب لاختاروا الواقع، وإليكم بعض هذه الأمنيات التي وقعت بعد فرات الأوان:
فهذا هو النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أنه حجَّ متمتعا لا قارنا لولا أنه ساق الهدي، فعن عَائِشَةَ قَالَتْ:
قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَحَلَلْتُ مَعَ النَّاسِ حِينَ حَلُّوا "
صحيح البخاري (6802) أي (أي لو تأخر من أمري ما تقدم من سوق الهدى ما فعلته).
ومن خوفهم من الآخرة تمنى بعضهم أن يكون شجرة
قال أبو بكر رضي الله عنه :(يا ليتني شجرة تعضد ثم تؤكل)
ونحوه عن أبي ذر وعائشة
وأخذ عمر بن الخطاب رضي الله عنه تبنة ، فقال: (يا ليتني مثل هذه التبنة، ليت أمي لم تلدني، ليتني لم أك شيئا، ليتني كنت نسيا منسيا).
قال ابن مسعودرضي الله عنه: (لو وقفت بين الجنة والنار، فخيرت بينهما، أيهما منزلي، أو أكون ترابا؟ لاخترت أن أكون ترابا). قال أبو عبيدة: (يا ليتني كبشا؛ فذبحني أهلي، فأكلوا لحمي، وحسوا مرقي). وقاله أيضا كعب ونحوه عن عمر. وقال عمران بن حصين: (يا ليتني رمادا تذريني الريح)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : (يا ليتني إذا مت كنت نسيا منسيا).
وقالت رضي الله عنها: (يا ليتني كنت عصا رطبا).
وعن أبي وائل، قال: لما حضر بشر بن مروان قال: (والله! لوددت أني كنت عبدا حبشيا لشر أهل المدينة ملكة، أرعى عليهم غنمهم، وأني لم أكن فيما كنت فيه).
فقال شقيق: الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا، ولا نفر إليهم، إنهم ليرون فينا عِبَرًا وإنا لنرى فيهم غِيَرًا([1]).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (يا ليتني كنت لَبِنَةً من هذا اللبن لا عليّ ولا لي).
وعن الحسن قال: خرج هرم بن حيان، وعبد الله بن عامر يريدان الحجاز، فبينما هما يسيران على راحلتيهما؛
إذ مرَّا على مكان فيه كلأٌ ...، فجعلت راحلتاهما تخالجان ذلك الشجر، فقال هرم بن حيان:
(يا ابن عامر! أيسرك أنك شجرة من هذه الشجر، أكلتك هذه الراحلة، فقذفتك بعرا ، فاتُخِذْت جِلَّة؟)
قال: (لا والله! لِما أرجو من رحمة الله تعالى أحبُّ إليَّ من ذلك)
فقال هرم بن حيان: (لكني والله! وددت أني شجرة من هذه الشجر، أكلتني هذه الناقة فقذفتني بعرا، فاتخذت جلة،
ولم أكابد الحساب يوم القيامة؛ إما إلى جنة، وإما إلى نار، ويحك يا ابن عامر! إني أخاف الداهية الكبرى).
قال الحسن: (كان والله! أفقههما وأعلمهما بالله عز وجل).
وعن عمر بن عبد الله مولى غفرة، أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، رأى طيرا يطير، ويقع على شجرة، فقال: (يا طير ما أنعمك! لا حساب عليك ولا عذاب، يا ليتني مثلك).
وعن محمد بن إسحاق قال: (تمنى عبد الملك بن مروان الخلافة،
وتمنى مصعب بن الزبير سكينةَ بنتَ الحسين، وعائشةَ بنت طلحة، وتمنى سعيد بن المسيب الجنة).
فقال سعيد بن المسيب: (أصابا أمنيتهما، وأنا أرجو أن أعطى الجنة).
وعن عليٍّ رضي الله عنه، قال يوم الجمل: (ليتني مت قبل هذا اليوم بكذا وكذا).
