{{الحكم بالظاهر لا بالظن والباطن}}
{ للأمانة...الكاتب ::عبد الحليم توميات}
روى البخاري ومسلم عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ [جاء في بعض الرّوايات أنّه مرداس بن نهيك، كما قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-] فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ! فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- [وفي رواية مسلم: فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-] فَقَالَ: ((يَا أُسَامَةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟!)) قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا [إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاَحِ] ((أَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟! أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟!)) فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ".
فقه هذه الحادثة:
الحكم بالظّاهر أصل من أصول الإسلام، فإنّ الهدف الرّئيس من الجهاد هو إعلاء كلمة الله، فإذا أظهر بعض الكفّار المحاربين أثناء المعركة كلمة الإسلام (الشّهادتين) أو قال: (أنا مسلم)، أو حيّاهم بتحيّة الإسلام، وجب على المسلمين الكفّ عنه، وعدم قتله، أو قتاله، وهذا من محاسن الإسلام الذي يوجب على المسلم أن يكفّ عن عدوّه، وهو في حالة غليان عليه في وقت مقارعة السّيوف.
وقد يكون الذي أظهر الإسلام ممّن أعمل سلاحه في المسلمين، وهم يتمنّون أن يشفوا صدورهم منه، ويجوز أن يكون في واقع الأمر غير معتقد ما أظهره، وإنّما أراد أن يخلّص نفسه من القتل.
ومع ذلك أوجب الله على المسلمين العمل بالظّاهر، والتثبّت من الحقيقة، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) النساء: 94.
وفي الآية تذكير للمؤمنين بأنّ نعمة الإيمان هي نعمة من الله بها عليهم، وقد كانت هذه النّعمة قبل أن يمنّ عليهم بها مفقودة منهم، والّذي منّ عليه بنعمة الإسلام، قادر أن يمنّ على عدوّهم في لحظة القتال، فلا ينبغي أن يستبعد المسلمون أن يهدي الله عدوّهم للإسلام في تلك اللّحظة.
ولا يجوز لهم أن يتأوّلوا أنّ ذلك إنّما حصل اتّقاء القتل، فالهداية بيده سبحانه: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) القصص: 56.
روى البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) النساء: 94، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ فَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ: (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) تِلْكَ الْغُنَيْمَةُ".
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "وفي الآية دليل على أنّ من أظهر شيئاً من علامات الإسلام، لم يحلّ دمه حتّى يختبر أمره؛ لأنّ السّلام تحيّة المسلمين، وكانت تحيّتهم في الجاهليّة بخلاف ذلك، فكانت هذه علامة" فتح الباري (8/259).
وقال الإمام ابن جرير -رحمه الله-: "(فَتَبَيَّنُوا): يقول: فتأنّوا في قتل من أشكل عليكم أمره، فلم تعلموا حقيقة إسلامه، ولا كفره، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تقدموا على قتل أحد، إلاّ على قتل من علمتموه يقيناً حرباً لكم ولله ولرسوله" جامع البيان عن تأويل آي القرآن (5/221).
وقال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره: "والمسلم إذا لقي الكافر ولا عهد له، جاز له قتله، فإن قال: لا إله إلاّ الله لم يجز قتله؛ لأنّه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله وأهله، فإن قتله بعد ذلك قُتِلَ بِهِ، وإنّما سقط القتل عن هؤلاء [يعني بعض الصحابة الذين قتلوا من ألقى إليهم السلام] لأجل أنّهم كانوا في صدر الإسلام، وتأوّلوا أنّه قالها متعوّذاً وخوفاً من السّلاح، وأنّ العاصم قولها مطمئناً، فأخبر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنّه عاصم كيفما قالها، ولذلك قال لأسامة: ((أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لاَ؟)) قال: وفي هذا من الفقه باب عظيم، وهو أن الأحكام تناط بالمظانّ والظّواهر، لا على القطع واطّلاع السّرائر" الجامع لأحكام القرآن (5/338).
