التشبه والتقليد
الحمدلله والصلاة على رسول الله وبعد:
فإن حياة كثرة المسلمين اليوم قد اصطبغت بصبغة الحضارة الغربية في الفكر والتصور والاعتقاد، في التربية والتلقي والتعليم والثقافة، في السياسة وأنظمة الحكم، في الاقتصاد، وفي سائر الأمور.
فنحن نرى الآن أن السيل بلغ الزبى؛ فبلغ بها في تقليد الغرب الكافر مبلغًا يندى له الجبين؛ إذ أخذ كثير من المسلمين عنهم كل رذيلة ومنقصة.
أخذوا الاستهتار بالأخلاق، والقيم، والدين..!!
وأخذوا الجشع والأنانية، والخداع والتحايل والمكر، والخيانات!!
وأخذوا الميوعة، والتبرج، والسفور، والفجور، والتخنث!!
ثم الذل والصغار، والتبعية السياسية والاقتصادية، والثقافية والفكرية!!
وتركوا كل ماهو نافع وبّناء ومفيد من إنتاج أولئك في شتى المجالات والعلوم والتجارب، والإبداع البشري مما أحله الله.
التشبه:
عرفه الإمام محمد الغزي الشافعي فقال: التشبه عبارة عن محاولة الإنسان أن يكون شبه المتشبه به، وعلى هيئته، وحليته، ونعته وصفته، وهو عبارة عن تكلف ذلك وتقصده وتعمله.
التقليد:
هو أن يتبع الإنسان غيره في قول أو فعل أو اعتقاد أو سلوك من غير دليل ولا نظر ولا تأمل ودون إدراك ووعي.
التقليد في الشرع:
وهو أن يتبع الإنسان غيره في حكم شرعي من غير اجتهاد في ذلك الحكم ولا دليل وهنا قد لا يكون التقليد مذمومًا على كل حال؛ بل ينبغي على من لايقدر على الاجتهاد والنظر في الأحكام الشرعية أن يتبع غيره من الأئمة المجتهدين كما قال -تعالى-: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] واتباع العامي للإمام والأمة للمجتهد هو نوع من التقليد.
وإنما يذم التقليد في حق من يقدر على الاجتهاد والنظر في الأحكام، ومن يتبع غيره في باطل أوبدعة أو يتعصب لرأي معين ويحمل الناس عليه فهنا يمقت.
التقليد الأعمى:
هو ما سلكه المسلمون من غير إدراك ولا وعي ولا تمحيص من اتباع الكفار، والأخذ منهم، والتشبه بهم في شتى ألوان الحياة وأنماط السلوك والأخلاق، وأشكال الإنتاج، في الاعتقاد، والتصور، والفكر، والفلسفة، والسياسة، والاقتصاد، والأدب، والفن، والثقافة، والنظم، والتشريع، من غير اعتبار للعقيدة والشريعة الإسلامية، والأخلاق الفاضلة، ومن غير التزام المنهج الإسلامي الأصيل.
التقليد صفة نقص:
1- أن التقليد صفة سلبية لا تقع إلا من الجانب الضعيف وبالتالي فهي صفة نقص.
2- أن التقليد فيه معاني الانقياد، والانهزام، والاتباع، والتفويض، والاستسلام، والتحمل، والطاعة العمياء من غير نظر وتمييز بين ما يضر وما ينفع، ولا تفريق بين ما يوافق الشرع وما لا يوافقه.
الحكمة من النهي عن التقليد:
إن النهي عن التقليد في الشريعة الإسلامية وراءه حكم ومصالح نعلم بعضها ويخفى علينا الكثير منها، فمضار التقليد عموماً من البدهيات التي يعلمها ويدركها ويحسها كل الناس، أما تقليد المسلمين للكفار فضرره مشاهد من خلال الواقع، والتجربة، والاستقراء التاريخي في حياة الأمم والشعوب والحضارات والأمة الإسلامية خاصة.
أدلة النهي عن التقليد والتشبه:
أولًا من القرآن الكريم:
ورد النهي عن التشبه والتقليد للكفار في آيات عديدة وأساليب متنوعة ومنها:
1- بيان أن ذلك خطر عام على مصالح الأمة وكيانها، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118].
2- التحذير منهم وعدم الاغترار بخصالهم السيئة وأهوائهم المضللة:
وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
3- بيان حقدهم ومكرهم وتمنيهم الشر للمسلمين:
قال -تعالى-: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109].
