أولى لك فأولى
يقول الله تعالى للإنسان الجاحد الذي ﴿فلا صدّق ولا صلّى* ولكن كذّب وتوّلى* ثم ذهب إلى أهله يتمطى﴾ يقول له: ﴿أولى لك فأولى* ثم أولى لك فأولى﴾. فما معنى هذه الآية ؟ وهل كلمة (أولى) تعني كما نقول: فلانٌ أولى من فلان بالإمامة أو الخطابة أو الصلاة .... ؟ الجواب : لا.
المعنى هو أن هذا الإنسان الجاحد سيذوق العذاب يوم القيامة، وهذا العذاب هو نتيجةٌ لقيامه بهذه الأفعال المكروه:﴿فلا صدّق ولا صلّى* ولكن كذّب وتوّلى* ثم ذهب إلى أهله يتمطى﴾.
الآيات السابقة تتحدث عن هذا الإنسان الجاحد بصيغة الغائب، ثم يكون هنالك التفات في الخطاب من الكلام عن الغائب إلى مخاطبة الحاضر﴿أولى لك فأولى* ثم أولى لك فأولى﴾.
﴿ أولى﴾: هو ليس فعل أو اسم وإنما هو اسم فعل ماض، مثل كلمة (صهٍ) بمعني: اسكت. ومعنى كلمة ﴿أولى﴾ أي وليّك كذا. فمثلاً: من يفعل خيراً يقال له: أولى لك فأولى. أي وليّك الخير الذي فعلت، أو ليكن وليّك الخير الذي فعلت. أما الجاحد الذي لم يفعل خيراً أبداً، فيكون المعنى﴿أولى لك﴾ أي فليكن وليّك المكروه الذي فعلت ونتائج هذا المكروه وليّك أيها الإنسان.
فهذا الإنسان ﴿فلا صدّق ولا صلّى* ولكن كذّب وتوّلى* ثم ذهب إلى أهله يتمطى﴾ سينال العقوبة، وهذه العقوبة هي﴿أولى لك فأولى* ثم أولى لك فأولى﴾، لأن المكروه كان وليّك في الدنيا، ونتائج هذا المكروه، وهي العقوبة، ستكون موالية لك ومعك في الآخرة.
مثال آخر: كلمة سُقياً لك. أي أتمنى لك السقاية والري والشبع من الماء. وهنا ﴿أولى لك﴾ أي ولاية المكروه هي لك، وليكن المكروه وليّك، وليكن وليّك المكروه... بعبارات مختلفة.
﴿أولى لك﴾ اللام في لك: من أجل تبيان المفعول، والكاف: هي في محل المفعول به، وهي مجرورة بحرف الجر، وحرف الجر هنا من أجل أن يُعدّي الفعل الذي لا يتعدى مباشرة، فقلنا له: أولى لك. وهي مثل قولنا: سقياً لك. وتعني سقياك، أو ندعو لك بالسقاية.
فـ﴿أولى لك﴾ تعني: ليكن وليّك المكروه يا أيها الإنسان الذي لم يُصدّق ولم يُصَلّ وكان قد كذّب وتولّى وكان قد ذهب إلى أهله يتمطى...أولى لك.
أما عن سبب نزول هذه الآية، فقد أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيدي أبي جهل ثم قال له: (أولى لك فأولى).
فقال له أبو جهل: بأي شيء تهددني ؟ لا تستطيع أنت وربك أن تفعلا بي شيئاً، وإني لأعزّ أهل هذا الوادي... فنزلت هذه الآية.
فأبو جهل لم يصدّق ولم يصلّ، وكان يكذّب ويتولّى ويذهب إلى أهله يتمطى... لذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أولى لك فأولى) وكانت هذه العبارة من عنده، ثم بعد ذلك نزلت الآية بنفس العبارة التي قالها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن القرآن الكريم أكّدها فقال: ﴿ أولى لك فأولى* ثم أولى لك فأولى﴾.
أولى:اسم فعل ماض، والكاف في محل المفعول به، والفاعل لاسم الفعل هو المأخوذ والمتصيّد من العبارات السابقة، وتعني: المكروه، فيصبح المعنى: أولى المكروه لك، أولى المكروه بك، المكروه سيكون وليّك ومواليك ويمشي معك.
﴿ فأولى﴾ الفاء هنا عاطفة، أولى: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أولى لك فالمكروه أولى لك.
﴿أولى لك فأولى* ثم أولى لك فأولى﴾ ولذلك قال علماؤنا عن هذه الآية: فيها تهديدان ووعيدان.
﴿أولى لك﴾ أي كان المكروه وليّك، لأنك صاحب مكروه ولأنك تفعل المكروه و تجري على يديك وعلى جوارحك المكروه. فهذا تهديد.
﴿فأولى﴾ أي المكروه سيكون أولى بك يوم القيامة، لأنك كنت متوليّاً المكروه في حياتك: المكروه عند الله، والمكروه عند الناس، والمكروه عند الفطرة، والمكروه عند كل ما يمكن أن يقال عنه بأنه خير. وهذا وعيد.
إذاً ﴿أولى لك﴾ تهديد ﴿فأولى﴾ وعيد، وكذلك ﴿ثم أولى لك﴾ تهديد ﴿فأولى﴾ وعيد، تهديدان ووعيدان.
وكأن القرآن الكريم يقول: نحن نوقّع ونؤكّد ما قاله رسولنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (أولى لك فأولى)، وها نحن أولاء نكرّر ونؤكّد هذا لنقول: ﴿ثم أولى لك فأولى﴾. وكأنه يقول للناس بأن محمداً قال الذي نريد أن نقوله، وها نحن نؤكّد على هذا القول مرة أخرى:﴿أولى لك فأولى* ثم أولى لك فأولى﴾.
نسأل الله عز وجل أن لا يجعلنا من أولئك الذين لا يصدّقون ولا يصلّون ويكذبون ويتولون ويتمطون، وأن يجعلنا من أولئك الذين يتبعون الفطرة ويتبعون قول الله عز وجل في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم.
وفي النهاية أدعو الله أن يرزقنا الإخلاص في جميع أعمالنا وفي أمان الله
الكاتب : د. محمود عكام