السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .
اللهم لا عِلْم لنا إلا ما علَّمتنا ، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وزدنا علما ، واجعل ما نتعلمه حجةً لنا لا علينا ، اللهم لك أسلمنا وبك آمنا وعليك توكلنا وإليك أنبنا وبك خاصمنا ، نعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلنا ؛ فأنت الحي الذي لا يموت ، والجن والإنس يموتون ، ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله .
معاشر الإخوة الكرام : هذه المحاضرة أو هذا اللقاء الذي نسأل الله الكريم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعله لقاءً مباركا وأن يجعله لقاء خيرٍ وإيمانٍ وصلاحٍ وصلةٍ بالله تبارك وتعالى وبُعدٍ عن الشرور وأسبابها ووسائلها ، عنوان هذه المحاضرة - معاشر الإخوة الكرام - هو قول الله تعالى : {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} .
{وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69] هذا كلام رب العالمين أنزله الله تبارك وتعالى وحياً يُتلى على عباده ، أنزله تبارك وتعالى قضاءً قضاه جل وعلا ؛ أن الساحر مهما كان سحره ومهما كان تعاطيه للسحر وتعامله به لا يفلح حيث أتى أينما توجه وأينما حلّ وفي أي مكانٍ نزل وبأيِّ سحرٍ تعامل ، الساحر لا يفلح حيث أتى هذا أمرٌ قضاه رب العالمين وخالق الخلق أجمعين ؛ ولهذا أيها الإخوة كان من المناسب أن يكون عنوان الحديث عن السحر والتحذير من أخطاره ومن أضراره وعواقبه السيئة والوخيمة على أهله في الدنيا والآخرة - كان من المناسب عنوانا لهذا الموضوع العظيم - هو قول رب العالمين {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} .
وينبغي معاشر المؤمنين أن تكون هذه الآية قاعدةً ثابتةً في قلوبنا وأمراً راسخاً في نفوسنا نؤمن به ونعتقد أنه كلام ربنا جل وعلا الذي بيده أزمَّة الأمور ومقاليد السماوات والأرض الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه وتعالى ؛ فينبغي أن تكون هذه الآية الكريمة مستقرةً في قلوبنا نؤمن بها ونعتقد ما دلت عليه .
وقبل الدخول بشيءٍ من التفصيل في معاني هذه الآية ودلالاتها ومضامينها العظيمة لعلَّ من الحسَن أن نقف على السياق المبارك الذي وردت فيه هذه الآية العظيمة وذَكَر فيه رب العالمين هذا القضاء {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} ، والآية كما تعلمون جاءت في سياقٍ مبارك في سورة طه في ذِكر مواجهةٍ عجيبة ومنازلة عظيمة كانت بين إمام هدىً وإمام طغيان ؛ بين موسى عليه السلام نبي الله وصفيِّه وكليمه عليه صلوات الله وسلامه ، وبين فرعون الطاغية فرعون الذي ادَّعى أنه رب العالمين وقال للناس {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } [القصص:38] ، فذكر الله سبحانه وتعالى المواجهة التي كانت بين موسى وفرعون وهي مواجهة عجيبة ينبغي علينا أن نقف عندها متأملين متدبرين .