ثانيًا من السنة:
1- ماورد عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله: «من تشبه بقوم فهو منهم» [الراوي: عبدالله بن عمر، المحدث: ابن حبان، صحيح].
2- عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم» قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن» [الراوي: أبو سعيد الخدري، المحدث: البخاري، صحيح].
3- عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- عن الرسول قال: «خالفوا المشركين احفوا الشوارب وأوفوا اللحى»[الراوي: عبدالله بن عمر، المحدث: مسلم، صحيح].
وهو أمر صريح بمخالفة المشركين، وهو يدل على النهي عن موافقتهم.
أسباب التقليد الأعمى:
1- الجهل بحقيقة الإسلام.
2- البعد عن التربية الاسلامية.
3- الإعلام.
4- الفراغ.
5- ضعف عقيدة الولاء والبراء.
6- الانبهار بالتقدم المادي وجهل حقيقة حضارة الغرب.
العلاج:
1- إبداع وسائل عصرية تتناسب مع آلة هذه الهجمة الشرسة التي ترمي إلى زعزعة الثوابت، وأهم هذه الآلات وسائل الإعلام ويلاحظ فيها تطوير أساليب العرض الفكرية.
2- وضع استراتيجية مواجهة كاملة يشارك في تنفيذها: البيت، والمدرسة، والجهات التعليمية، والمؤسسات الدعوية، والإرشادية، والجهاز الأمني كذلك.
3- تنشئة الفرد تنشئة إسلامية شرعية صحيحة منذ الصغر، تربية وتعليمًا، بحيث يكون لديه الحصانة الذاتية لرد هذه الشعارات وعدم تقبلها، وهنا يأتي دور الأسرة، والمنهج التعليمي، ودور العلم والمدرسة.
4- أن ينهض علماء الأمة ومفكروها بدورهم تجاه مجتمعاتهم وأمتهم، وأن يمسكوا بزمام الدعوة إلى الله ويكونوا قادتها وموجهيها على هدي الرسول وسلف هذه الأمة الصالح.
5- تفعيل رسالة المسجد وإعادة دوره كمكان لإيصال العلم الشرعي لعامة المسلمين، بأساليب مسيرة ومتناسبة مع ظروف العصر، وتحت إشراف علمي وتربوي سليم.
6- توضيح حقيقة هذا التقليد وأنه لايقف عند الحد الظاهر فقط؛ بل إنه يتعداه إلى التأثير على العقائد وأمور القلب.
7- التأكيد على قضية العداوة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ فإنها قائمة منذ آدم عليه السلام إلى قيام الساعة فالحزبان لا يلتقيان أبداً، فالأول يريد دعوة الناس إلى عبادة الله، والثاني يدعو الناس إلى عبادة الطاغوت وطاعته، وقتال المؤمنين لصدهم عن دينهم: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} [البقرة: 217].
8- بعث الأمل وتقويته في النفوس بقرب نصر الله «لتقاتلن اليهود فلنقتلنهم حتى يقول الحجر: يا مسلم! هذا يهودي، فتعال فاقتله» وفي رواية بهذا الإسناد: وقال في حديثه: «هذا يهودي ورائي» [الراوي: عبدالله بن عمر، المحدث: مسلم، صحيح].
والمؤمن موقن بأن الله حافظ دينه، ومعل كلمته، ولن يزال في الأمة موفقون يهدون بالحق وبه يعدلون، ولا تزال في أمة محمد طائفة على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله.
المحجة بيضاء، والطريق بين، والحق أبلج، وما على أهل الحق من المسئولين والعلماء والدعاة إلا أن يصدقوا في النوايا، ويشمروا في العمل، فرجل الأصالة، وصاحب الاستقلال المحمود: هو المسلم المستمسك بدينه، الواثق به، المعتز بتعاليمه.
أصناف من نُهينا عن التشبه بهم:
1- الشيطان: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يأكلن أحد منكم بشماله، ولا يشربن بها، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بها» [الراوي: عبدالله بن عمر، المحدث: مسلم، صحيح].
قال ابن تيمية: فإنه -صلى الله عليه وسلم- علل النهي عن الأكل والشرب بالشمال بأن الشيطان يفعل ذلك، فعلم أن مخالفة الشيطان أمر مقصود مأمور به، ونظائره كثيرة .
2- عموم الكفار: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم» قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن» [الراوي: أبو سعيد الخدري، المحدث: البخاري، صحيح].
3- المبتدعة: عن أبي قلابة أنه قال: "إياكم وأصحاب الخصومات، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون".