وعن أبي إسحاق قال: سمعت أبا ميسرة يقول: (ليت أمي لم تلدني!)
فتقول له امرأته: يا أبا ميسرة، أليس قد أحسن الله إليك؟ هداك للإسلام، وعلّمك القرآن؟
قال: (بلى! ولكن أخبرنا أنا واردون النار، ولم نخبر أنا صادرون عنها).
وعن محمد بن سيرين قال: (ما تمنيت شيئا قط) قلنا له: وكيف ذلك؟
قال: (إذا عرض لي شيء من ذاك، سألته ربي).
وقال عمر رضي الله عنه: (وددت أني شعرة في صدر أبى بكر -رضي الله عنهما-).
وعند المصائب يتمنى الإنسان أن يكون أي شيء،
فهذه عائشة رضي الله عنها المبرأة عندما وصلها خبر اتهامها في عرضها
قالت: (... أوَلقد قالوا ذلك؟ فانصرف أبي يصلي، فوالله! لودِدت أني كنت حيضة،([2])
فكنت لا يكتحل عيني بنوم، ولا يرقأ لي دمع،
وعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال:
"ما بال رجالٍ قد بلغني أذاهم في أهلي، ولقد ذكروا رجلا صالحا؛ قد شهد بدرا، ما دخل على أهلي قط إلا وأنا حاضر،
ولا سافرت من سفر قط إلا وإنه لمعي"...([3])
وعندما [مات عبد الرحمن بن أبي بكر بالحُبْشِيِّ([4])؛ فخرجت عائشةرضي الله عنها إليه، فحملته حتى أدخلته مكة،
فجاءت تقول بعدُ: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت؛ ما دفنته إلا حيث مات، وما أدخلته مكة).
وندمت على خروجها يوم الجمل فقالت رضي الله عنها : (لوددت أني كنت ثكلت عشرة؛ كلهم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأني لم أسر مسيري الذي سرت).
وفي رواية قالت:(لأن أكون جلست عن مسيري، أحب إلي من أن يكون لي عشرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل ولد الحارث بن هشام).
وعن صالح المري، قال: قلت لعطاء السليمي: ما تشتهي؟
فبكى ثم قال: (أشتهي والله يا أبا بشر! أن أكون رمادا، لا يجتمع منه سفّة أبدا في الدنيا ولا في الآخرة)،
قال: فأبكاني والله! وعلمت أنه إنما أراد النجاة من عسر يوم الحساب.
*************
إن بعض الناس يتمنى أن تتغير الأحوال، وتزال حكومات وحكام، وتدمر دول، ثم بعد ذلك يزال الغبار،
وتنكشف الأستار، ويتمنى الناس أن ما كان ليته ما حدث ولا كان، فتنتشر الفتن ويكثر القتل، وتنتهك الأعراض، وتنتهب الأموال، وتخرب المرافق العامة، وتعيش الأمة في خوف وقلق وفزع،
ويتمنى المتمني أن يعود حكم الحاكم الظالم، الذي هو في ظلمه أهون من ظلم من بعده، فسيزداد الظلم والقهر،
فمن علامات الساعة أن يتمنى كثير من الناس الموت، ليس تدينا بل من كثرة فتن
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه»
[1])) الغِيَر: أحداث الدهر المغيرة
[2])) عمدة القاري شرح صحيح البخاري (5/ 380):
[حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ليتني كنت حيضة ملقاة هي بالكسر خرقة الحيض وجزم الخطابي هنا برواية الكسر ورجحها النوويٍ].
[3])) الطبراني في معجمه الكبير (ج 23/ ص 69)، تاريخ دمشق (35/ 41).
[4])) معجم البلدان: حبشي: بالضم ثم السكون والشين معجمة والياءُ مشددة، جبل بأسفل مكة بنعمان الأراك
الشيخ: فؤاد أبو سعيد حفظه الله تعالى