ولك أن تتأمل في وضع موسى عليه السلام وحاله عندما يأمره رب العالمين جل وعلا قائلا له : {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] ، {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:43-44] يذهب ومعه وزيرٌ من أهله ، معه أخوه هارون إلى بيت هذا الطاغية لأجل ماذا ؟ لدعوته إلى الإيمان ، لتحذيره من الطغيان ، لتذكيره بمن خلقه وأوجده من العدم ، لدعوته إلى عبادة الله سبحانه وتعالى ، لإقامة الحجة عليه وإيضاح البرهان ؛ فيتقدَّم موسى عليه السلام ممتثلاً أمر ربه ويتَّجِه إلى مكان هذا الطاغية مستعيناً بالله متوكلاً عليه طالباً مدَّه وعونه وهو يعلم أن ربه تبارك وتعالى معه {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [طه:46] لا تخافا . فيذهب بثبات إيمان وقوة عقيدة وحُسن صلةٍ بالله تبارك وتعالى وتمام توكلٍ عليه وتبدأ مواجهة بينه وبين هذا الطاغية ويدعوه إلى الإيمان بالله ويقول له فرعون {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] ، يقول {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] فيأتي موسى عليه السلام له بالحجة تلو الحجة وبالبرهان تلو البرهان ، أقام حججاً بينات وبراهين ساطعات ودلائل واضحات على مثلها يؤمن البشر ، أوضحها واستبانت وظهرت وضوح الشمس ولكن فرعون أبى إلا العناد والاستكبار ، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى في بيان هذه الحقيقة {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى } [طه:56] آيات أفقية وآيات نفسية وآيات عقلية ؛ آيات واضحة تمام الوضوح بيِّنة تمام البيان والنتيجة في حاله أنه كذب وأبى ، كذب وأبى مستكبراً ومعانداً لا أنه لم يتضح له الأمر ولم تستبِن له الحقيقة ، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في موضع آخر : {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14] ، وأيضا يقول الله عز وجل فيما حكاه وذكره عن نبيه موسى – موسى يقول لفرعون – { لَقَدْ عَلِمْتَ } أي في قرارة نفسك { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } [الإسراء:102] يقول أنت تعلم في قرارة نفسك ، لكنه كذَّب وأبى ، امتنع {ظُلْمًا وَعُلُوًّا} تكبراً وعناداً ليس جهلاً أو عدم معرفة ؛ على وجه العناد {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى } . ثم مع تكذيبه وإبائه وجحوده وعناده أخذ يسلك مسلك الاستخفاف بقومه {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف:54] فأخذ يسلك مسلك الاستخفاف بقومه ويذكر كلاماً يلمس فيه أمراً يؤثر في قلوبهم فماذا قال؟ { قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى }[طه:57] وانتبه هنا إلى هذا المكر العجيب والخبث والدهاء ؛ { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا } يلمس هنا أمراً يؤثر في قلوب الناس ، من الذي يرضى أن يُخرج من وطنه الذي نشأ فيه وعاش فيه وترعرع فيه ووُلد فيه !! فصوَّر لهم القضية أن هذا الرجل لم يأتِ يحمل حقاً يحمل هدىً يحمل دعوة خير وإنما حقيقة هذا الرجل صوَّرها لهم أنه جاء ليخرجهم من أرضهم ، وهذا أمر تأباه نفوسهم ولا ترضاه فصوَّر لهم الأمر بهذا القالب وبهذه الصورة { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى } ، وأيضا صوَّر لهم أن كلام موسى نوع من السحر وحديثه نوع من السحر ، فصوَّر لهم هذا الأمر حتى يتناقله الناس ويعيشون في هذا التصور ، ثم قال : { فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ } [طه:58] هذا السحر الذي جئتنا به ، يشير بقوله { بِسِحْرِكَ } إلى العصا التي يحملها معه ويده التي جعلهما الله برهانان منه سبحانه على صدق ما يدعو إليه ؛ وهو أن العصا التي كانت في يده إذا ألقاها بقدرة الله تبارك وتعالى تتحول حقيقةً من عصا جماد إلى حيوان ثعبان ، حقيقة تتحول هذه العصا إلى كائن حي ثعبان ، وتتحرك حركة الثعبان وتتحول حقيقةً إلى ثعبان . والآية الثانية إذا ضم يده إلى جيبه وأخرجها تخرج بيضاء بياض ناصع ساطع برهانان من الله سبحانه وتعالى حجة واضحة ، فصوَّر فرعون هذا الأمر لقومه أنه سحر وقال : { فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى }[طه:58] فرعون يقول لموسى حدِّد لنا موعد ونأتي بسحَرتنا وينازلونك ، فعندنا سحر مثل هذا السحر الذي جئت به .