4- الفساق: قال القرطبي: "لو خُص أهل الفسوق والمجون بلباس منع لبسه لغيرهم، فقد يظن به من لا يعرفه أنه منهم، فيظن به ظن السوء، فيأثم الظان والمظنون فيه بسبب العون عليه" .
5- الرجال بالنسبة للنساء والنساء بالنسبة للرجال: تشبّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال من كبائر الذنوب، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- المخنثين من الرجال، والمترجّلات من النساء، وقال: «أخرجوهم من بيوتكم»، قال: فأخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- فلانًا، وأخرج عمر فلانًا. [الراوي: عبدالله بن عباس، المحدث: البخاري، صحيح] وفي رواية: «لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء» [الراوي: عبدالله بن عباس المحدث: محمد جار الله الصعدي، صحيح]
قال ابن حجر: "قال الطبري: المعنى: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء".
6- الحيوانات: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» [الراوي: أنس بن مالك، المحدث: البخاري، صحيح].
عن عبد الرحمن بن شبل -رضي الله عنه-: «أن رسول الله نهى عن ثلاث: عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطّن الرجل المقام للصلاة كما يوطّن البعير» [الراوي: عبدالرحمن بن شبل، المحدث: الألباني، حسن].
قال ابن تيمية: "التشبه بالبهائم في الأمور المذمومة في الشرع مذموم منهي عنه؛ في أصواتها وأفعالها ونحو ذلك, مثل: أن ينبح نبيح الكلاب، أو ينهق نهيق الحمير، ونحو ذلك.
أحكام التشبه بالكفار:
قال ابن عثيمين: "الذي يفعله أعداء الله وأعداؤنا وهم الكفار ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: عبادات، القسم الثاني: عادات، القسم الثالث: صناعات وأعمال.
أما العبادات فمن المعلوم أنه لا يجوز لأي مسلم أن يتشبه بهم في عباداتهم, ومن تشبه بهم في عباداتهم فإنه على خطر عظيم, فقد يكون ذلك مؤديًا إلى كفره وخروجه من الإسلام.
وأما العادات كاللباس وغيره فإنه يحرم أن يتشبه بهم لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من تشبّه بقوم فهو منهم» [الراوي: عبدالله بن عمر المحدث: ابن حبان ، صحيح].
وأما الصناعات والحرف التي فيها مصالح عامة فلا حرج أن نتعلم مما صنعوه ونستفيد منه، وليس هذا من باب التشبه، ولكنه من باب المشاركة في الأعمال النافعة التي لا يُعدّ من قام بها متشبهًا بهم".
حكم التشبه:
أولًا: من أنواع التشبه بالكافرين ما هو شرك أو كفر، كالتشبه في العقائد، والتشبه في بعض العبادات، وكالتشبه باليهود والنصارى والمجوس في الأمور المخلة بالتوحيد والعقيدة، كالتعطيل والإلحاد والحلول, وتقديس الأشخاص من الأنبياء والصالحين وعبادتهم ودعائهم من دون الله، وكتحكيم الشرائع والنظم البشرية، كل ذلك إما شرك وإما كفر.
ثانيًا: من التشبه ما هو معصية وفسق، كتقليد الكفار في بعض العادات، كالأكل باليد الشمال، والشرب بها، والتختم بالذهب، والتحلي به للرجال، وحلق اللحى، وتشبه النساء بالرجال، وتشبه الرجال بالنساء، ونحو ذلك.
ثالثًا: ما هو مكروه، وهو ما تردد الحكم فيه بين الإباحة والتحريم، على سبيل عدم الوضوح في الحكم، أعني أنه قد تتردد بعض أنماط السلوك والعادات والأشياء الدنيوية بين الكراهة وبين الإباحة، فهذا دَفْعًا لوقوع المسلمين في التشبه، يبقى حكمه مكروهًا.
رابعًا: ما هو مباح، وهو ما ليس من خصائصهم من أمور الدنيا، أي: ليس فيه سمة تخصهم وتميزهم عن المسلمين الصالحين، وما لا يجر إلى مفسدة كبرى على المسلمين أو إلى منفعة للكفار تؤدي إلى الصغار للمسلمين، ونحو ذلك. ومن المباح: الإنتاج المادي البحت والعلوم الدنيوية البحتة.