والأَرْضُ تؤيِّد هذَا الحكْم:
إليك قصّة تعيد الصّواب لكثير ممّن يجهلون أو ينسون هذا الحكم، قصّة لا بدّ أن تعِظ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، قصّة جاءت في "مسند أبي يعلى" بسند صحيح عَنْ جُنْدُبِ بن عبد الله البَجَليّ قَالَ: "إِنِّي عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَهُ بَشِيرٌ مِنْ سَرِيَّةٍ بَعَثَهَا، فَأَخْبَرَهُ بِنَصْرِ اللهِ الَّذِي نَصَرَ سَرِيَّتَهُ، وَبِفَتْحِ اللهِ الَّذِي فَتَحَ لَهُمْ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! بَيْنَمَا نَحْنُ بِطَلَبِ العَدُوِّ وَقَدْ هَزَمَهُمْ اللهُ، إِذْ لَحِقْتُ رَجُلاً بِالسَّيْفِ، فَلَمَّا أَحَسَّ أَنَّ السَّيْفَ قَدْ وَاقَعَهُ، اِلْتَفَتَ وَهُوَ يَسْعَى، فَقَالَ: "إِنِّي مُسْلِمٌ! إِنِّي مُسْلِمٌ! فَقَتَلْتُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ -ياَ نَبِيَّ اللهِ- مُتَعَوِّذًا.
قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ((فَهَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ فَنَظَرْتَ صَادِقٌ هُوَ أَوْ كَاذِبٌ؟!)) قَالَ: لَوْ شَقَقْتُ عَنْ قَلْبِهِ! مَا كَانَ يُعْلِمُنِي القَلْبُ؟! هَلْ قَلْبُهُ إِلاَّ مُضْغَةٌ مِنْ لَحْمٍ؟! قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ((فَأَنْتَ قَتَلْتَهُ لاَ مَا فِي قَلْبِهِ عَلِمْتَ، وَلاَ لِسَانَهُ صَدَّقْتَ)) قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! اِسْتَغْفِرْ لِي.
قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ((لاَ أَسْتَغْفِرُ لَكَ)) فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَوْمُهُ اسْتَحْيَوْا، وَخَزُوا مِمَّا لَقِيَ، فَحَمَلُوهُ فَأَلْقَوْهُ فِي شِعْبٍ مِنْ تِلْكَ الشِّعَابِ، هل هو منافق؟ هل كان من المرائين في جهاده؟ لا والله، بل كان من المؤمنين، فما حاله إذن؟! لقد جاء عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ما يبيّن حاله، وكان في تفسيره -صلى الله عليه وسلم- شيءٌ يُعِيد الأمل لذلك الفارس.
روى ابن ماجه والطّبرانيّ في المعجم الكبير (18/226) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ -رضي الله عنه- قَالَ: "شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ بَعَثَ جَيْشًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا لَقُوهُمْ قَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَمَنَحُوهُمْ أَكْتَافَهُمْ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ لُحْمَتِي عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِالرُّمْحِ، فَلَمَّا غَشِيَهُ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنِّي مُسْلِمٌ، فَطَعَنَهُ، فَقَتَلَهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَكْتُ! [إِنِّي أَذْنَبْتُ فَاسْتَغْفِرْ لِي] قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ((وَمَا الَّذِي صَنَعْتَ -مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ-)) فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ بَطْنِهِ فَعَلِمْتَ مَا فِي قَلْبِهِ؟)) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ شَقَقْتُ بَطْنَهُ لَكُنْتُ أَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ؟! قَالَ: ((فَلَا أَنْتَ قَبِلْتَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَلَا أَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ)).
قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ، فَدَفَنَّاهُ، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، فَقَالُوا: لَعَلَّ عَدُوًّا نَبَشَهُ، فَدَفَنَّاهُ، ثُمَّ أَمَرْنَا غِلْمَانَنَا يَحْرُسُونَهُ، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، فَقُلْنَا: لَعَلَّ الْغِلْمَانَ نَعَسُوا، فَدَفَنَّاهُ، ثُمَّ حَرَسْنَاهُ بِأَنْفُسِنَا، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الشِّعَابِ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: ((إِنَّ الْأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ أَنْ يُرِيَكُمْ تَعْظِيمَ حُرْمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)) -وفي رواية الطّبرانيّ: ((إِنَّ اللهَ أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَكُمْ تَعْظِيمَ الدَّمِ)).
المتحدّث الرّسميّ عن جميع القلوب هو الوحي، والوحي فقط، فإذا لم يكن ثمّة وحيٌ فالقلب هو ما أمامك لا ما تسافر به الظّنون، وموقفه -صلى الله عليه وسلم- من المنافقين يؤكّد ذلك أيضاً.