{ مَكَانًا سُوًى }: أي مكانا نستوي نحن وأنت في العلم به ؛ مكان محدد بيّن معلوم نعرفه نحن وتعرفه أنت هذا قول ، وقيل { مَكَانًا سُوًى }: أي مكاناً مستوياً منبسطاً بحيث كل ما يحدث فيه من أمر أو من شيء يراه الجميع ، فحدِّد لنا موعد نجتمع فيه . فألْهم الله عز وجل نبيه موسى فقال : { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى } [طه:59] موعدكم يوم الزينة : يعني يوم العيد اليوم الذي كانوا يتخذونه عيد { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} ، واختار يوم العيد لأن الناس كلهم يتخلَّون عن أشغالهم أعمالهم مصالحهم حاجاتهم الكل متفرغ متهيئ ، { وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى } ما قال في الليل وإنما في الضحى أي في وضَح النهار لماذا ؟ لأن الذي عنده آيات بينات واضحات ، أما السحرة فعملهم متى ؟ يقول ابن القيم رحمه الله «سلطان السحر وعظم تأثيره إنما هو بالليل دون النهار » وإذا عمل الساحر في النهار يختار غرفة مظلمة ويشعل دخاناً وبخوراً حتى تعتِّم الغرفة ويعمَّ فيها الظلام ثم يبدأ يعمل في ظلام ، إن عمل في النهار اختار غرفة مظلمة وشغَّل أدخنة وأبخرة حتى يظلم المكان فيعمل في مثل هذه المواضع .
موسى عليه السلام اختار لهم يوم الزينة اليوم الذي يجتمعون فيه ، واختار لهم أيضا وقت الضحى قال : { وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ } يؤكد على هذه القضية ماذا ؟ أن يجمع الناس يحدد المكان ويوم العيد الكل ما عنده عمل ويجتمعون في هذا اليوم { وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى } الناس صغار كبار نساء رجال أطفال { وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى }يأتوا في هذا الوقت . اتفقوا على هذا الأمر وحدَّدوا الموعد .
{ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} [طه:60] {وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ } [الأعراف:111] وطلب منهم أن لا يأتوه إلا بكل ساحر عليم عنده علم في السحر وفهم ومعرفة وخبرة ، فطلب من أعوانه وأنصاره وجنوده أن ينتشروا في الآفاق ويجمعوا له كل ساحر عليم . بعض المفسرين ذكر - والله أعلم بصحة هذا الخبر - أن السحرة الذين جُمعوا في ذلك اليوم يزيدون على الثلاثين ألف وكلهم اختيروا اختياراً لأنه قال لهم { بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} [الأعراف:112] ما قال أي ساحر أو بأي شخص وإنما طلب الساحر العليم بالسحر ، وعليم صيغة مبالغة من عالم ، فأراد أشخاصاً لهم خبرة ودُربة ومعرفة { فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى } .
جاء اليوم المحدد واجتمع السحرة ، اجتمع السحرة وهم يطلبون في هذا الاجتماع أمرين :
- الأمر الأول : يطلبون الأجر ، المال ؛ وهذا هو مطمع السحرة عموماً جمْع أموال وأكل لأموال الناس بالباطل ، ولهذا لما وصلوا قالوا { أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } [الشعراء:41-42] فهم يريدون المال وهذا مطمع السحرة أو من المطامع البارزة عندهم .
- والأمر الثاني : الجاه والمكانة عند فرعون { وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }أي مقربين عنده .
فاجتمع السحرة في الميدان ، أعداد مهيلة من السحرة اجتمعوا وموسى عليه السلام وحده يتقدَّم لمنازلة هؤلاء في هذا الميدان ، ويتقدَّم إلى الساحة ليس معه إلا عصاه لكنه يتقدم تقدُّم الرجل المؤمن بالله الواثق به المعتقد أن النصر من عند الله والحفظ من عند الله والتوفيق بيد الله وأن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لن يضروه إلا بشيءٍ كتبه الله عليه ، ولو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لن ينفعوه إلا بشيءٍ كتبه الله عليه ؛ فدخل بثبات الإيمان وقوة العقيدة وحُسن الصلة بالله تبارك وتعالى وأمامه هؤلاء السحرة وجاء الميدان ، وبدأ النزال بين موسى وبين هؤلاء الألوف من السحرة المجتمعين وهم من عُتاة السحرة وكبراءهم وأكثرهم خبرة ومعرفة ودربة في السحر ؛ فيتقدم والناس جموع يتصدَّرهم أو يتزعمهم فرعون وعلى يمينه وزراءه وأعوانه والناس من حوله جُمع الناس وأيضاً لما جمع الناس همسوا لهم كلمة ربما يحتاجونها إلى وقت معين ماذا قالوا لهم ؟{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ } ماذا الغالب ؟! قالوا {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ } [الشعراء:40] الإنصاف أن يقال نتبع الغالب ، الذي يغلب نتبعه ، لأن الميزان الآن حتى يُنظر ، فأيضاً رموا هذه الكلمة {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ } فانظر مكر أساطين الضلال وعتاولة الباطل وكيف أنهم يعبثون بعقول السوقة والعوام والجهلة ويسيِّرونهم طوع ما يشتهون ووفق ما يريدون .