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من المتتبعين لكتابه ولسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وأن يميتنا على الإسلام إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الحمدلله والصلاة على رسول الله وبعد:
فإن حياة كثرة المسلمين اليوم قد اصطبغت بصبغة الحضارة الغربية في الفكر والتصور والاعتقاد، في التربية والتلقي والتعليم والثقافة، في السياسة وأنظمة الحكم، في الاقتصاد، وفي سائر الأمور.
فنحن نرى الآن أن السيل بلغ الزبى؛ فبلغ بها في تقليد الغرب الكافر مبلغًا يندى له الجبين؛ إذ أخذ كثير من المسلمين عنهم كل رذيلة ومنقصة.
أخذوا الاستهتار بالأخلاق، والقيم، والدين..!!
وأخذوا الجشع والأنانية، والخداع والتحايل والمكر، والخيانات!!
وأخذوا الميوعة، والتبرج، والسفور، والفجور، والتخنث!!
ثم الذل والصغار، والتبعية السياسية والاقتصادية، والثقافية والفكرية!!
وتركوا كل ماهو نافع وبّناء ومفيد من إنتاج أولئك في شتى المجالات والعلوم والتجارب، والإبداع البشري مما أحله الله.
التشبه:
عرفه الإمام محمد الغزي الشافعي فقال: التشبه عبارة عن محاولة الإنسان أن يكون شبه المتشبه به، وعلى هيئته، وحليته، ونعته وصفته، وهو عبارة عن تكلف ذلك وتقصده وتعمله.
التقليد:
هو أن يتبع الإنسان غيره في قول أو فعل أو اعتقاد أو سلوك من غير دليل ولا نظر ولا تأمل ودون إدراك ووعي.
التقليد في الشرع:
وهو أن يتبع الإنسان غيره في حكم شرعي من غير اجتهاد في ذلك الحكم ولا دليل وهنا قد لا يكون التقليد مذمومًا على كل حال؛ بل ينبغي على من لايقدر على الاجتهاد والنظر في الأحكام الشرعية أن يتبع غيره من الأئمة المجتهدين كما قال -تعالى-: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] واتباع العامي للإمام والأمة للمجتهد هو نوع من التقليد.
وإنما يذم التقليد في حق من يقدر على الاجتهاد والنظر في الأحكام، ومن يتبع غيره في باطل أوبدعة أو يتعصب لرأي معين ويحمل الناس عليه فهنا يمقت.
التقليد الأعمى:
هو ما سلكه المسلمون من غير إدراك ولا وعي ولا تمحيص من اتباع الكفار، والأخذ منهم، والتشبه بهم في شتى ألوان الحياة وأنماط السلوك والأخلاق، وأشكال الإنتاج، في الاعتقاد، والتصور، والفكر، والفلسفة، والسياسة، والاقتصاد، والأدب، والفن، والثقافة، والنظم، والتشريع، من غير اعتبار للعقيدة والشريعة الإسلامية، والأخلاق الفاضلة، ومن غير التزام المنهج الإسلامي الأصيل.
التقليد صفة نقص:
1- أن التقليد صفة سلبية لا تقع إلا من الجانب الضعيف وبالتالي فهي صفة نقص.
2- أن التقليد فيه معاني الانقياد، والانهزام، والاتباع، والتفويض، والاستسلام، والتحمل، والطاعة العمياء من غير نظر وتمييز بين ما يضر وما ينفع، ولا تفريق بين ما يوافق الشرع وما لا يوافقه.
الحكمة من النهي عن التقليد:
إن النهي عن التقليد في الشريعة الإسلامية وراءه حكم ومصالح نعلم بعضها ويخفى علينا الكثير منها، فمضار التقليد عموماً من البدهيات التي يعلمها ويدركها ويحسها كل الناس، أما تقليد المسلمين للكفار فضرره مشاهد من خلال الواقع، والتجربة، والاستقراء التاريخي في حياة الأمم والشعوب والحضارات والأمة الإسلامية خاصة.
أدلة النهي عن التقليد والتشبه:
أولًا من القرآن الكريم:
ورد النهي عن التشبه والتقليد للكفار في آيات عديدة وأساليب متنوعة ومنها:
1- بيان أن ذلك خطر عام على مصالح الأمة وكيانها، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118].
2- التحذير منهم وعدم الاغترار بخصالهم السيئة وأهوائهم المضللة:
وقال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
3- بيان حقدهم ومكرهم وتمنيهم الشر للمسلمين:
قال -تعالى-: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109].
ثانيًا من السنة:
1- ماورد عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله: «من تشبه بقوم فهو منهم» [الراوي: عبدالله بن عمر، المحدث: ابن حبان، صحيح].
2- عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم» قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن» [الراوي: أبو سعيد الخدري، المحدث: البخاري، صحيح].
3- عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- عن الرسول قال: «خالفوا المشركين احفوا الشوارب وأوفوا اللحى»[الراوي: عبدالله بن عمر، المحدث: مسلم، صحيح].
وهو أمر صريح بمخالفة المشركين، وهو يدل على النهي عن موافقتهم.
أسباب التقليد الأعمى:
1- الجهل بحقيقة الإسلام.
2- البعد عن التربية الاسلامية.
3- الإعلام.
4- الفراغ.
5- ضعف عقيدة الولاء والبراء.
6- الانبهار بالتقدم المادي وجهل حقيقة حضارة الغرب.
العلاج:
1- إبداع وسائل عصرية تتناسب مع آلة هذه الهجمة الشرسة التي ترمي إلى زعزعة الثوابت، وأهم هذه الآلات وسائل الإعلام ويلاحظ فيها تطوير أساليب العرض الفكرية.
2- وضع استراتيجية مواجهة كاملة يشارك في تنفيذها: البيت، والمدرسة، والجهات التعليمية، والمؤسسات الدعوية، والإرشادية، والجهاز الأمني كذلك.
3- تنشئة الفرد تنشئة إسلامية شرعية صحيحة منذ الصغر، تربية وتعليمًا، بحيث يكون لديه الحصانة الذاتية لرد هذه الشعارات وعدم تقبلها، وهنا يأتي دور الأسرة، والمنهج التعليمي، ودور العلم والمدرسة.
4- أن ينهض علماء الأمة ومفكروها بدورهم تجاه مجتمعاتهم وأمتهم، وأن يمسكوا بزمام الدعوة إلى الله ويكونوا قادتها وموجهيها على هدي الرسول وسلف هذه الأمة الصالح.
5- تفعيل رسالة المسجد وإعادة دوره كمكان لإيصال العلم الشرعي لعامة المسلمين، بأساليب مسيرة ومتناسبة مع ظروف العصر، وتحت إشراف علمي وتربوي سليم.
6- توضيح حقيقة هذا التقليد وأنه لايقف عند الحد الظاهر فقط؛ بل إنه يتعداه إلى التأثير على العقائد وأمور القلب.
7- التأكيد على قضية العداوة بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؛ فإنها قائمة منذ آدم عليه السلام إلى قيام الساعة فالحزبان لا يلتقيان أبداً، فالأول يريد دعوة الناس إلى عبادة الله، والثاني يدعو الناس إلى عبادة الطاغوت وطاعته، وقتال المؤمنين لصدهم عن دينهم: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} [البقرة: 217].
8- بعث الأمل وتقويته في النفوس بقرب نصر الله «لتقاتلن اليهود فلنقتلنهم حتى يقول الحجر: يا مسلم! هذا يهودي، فتعال فاقتله» وفي رواية بهذا الإسناد: وقال في حديثه: «هذا يهودي ورائي» [الراوي: عبدالله بن عمر، المحدث: مسلم، صحيح].
والمؤمن موقن بأن الله حافظ دينه، ومعل كلمته، ولن يزال في الأمة موفقون يهدون بالحق وبه يعدلون، ولا تزال في أمة محمد طائفة على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله.
المحجة بيضاء، والطريق بين، والحق أبلج، وما على أهل الحق من المسئولين والعلماء والدعاة إلا أن يصدقوا في النوايا، ويشمروا في العمل، فرجل الأصالة، وصاحب الاستقلال المحمود: هو المسلم المستمسك بدينه، الواثق به، المعتز بتعاليمه.
أصناف من نُهينا عن التشبه بهم:
1- الشيطان: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يأكلن أحد منكم بشماله، ولا يشربن بها، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بها» [الراوي: عبدالله بن عمر، المحدث: مسلم، صحيح].
قال ابن تيمية: فإنه -صلى الله عليه وسلم- علل النهي عن الأكل والشرب بالشمال بأن الشيطان يفعل ذلك، فعلم أن مخالفة الشيطان أمر مقصود مأمور به، ونظائره كثيرة .
2- عموم الكفار: عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم» قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن» [الراوي: أبو سعيد الخدري، المحدث: البخاري، صحيح].
3- المبتدعة: عن أبي قلابة أنه قال: "إياكم وأصحاب الخصومات، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون".