إنّ هناك من الحماس ما جعل أحد الصّحابة يحمل سيفه ويتّجه نحو النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يستأذنه في القضاء على رجل يجزم كلّ مسلم بنفاقه، ولكنّ ميزان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- غير ميزان سائر الخلق، روى الإمام مالك وأحمد عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ النَّاسِ؛ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَسَارَّهُ، فَلَمْ يُدْرَ مَا سَارَّهُ بِهِ، حَتَّى جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَإِذَا هُوَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟)) فَقَالَ الرَّجُلُ: بَلَى، وَلَا شَهَادَةَ لَهُ، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ((أَلَيْسَ يُصَلِّي؟)) قَالَ: بَلَى، وَلَا صَلَاةَ لَهُ، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْهُمْ)).
ماذا بعد أولئك الّذين تتفوّه ألسنتهم بأقبح الأقوال، وتصدر عن جوارحهم أفظع الأفعال؟ ماذا بعد أولئك الّذين حكم الله عليهم أنّهم في الدّرك الأسفل من النّار؟ لا شيء إلاّ أنّ المسلم غير معنِيٍّ باقتفاء مواطئ القلوب، ولعلّك – أخي القارئ- تسأل عن حكمة كفّه عليه الصّلاة والسلام عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم؟
فاعلم أنّ العلماء ذكروا جوابين عن ذلك:
1- الأوّل: دفع الشّبهة عن الدّين، فقد ثبت في الصحيحين أنّه -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر -رضي الله عنه-: ((أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ العَرَبُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)).
2- الثّاني: ما قاله الإمام مالك -رحمه الله-: "إنّما كفّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المنافقين ليبيّن لأمّته أنّ الحاكم لا يحكم بعلمه".
قال القرطبيّ: "وقد اتّفق العلماء عن بكرة أبيهم أنّ القاضي لا يقتل بعلمه وإن اختلفوا في سائر الأحكام".
هذا أصل من أصول الدّين: ألا وهو وجوب الحكم بالظّاهر، وممّا يؤيد هذا الأصل أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أجاز مناكحة المنافقين وتوريثهم، فقد ورِث عبد الله -وهو من خيار المؤمنين- أباه ابن سلول -وهو من كبار المنافقين-.
حال أسامة -رضي الله عنه- بعد ذلك:
إنّ أسامة -رضي الله عنه- صدق الله بتوبته فصدقه الله تعالى، لقد بقي ذلك يحزّ في نفسه حتّى مات -رضي الله عنه-، وصار مضرب المثل في اعتزال الفتن لئلاّ يصيبَ دماً حراماً، وإليك ما رواه مسلم بعد قصّة أسامة -رضي الله عنه- أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي الله عنه- قَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ-يَعْنِي أُسَامَةَ-، قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) البقرة: 193 فَقَالَ سَعْدٌ -رضي الله عنه-: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونُ فِتْنَةٌ.
فهذا حال أسامة، أسامة الّذي نجزم بإخلاصه وصدقه، أسامة الّذي قتل من رآه بأمّ عينيه شاهرا سيفه يقتل به المؤمنين، أسامة الّذي كان يقاتل كافراً لا يشكّ أحد في كفره.
فما حال الّذين لم يصلوا إلى صدقه وإخلاصه؟ ما حال من يقتل بريئاً لا ناقة له ولا جمل، ما حال من يقتل مسلماً: أصلُه ومنبتُه ونشأتُه على الإسلام، وما قتله إلاّ لشيء واحد: إنّه يشكّ في إيمانه! إنّه يرى أنّه ارتكب مكفِّراً!
فاللّهم خذ بأيدينا إليك، ودٌلّنا بك عليك، واهدِنا سواء السّبيل.
{ للأمانة...الكاتب ::عبد الحليم توميات}
روى البخاري ومسلم عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْحُرَقَةِ، فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ، فَهَزَمْنَاهُمْ، وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ [جاء في بعض الرّوايات أنّه مرداس بن نهيك، كما قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-] فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ! فَكَفَّ الْأَنْصَارِيُّ، فَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- [وفي رواية مسلم: فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-] فَقَالَ: ((يَا أُسَامَةُ! أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟!)) قُلْتُ: كَانَ مُتَعَوِّذًا [إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلاَحِ] ((أَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟! أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟!)) فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ".