تقدَّم موسى عليه السلام إلى الساحة وبدأ النزال بموعظة تهز الجبال { قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى } [طه:61] كلام قوي جداً يهز الجبال ، موعظة ، تذكير ، والذكرى تؤثر وتنفع وتفيد ، أولئك جاءوا وأُخبِروا بأنهم سيُنازلون ساحر ، والكلام الذي سمعوه ليس كلام ساحر !! صاحب السحر يعرف كلام السحرة ، ومن تعاطى السحر أو جالس سحرةً أو نحو ذلك يعرف كلامهم ، أما هذه الموعظة لا يقوله ساحر { قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى } هذا الكلام لا يقوله ساحر ، وهم جاءوا يتصوَّرون أنهم جاءوا لمنازلة ساحر عريق في السحر متمكن فيه قوي ، هذا الكلام الذي سمعوه عرفوا في قرارة نفوسهم أنه ليس كلام ساحر ، ولهذا فإن الصف المجتمع للنزال تخلخل بعد الموعظة قال تعالى { فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [طه:62] وجد بينهم نزاع ، الله أعلم أن النزاع الذي وجد بينهم أن بعضهم أصبح يقول هذا ليس كلام سحرة هذا ليس ساحر ، بعضهم يقول لا ؛ هو ساحر ، وهكذا أصبح بينهم تفكك ونزاع {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} ، ثم جماعة منهم أخذوا يبثون بينهم بقوة أنه ساحر فعلاً { وَأَسَرُّوا النَّجْوَى } [طه:62] أخذوا بشكل قوي يسرُّون النجوى في الجميع أنه ساحر { وَأَسَرُّوا النَّجْوَى } ما هي النجوى التي أسروها؟
{قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} يعني موسى وهارون { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا } رجعوا إلى قول مماثل لقول فرعون { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى } قد يكونوا لُقِّنوا من فرعون أو من بعض أعوانه هذه الكلمة وقت النزاع ، وقد يكون بعضهم اتفاقا توافق مع فرعون في هذه الكلمة فقالوا { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } [طه:63] هذه زيادة زادوها على الكلام الذي ورد عن فرعون { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } أنتم طريقتكم أفضل طريقة وعملكم أحسن عمل وأنتم خبراء في السحر وأهل تجارب وهذا يريد أن يسحب البساط من تحتكم ويذهب بطريقتكم المثلى، إذاً ماذا نصنع ؟ يتشاورون فاتفقوا على ماذا ؟{ فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } [طه:64] قرَّ قرارهم واستقر أمرهم على هذا أن يجمعوا كلمتهم وتكون كلمة واحدة وأن يبدؤوا بالنزال صفاً واحداً متكاتفين متعاونين قالوا { وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } كأنهم يقولون لبعض اعلموا أن هذا اليوم له ما وراءه فإياكم والتخاذل إياكم والتواني إياكم والتثبط اليوم هذا له ما وراءه فلا تفوِّتوا على أنفسكم الفرصة { وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} .