4- الفساق: قال القرطبي: "لو خُص أهل الفسوق والمجون بلباس منع لبسه لغيرهم، فقد يظن به من لا يعرفه أنه منهم، فيظن به ظن السوء، فيأثم الظان والمظنون فيه بسبب العون عليه" .
5- الرجال بالنسبة للنساء والنساء بالنسبة للرجال: تشبّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال من كبائر الذنوب، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لعن النبي -صلى الله عليه وسلم- المخنثين من الرجال، والمترجّلات من النساء، وقال: «أخرجوهم من بيوتكم»، قال: فأخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- فلانًا، وأخرج عمر فلانًا. [الراوي: عبدالله بن عباس، المحدث: البخاري، صحيح] وفي رواية: «لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء» [الراوي: عبدالله بن عباس المحدث: محمد جار الله الصعدي، صحيح]
قال ابن حجر: "قال الطبري: المعنى: لا يجوز للرجال التشبه بالنساء في اللباس والزينة التي تختص بالنساء".
6- الحيوانات: عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» [الراوي: أنس بن مالك، المحدث: البخاري، صحيح].
عن عبد الرحمن بن شبل -رضي الله عنه-: «أن رسول الله نهى عن ثلاث: عن نقرة الغراب، وافتراش السبع، وأن يوطّن الرجل المقام للصلاة كما يوطّن البعير» [الراوي: عبدالرحمن بن شبل، المحدث: الألباني، حسن].
قال ابن تيمية: "التشبه بالبهائم في الأمور المذمومة في الشرع مذموم منهي عنه؛ في أصواتها وأفعالها ونحو ذلك, مثل: أن ينبح نبيح الكلاب، أو ينهق نهيق الحمير، ونحو ذلك.
أحكام التشبه بالكفار:
قال ابن عثيمين: "الذي يفعله أعداء الله وأعداؤنا وهم الكفار ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: عبادات، القسم الثاني: عادات، القسم الثالث: صناعات وأعمال.
أما العبادات فمن المعلوم أنه لا يجوز لأي مسلم أن يتشبه بهم في عباداتهم, ومن تشبه بهم في عباداتهم فإنه على خطر عظيم, فقد يكون ذلك مؤديًا إلى كفره وخروجه من الإسلام.
وأما العادات كاللباس وغيره فإنه يحرم أن يتشبه بهم لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من تشبّه بقوم فهو منهم» [الراوي: عبدالله بن عمر المحدث: ابن حبان ، صحيح].
وأما الصناعات والحرف التي فيها مصالح عامة فلا حرج أن نتعلم مما صنعوه ونستفيد منه، وليس هذا من باب التشبه، ولكنه من باب المشاركة في الأعمال النافعة التي لا يُعدّ من قام بها متشبهًا بهم".
حكم التشبه:
أولًا: من أنواع التشبه بالكافرين ما هو شرك أو كفر، كالتشبه في العقائد، والتشبه في بعض العبادات، وكالتشبه باليهود والنصارى والمجوس في الأمور المخلة بالتوحيد والعقيدة، كالتعطيل والإلحاد والحلول, وتقديس الأشخاص من الأنبياء والصالحين وعبادتهم ودعائهم من دون الله، وكتحكيم الشرائع والنظم البشرية، كل ذلك إما شرك وإما كفر.
ثانيًا: من التشبه ما هو معصية وفسق، كتقليد الكفار في بعض العادات، كالأكل باليد الشمال، والشرب بها، والتختم بالذهب، والتحلي به للرجال، وحلق اللحى، وتشبه النساء بالرجال، وتشبه الرجال بالنساء، ونحو ذلك.
ثالثًا: ما هو مكروه، وهو ما تردد الحكم فيه بين الإباحة والتحريم، على سبيل عدم الوضوح في الحكم، أعني أنه قد تتردد بعض أنماط السلوك والعادات والأشياء الدنيوية بين الكراهة وبين الإباحة، فهذا دَفْعًا لوقوع المسلمين في التشبه، يبقى حكمه مكروهًا.
رابعًا: ما هو مباح، وهو ما ليس من خصائصهم من أمور الدنيا، أي: ليس فيه سمة تخصهم وتميزهم عن المسلمين الصالحين، وما لا يجر إلى مفسدة كبرى على المسلمين أو إلى منفعة للكفار تؤدي إلى الصغار للمسلمين، ونحو ذلك. ومن المباح: الإنتاج المادي البحت والعلوم الدنيوية البحتة.
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من المتتبعين لكتابه ولسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- وأن يميتنا على الإسلام إنه سميع مجيب، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.