فقه هذه الحادثة:
الحكم بالظّاهر أصل من أصول الإسلام، فإنّ الهدف الرّئيس من الجهاد هو إعلاء كلمة الله، فإذا أظهر بعض الكفّار المحاربين أثناء المعركة كلمة الإسلام (الشّهادتين) أو قال: (أنا مسلم)، أو حيّاهم بتحيّة الإسلام، وجب على المسلمين الكفّ عنه، وعدم قتله، أو قتاله، وهذا من محاسن الإسلام الذي يوجب على المسلم أن يكفّ عن عدوّه، وهو في حالة غليان عليه في وقت مقارعة السّيوف.
وقد يكون الذي أظهر الإسلام ممّن أعمل سلاحه في المسلمين، وهم يتمنّون أن يشفوا صدورهم منه، ويجوز أن يكون في واقع الأمر غير معتقد ما أظهره، وإنّما أراد أن يخلّص نفسه من القتل.
ومع ذلك أوجب الله على المسلمين العمل بالظّاهر، والتثبّت من الحقيقة، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) النساء: 94.
وفي الآية تذكير للمؤمنين بأنّ نعمة الإيمان هي نعمة من الله بها عليهم، وقد كانت هذه النّعمة قبل أن يمنّ عليهم بها مفقودة منهم، والّذي منّ عليه بنعمة الإسلام، قادر أن يمنّ على عدوّهم في لحظة القتال، فلا ينبغي أن يستبعد المسلمون أن يهدي الله عدوّهم للإسلام في تلك اللّحظة.
ولا يجوز لهم أن يتأوّلوا أنّ ذلك إنّما حصل اتّقاء القتل، فالهداية بيده سبحانه: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) القصص: 56.
روى البخاري ومسلم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) النساء: 94، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "كَانَ رَجُلٌ فِي غُنَيْمَةٍ لَهُ فَلَحِقَهُ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَتَلُوهُ، وَأَخَذُوا غُنَيْمَتَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِهِ: (تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) تِلْكَ الْغُنَيْمَةُ".
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: "وفي الآية دليل على أنّ من أظهر شيئاً من علامات الإسلام، لم يحلّ دمه حتّى يختبر أمره؛ لأنّ السّلام تحيّة المسلمين، وكانت تحيّتهم في الجاهليّة بخلاف ذلك، فكانت هذه علامة" فتح الباري (8/259).
وقال الإمام ابن جرير -رحمه الله-: "(فَتَبَيَّنُوا): يقول: فتأنّوا في قتل من أشكل عليكم أمره، فلم تعلموا حقيقة إسلامه، ولا كفره، ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تقدموا على قتل أحد، إلاّ على قتل من علمتموه يقيناً حرباً لكم ولله ولرسوله" جامع البيان عن تأويل آي القرآن (5/221).
وقال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره: "والمسلم إذا لقي الكافر ولا عهد له، جاز له قتله، فإن قال: لا إله إلاّ الله لم يجز قتله؛ لأنّه قد اعتصم بعصام الإسلام المانع من دمه وماله وأهله، فإن قتله بعد ذلك قُتِلَ بِهِ، وإنّما سقط القتل عن هؤلاء [يعني بعض الصحابة الذين قتلوا من ألقى إليهم السلام] لأجل أنّهم كانوا في صدر الإسلام، وتأوّلوا أنّه قالها متعوّذاً وخوفاً من السّلاح، وأنّ العاصم قولها مطمئناً، فأخبر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أنّه عاصم كيفما قالها، ولذلك قال لأسامة: ((أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لاَ؟)) قال: وفي هذا من الفقه باب عظيم، وهو أن الأحكام تناط بالمظانّ والظّواهر، لا على القطع واطّلاع السّرائر" الجامع لأحكام القرآن (5/338).