لاحظ هنا ملاحظة في أمر قد يوجد في الساحر أو ربما هو مطمَع عنده وهو أنه من خلال السحر ينشد فلاحاً ؛ ولهذا هم يقولون { وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } فإن غلبناه فنحن المفلحون نحن أهل الفلاح فلا تضيِّعوا على أنفسكم الفلاح ، إذاً هم عندهم ظنون وأوهام يعيشون فيها أنهم من وراء السحر يحصِّلون فلاحا ، وأرادوا أن يُبرزوا ثباتهم وأنهم مستعدين تماما للنزال فبدؤوا موسى قائلين له :{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى } [طه:65] هذه الكلمة قالوها قاصدين منها أن يُظهروا أنهم اجتمعوا مستعدين تمام الاستعداد ؛ فإما أن تبدأ أنت يا موسى بإلقاء ما عندك أو أننا نحن نبدأ بإلقاء ما عندنا ، فماذا قال نبي الله ؟ {قَالَ بَلْ أَلْقُوا } ابدءوا أنتم { قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [طه:66] ألقوا ، والذي جاءوا به حبال وعِصِيّ ولكن بتعاملهم بالسحر يستطيعون أن يخيِّلوا للحاضرين أن هذه العصي والحبال حيَّات ، ليست حيات حقيقية وإنما حيات بالتخييل والتصور ، يعني من يراها يظنها فعلاً أنها حيات حقيقية وواقعها أنها حبال وعصي ، لكن من يراها يخيَّل إليه أنها تسعى ولهذا قال العلماء السحر قسمان : حقيقة وتخييل فكان سحرهم هذا من سحر التخييل ، فخيَّلوا للناس أن هذه الحبال والعصي حيات ، وممن رآها بهذه الصورة نبي الله موسى عليه السلام ولهذا قال رب العالمين :{ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى } [طه:67] ؛ الخيفة التي أوجسها موسى عليه السلام في نفسه هي الخوف الطبيعي الذي يوجد في كل إنسان ؛ يخاف من الحية ، يخاف من العقرب ، يخاف من النار ، هذا خوف طبيعي يوجد في كل إنسان ، لكنه مع إيمانه مع ثقته بالله مع توكله على الله سبحانه وتعالى وأيضا رب العالمين ثبَّته { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى } [طه:67-68] تثبيت من الله سبحانه وتعالى لنبيه { لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ }[طه:87-69] في يمينه ماذا ؟ في يمينه عصا قال { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا } لا إله إلا الله !! الله أكبر { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا } ما الذي صنعوه ؟ المكان المستوي المنبسط الممتلئ بالسحرة مليء بماذا ؟ مليء بالحبال ومليء بالعصي ، كم كبير وهائل جداً يملئ المكان من الحبال والعصي التي يخيَّل للناس أنها حيات تسعى ، فرب العالمين قال له { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا } كل الموجود في المكان ستلقفه العصا ، تخييل ؟ لا بل تلتقمه حقيقة ، تتحول العصا إلى حية حقيقة وتبتلع كل ما جاءوا به ، عصا في يده يرميها في المكان فتتحول حية حقيقة !! وأيضا تبتلع كل ما جاءوا به !! ولا يرى له وجود تبتلعه في جوفها {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] ، فتحولت هذه العصا إلى حية حقيقة وابتلعت كل ما جاءوا به .
السحرة منبهرون ! كل الأجهزة والأدوات والعدة والأشياء التي جاءوا بها للمنازلة كلها انتهت ابتلعتها عصا موسى التي تحولت حية ، والذي شاهدوه أمر آخر مختلف تماماً عن الذي يمارسونه ، آية من آيات الله سبحانه ، ورب العالمين أيضاً أراد أن تكون هذه الآية أمام الجموع كلها حجة على الجميع أمام الجموع كلها يوم العيد الناس كلها مجتمعة { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [طه:69] هذا قضاء الله، { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } أينما توجه أينما قصد أينما حل أينما نزل أي شيء فعل لا يفلح الساحر حيث أتى . سنعود إلى الآية لكن نكمل السياق .
ماذا حدث ؟ لما رأى السحرة هذا الأمر العجيب المهيل وهذه الآية البينة الواضحة الساطعة ماذا حدث ؟ قال رب العالمين { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا} كلهم من أولهم إلى آخرهم خروا سجداً لله رب العالمين { قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى } [طه:70] أعلنوها في المكان السوى المكان المنبسط أعلنوها أمام فرعون وأمام وزراءه وأعوانه أعلنوها صريحة مدوية خروا سجدا ، منظر رآه فرعون أمام عينيه ووزراءه من حوله ؛ كل من جاءوا ومن أحضرهم ومن استعان بهم كلهم أمامه خروا سجداً لله وأعلنوها { قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى } لا إله إلا الله !! قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ؛ في أول النهار سحرة كفرة فجرة ، وفي وسط النهار مؤمنين صادقين بررة !! ليس ساحراً واحداً ولا اثنين ولا ثلاثة ولا عشرة ولا مئة ، آلاف ، وكلهم عن آخرهم أعلنوا إيمانهم وليس إيماناً على طرف أو على حرف وإنما إيمان راسخ ، أول النهار سحرة ووسط النهار مؤمنين صالحين بررة فماذا قال فرعون ؟ أيضاً ما يزال يعبث في عقول من حوله ، مع أن الأمر أصبح في وضوح من أبين ما يكون فما يزال يستخف بعقول الناس فماذا قال ؟ { قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} يقول لهم : المعتاد والمعروف أن أفعالكم عن شوري لا تقومون بأمر إلا تستشيروني وترجعون إلي ، هكذا مباشرة تخرون سجدا!! وتعلنون الإيمان بدون استشارة وبدون رجوع إلي؟! { آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ } أي موسى {لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } [طه:71] أيضاً هذه ألقاها قاصداً أن يستخف العوام الذين حوله ، {لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } هل هذه الكلمة تنفُق ؟ هل هذه الكلمة تروج ؟ موسى جاء من مدين ، وفرعون جمع السحرة من أنحاء شتى ومن أماكن بعيدة ومن مناطق مختلفة والذين جمعوهم أعوانه ثم يقول لهم{ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } ؟! هو لم يرَهم إلا في هذا المكان ولم يجتمع بهم إلا في هذا الميدان فيرمي هذه الكلمة{ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } !! ، ثم انتقل إلى التهديد والوعيد .
{فَلَأُقَطِّعَنَّ } يهددهم { فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71] يقول لهم وستعرفون من الذي عذابه أشد وأبقى أنا أم رب موسى وهارون ، فأعلن لهم أن العذاب والعقوبة التي عنده هي أشد وأبقى من عذاب رب موسى وهارون ، وسترون يقول لهم {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} هذا التهديد لا يؤثر إطلاقاً في القلوب المؤمنة ، القلوب الصادقة ، القلوب المقبلة على الله سبحانه وتعالى لا يؤثر فيها أدنى تأثير { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا} لن نؤثرك على هذه الحجج الواضحة التي رأيناها والبينات الساطعات التي شاهدناها لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات ولن نؤثرك على الذي فطرنا وأوجدنا وخلقنا من العدم { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ } افعل ما بدا لك ، افعل ما شئت { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ } لكن ما هو قضاؤه ؟ وقضاؤه لا يكون إلا بإذن الله سبحانه وتعالى الكوني القدري { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [طه:72-73] .
انتهى السياق المبارك المتعلق بهؤلاء بهذه الخاتمة المباركة التي أرادها الله سبحانه وتعالى لهؤلاء فأعلنوا الإيمان ، أعلنوا التوحيد ، صدعوا بالعقيدة والثقة بالله تبارك وتعالى ولم يبالوا بتهديد فرعون وأعوانه وطلبوا رضا الله ، غفرانه ، رحمته سبحانه وتعالى وهم في كمال الإيمان والثقة به { وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } ، وكما ذكر أهل العلم لم يأت في القرآن ولم يأتِ أيضاً في الأحاديث الصحيحة أن فرعون باشر تقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، ولم يأتِ أيضا نفي ذلك ، ومثل هذا ماذا نقول فيه ؟ الله أعلم ، مثل هذا لا نقول فيه إلا إذا كان فيه آية أو حديث فلا ندري هل تم هذا الأمر أو لم يتم لكن الله عز وجل أخبر عن إيمان هؤلاء .