والأَرْضُ تؤيِّد هذَا الحكْم:
إليك قصّة تعيد الصّواب لكثير ممّن يجهلون أو ينسون هذا الحكم، قصّة لا بدّ أن تعِظ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، قصّة جاءت في "مسند أبي يعلى" بسند صحيح عَنْ جُنْدُبِ بن عبد الله البَجَليّ قَالَ: "إِنِّي عِنْدَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَهُ بَشِيرٌ مِنْ سَرِيَّةٍ بَعَثَهَا، فَأَخْبَرَهُ بِنَصْرِ اللهِ الَّذِي نَصَرَ سَرِيَّتَهُ، وَبِفَتْحِ اللهِ الَّذِي فَتَحَ لَهُمْ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! بَيْنَمَا نَحْنُ بِطَلَبِ العَدُوِّ وَقَدْ هَزَمَهُمْ اللهُ، إِذْ لَحِقْتُ رَجُلاً بِالسَّيْفِ، فَلَمَّا أَحَسَّ أَنَّ السَّيْفَ قَدْ وَاقَعَهُ، اِلْتَفَتَ وَهُوَ يَسْعَى، فَقَالَ: "إِنِّي مُسْلِمٌ! إِنِّي مُسْلِمٌ! فَقَتَلْتُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ -ياَ نَبِيَّ اللهِ- مُتَعَوِّذًا.
قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ((فَهَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ فَنَظَرْتَ صَادِقٌ هُوَ أَوْ كَاذِبٌ؟!)) قَالَ: لَوْ شَقَقْتُ عَنْ قَلْبِهِ! مَا كَانَ يُعْلِمُنِي القَلْبُ؟! هَلْ قَلْبُهُ إِلاَّ مُضْغَةٌ مِنْ لَحْمٍ؟! قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ((فَأَنْتَ قَتَلْتَهُ لاَ مَا فِي قَلْبِهِ عَلِمْتَ، وَلاَ لِسَانَهُ صَدَّقْتَ)) قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! اِسْتَغْفِرْ لِي.
قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ((لاَ أَسْتَغْفِرُ لَكَ)) فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَوْمُهُ اسْتَحْيَوْا، وَخَزُوا مِمَّا لَقِيَ، فَحَمَلُوهُ فَأَلْقَوْهُ فِي شِعْبٍ مِنْ تِلْكَ الشِّعَابِ، هل هو منافق؟ هل كان من المرائين في جهاده؟ لا والله، بل كان من المؤمنين، فما حاله إذن؟! لقد جاء عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ما يبيّن حاله، وكان في تفسيره -صلى الله عليه وسلم- شيءٌ يُعِيد الأمل لذلك الفارس.
روى ابن ماجه والطّبرانيّ في المعجم الكبير (18/226) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ -رضي الله عنه- قَالَ: "شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَقَدْ بَعَثَ جَيْشًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا لَقُوهُمْ قَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا، فَمَنَحُوهُمْ أَكْتَافَهُمْ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ لُحْمَتِي عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِالرُّمْحِ، فَلَمَّا غَشِيَهُ، قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنِّي مُسْلِمٌ، فَطَعَنَهُ، فَقَتَلَهُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلَكْتُ! [إِنِّي أَذْنَبْتُ فَاسْتَغْفِرْ لِي] قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ((وَمَا الَّذِي صَنَعْتَ -مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ-)) فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((فَهَلَّا شَقَقْتَ عَنْ بَطْنِهِ فَعَلِمْتَ مَا فِي قَلْبِهِ؟)) قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ شَقَقْتُ بَطْنَهُ لَكُنْتُ أَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ؟! قَالَ: ((فَلَا أَنْتَ قَبِلْتَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَلَا أَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي قَلْبِهِ)).
قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى مَاتَ، فَدَفَنَّاهُ، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، فَقَالُوا: لَعَلَّ عَدُوًّا نَبَشَهُ، فَدَفَنَّاهُ، ثُمَّ أَمَرْنَا غِلْمَانَنَا يَحْرُسُونَهُ، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ، فَقُلْنَا: لَعَلَّ الْغِلْمَانَ نَعَسُوا، فَدَفَنَّاهُ، ثُمَّ حَرَسْنَاهُ بِأَنْفُسِنَا، فَأَصْبَحَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ فَأَلْقَيْنَاهُ فِي بَعْضِ تِلْكَ الشِّعَابِ، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: ((إِنَّ الْأَرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ أَنْ يُرِيَكُمْ تَعْظِيمَ حُرْمَةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)) -وفي رواية الطّبرانيّ: ((إِنَّ اللهَ أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَكُمْ تَعْظِيمَ الدَّمِ)).