قال الله سبحانه وتعالى : { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } نحن ينبغي أن نأخذ من هذه القصة فوائد جليلة وكثيرة جداً منها هذه الفائدة العظيمة التي ينبغي أن تكون عقيدة راسخة في قلوب المؤمنين وهي قول الله سبحانه وتعالى { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } ، فوجب عليك أيها المسلم أن تعتقد اعتقاداً راسخاً وأن تؤمن إيماناً جازماً بأن الساحر أينما توجَّه وأينما حلّ وأينما نزل وأي سحر فعل هو في كل أحواله لا يفلح ، وأيضاً هذا تأخذ منه فائدة عظيمة جداً أتمنى أن تنتبهوا له جميعاً وهي : إذا كان رب العالين قضى أن الساحر لا يفلح { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } فكيف يطلب الناس من جهته فلاحاً ؟! إذا كان هو لا يفلح أينما توجَّه لا يفلح كل ما يمارسه مآله إلى الفشل والخيبة والخسران في الدنيا والآخرة لا يفلح الساحر حيث أتى مهما كان سحره ومهما كان تعامله بالسحر ومهما كان تعلمه له ومهما كان عدد السحرة المتعاونين معه لا يفلح الساحر حيث أتى ، فإذا كان هو في نفسه لا يفلح كيف ينشد من جهته فلاح!! .
وهنا تدرك المصيبة العظيمة والبلية الكبيرة التي رُزي بها كثير من الناس بالتوجَّه عند أدنى مشكلة أو أدنى مرض أو أدنى مصيبة إلى السحرة ، حتى أصبح في زماننا هذا التعامل مع السحرة يُبث حياً على الهواء عبر القنوات الفضائية مع الساحر حياً على الهواء ، وتتصل المرأة ويتصل الرجل ويتصل الصغير ويتصل الكبير ويقول أنا لي كذا وأنا حصل لي كذا فعبْر الهواء يقول ما اسم أمك ؟ وما اسم كذا ؟ وافعل كذا ويعطيه من طلاسم السحرة وشعوذة الدجالين عبر الهواء ، لا حياء من الله ولا حياء من خلق الله سبحانه وتعالى . فالساحر نفسه لا يفلح فكيف يُطلب من جهته فلاحاً ؟! ولهذا كان من المناسب أن يكون عنوان الحديث عن السحر هذه الآية العظيمة وهذا القضاء المبارك الذي قضى به رب العالمين وهو أن الساحر لا يفلح حيث أتى ؛ وهو أمر يجب أن يعتقده أهل الإيمان وأن يكون أمراً راسخاً في قلوبهم أن الساحر لا يفلح .
وإذا عرف المسلم ذلك عليه أن يعتصم بالله ويتوكل على الله ويلجأ إلى الله سبحانه ويطلب منه مده وعونه حتى من ابتُلي بسحرٍ لا يحلُّ له أن يذهب في طلب حله إلى ساحر لعموم قوله تعالى { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } فلا يذهب إليه ولا يصار إليه ولا يُتصل به ولا يُذهب إلى مكانه بأي حالٍ من الأحوال ، بل يُحذر غاية الحذر يُحذر هو ويحذر السحر نفسه وقد قال عليه الصلاة والسلام : (( اجتنبوا السبع الموبقات )) وذكر في مقدمتها السحر بعد الشرك بالله عز وجل .
والسحر لا يكون ولا يصل إليه أربابه إلا بالكفر بالله تبارك وتعالى والشرك به سبحانه ، ولا يمكن أن يكون الساحر ساحراً إلا إذا أشرك بالله سبحانه وتعالى ، والساحر لا يكون ساحراً إلا بالشرك ، وهذا أمر دلت عليه نصوص منها قول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ؛ هذه الآية تدل على أن الساحر لا يكون ساحراً إلا بخصلتين لابد منهما وكلٌّ منهما كفر بالله :
الخصلة الأولى : يدل عليها قول الله تعالى : { نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } ؛ ولهذا قال العلماء إن الإنسان كلما كان نبذه - والعياذ بالله - للقرآن أشد تقرباً للشياطين وطلباً لرضاهم كانت مكانته في السحر أقوى ، ولهذا يُطلب ممن أراد أن يكون ساحرا يُطلب منه أن ينبذ القرآن وأن يمتهن القرآن ، مثل أن يُطلب من بعضهم أن يكتب آيات القرآن الكريم بحيض النساء والعياذ بالله ، أو يأتي بالقرآن ويضع عليه النجاسة ، أو يطأ القرآن والعياذ بالله بقدمه ، أو يرمي القرآن في بيت الخلاء أو غير ذلك من الأعمال الكفرية الموغلة في الكفر . {نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } هذه الخطوة الأولى : نبْذ القرآن وامتهانه ، ولهذا تجد في الغالب الأعم في طلاسم السحرة يكتب آية الكرسي مقلوبة، أو يكتب قل هو الله احد مقلوبة ، أو يكتبها مقطَّعة بشكل بشع ، أو يكتبها ويكتب أمامها طلاسم أو أسماء شياطين ، يكتب آية الكرسي وبينها أسماء الشياطين أو يكتب آية الكرسي في ورقة ثم يدهنها بعذِرة والعياذ بالله أو ببول أو نحو ذلك ، بمثل هذه الأعمال يتقرب الساحر إلى الشيطان فيكون عوناً له على أعماله . هذه الخطوة الأولى .