المتحدّث الرّسميّ عن جميع القلوب هو الوحي، والوحي فقط، فإذا لم يكن ثمّة وحيٌ فالقلب هو ما أمامك لا ما تسافر به الظّنون، وموقفه -صلى الله عليه وسلم- من المنافقين يؤكّد ذلك أيضاً.
إنّ هناك من الحماس ما جعل أحد الصّحابة يحمل سيفه ويتّجه نحو النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يستأذنه في القضاء على رجل يجزم كلّ مسلم بنفاقه، ولكنّ ميزان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- غير ميزان سائر الخلق، روى الإمام مالك وأحمد عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- جَالِسٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ النَّاسِ؛ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَسَارَّهُ، فَلَمْ يُدْرَ مَا سَارَّهُ بِهِ، حَتَّى جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَإِذَا هُوَ يَسْتَأْذِنُهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟)) فَقَالَ الرَّجُلُ: بَلَى، وَلَا شَهَادَةَ لَهُ، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ((أَلَيْسَ يُصَلِّي؟)) قَالَ: بَلَى، وَلَا صَلَاةَ لَهُ، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْهُمْ)).
ماذا بعد أولئك الّذين تتفوّه ألسنتهم بأقبح الأقوال، وتصدر عن جوارحهم أفظع الأفعال؟ ماذا بعد أولئك الّذين حكم الله عليهم أنّهم في الدّرك الأسفل من النّار؟ لا شيء إلاّ أنّ المسلم غير معنِيٍّ باقتفاء مواطئ القلوب، ولعلّك – أخي القارئ- تسأل عن حكمة كفّه عليه الصّلاة والسلام عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم؟
فاعلم أنّ العلماء ذكروا جوابين عن ذلك:
1- الأوّل: دفع الشّبهة عن الدّين، فقد ثبت في الصحيحين أنّه -صلى الله عليه وسلم- قال لعمر -رضي الله عنه-: ((أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ العَرَبُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ)).
2- الثّاني: ما قاله الإمام مالك -رحمه الله-: "إنّما كفّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المنافقين ليبيّن لأمّته أنّ الحاكم لا يحكم بعلمه".
قال القرطبيّ: "وقد اتّفق العلماء عن بكرة أبيهم أنّ القاضي لا يقتل بعلمه وإن اختلفوا في سائر الأحكام".
هذا أصل من أصول الدّين: ألا وهو وجوب الحكم بالظّاهر، وممّا يؤيد هذا الأصل أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أجاز مناكحة المنافقين وتوريثهم، فقد ورِث عبد الله -وهو من خيار المؤمنين- أباه ابن سلول -وهو من كبار المنافقين-.
حال أسامة -رضي الله عنه- بعد ذلك:
إنّ أسامة -رضي الله عنه- صدق الله بتوبته فصدقه الله تعالى، لقد بقي ذلك يحزّ في نفسه حتّى مات -رضي الله عنه-، وصار مضرب المثل في اعتزال الفتن لئلاّ يصيبَ دماً حراماً، وإليك ما رواه مسلم بعد قصّة أسامة -رضي الله عنه- أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ -رضي الله عنه- قَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ-يَعْنِي أُسَامَةَ-، قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) البقرة: 193 فَقَالَ سَعْدٌ -رضي الله عنه-: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونُ فِتْنَةٌ.
فهذا حال أسامة، أسامة الّذي نجزم بإخلاصه وصدقه، أسامة الّذي قتل من رآه بأمّ عينيه شاهرا سيفه يقتل به المؤمنين، أسامة الّذي كان يقاتل كافراً لا يشكّ أحد في كفره.
فما حال الّذين لم يصلوا إلى صدقه وإخلاصه؟ ما حال من يقتل بريئاً لا ناقة له ولا جمل، ما حال من يقتل مسلماً: أصلُه ومنبتُه ونشأتُه على الإسلام، وما قتله إلاّ لشيء واحد: إنّه يشكّ في إيمانه! إنّه يرى أنّه ارتكب مكفِّراً!
فاللّهم خذ بأيدينا إليك، ودٌلّنا بك عليك، واهدِنا سواء السّبيل.