والخطوة الثانية : اتباع ما تتلوه الشياطين { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ؛ لاحظ هنا قال { تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ، يقول ابن كثير رحمه الله : عدَّى الفعل تلا بحرف "على" لأنه ضمَّنه معنى الكذب ، { تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي ما تكذبه الشياطين وتفتريه على مُلك سليمان ، وقد ذكر غير واحد من المفسرين : أن سليمان عليه السلام لما مات عمِدت الشياطين إلى كتب وأوراق كُتب فيها السحر فجاءوا وحفروا تحت كرسيه ودفنوها ، ثم بعد وقت أوعزوا إلى بعض الناس أن يستخرجها من تحت كرسيه وقالوا إن هذه الكتب التي تحت كرسيه هي التي كان يملك بها الأمور وسُخِّر له بها الشياطين وسُخِّرت له بها الدواب والطيور إلى آخره فكانت تسمع كلامه تطيعه لوجود هذه الكتب ، وهذا كذب منهم وافتراء كذَّبهم رب العالمين قال { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } هذا كذب عليه {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا } . قال الله عز وجل { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } هذه التبرئة لنبي الله سليمان من الكفر قالها الله عز وجل في سياق اتهامه بالسحر فبرَّءه من السحر بقوله { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } فماذا تستفيد من هذا ؟ أن الساحر كافر .
وهنا انتبه معي هذا السياق المبارك كما أنه يدل على الخطوات التي من خلالها يصل الإنسان إلى السحر فهو يدل على كفر الساحر من وجوه عديدة تصل إلى سبعة وجوه ، وإن شئتم نعدُّها سوياً :
الوجه الأول في هذا السياق المبارك في الدلالة على كفر الساحر : في قوله تبارك وتعالى : { نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } ونبذ الكتاب وراء الظهر كفر .
الوجه الثاني في قوله تعالى : { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} واتباع الشياطين عبادة لها وطاعة وهذا كفر {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} [مريم:44] .
الوجه الثالث : تبرئة الله سبحانه وتعالى لنبيه سليمان من السحر بقوله : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } فهذا وجه ثالث يدل على كفر الساحر .
الوجه الرابع في قوله جل وعلا : { وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ } فقرن وصفهم بالكفر بتعليمهم للناس السحر ، فدل ذلك على أن تعليمهم للناس السحر هو من الكفر الذي هم عليه ويمارسونه.
{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } يعني الملكان ، وهذه فتنة وابتلاء وامتحان من رب العالين { حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } وهذا الوجه الخامس في الدلالة على أن الساحر يكفر { فَلَا تَكْفُرْ }.
{ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } وهذا وجه سادس في الدلالة على كفرهم ، أي أن الساحر ليس له حظ ولا نصيب يوم القيامة .
الوجه السابع في قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:103] لو أنهم آمنوا واتقوا وهذا لا يقال في حق المؤمن .
فهذه وجوه سبعة في هذا السياق العظيم المبارك تدل على كفر الساحر ، وأن الساحر لا يكون ساحراً إلا بالكفر بالله سبحانه وتعالى .
وقد أورد ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية قصةً وصفها بأنها عجيبة وقال إسنادها جيد إلى عائشة رضي الله عنها ، ذكرت عائشة أن امرأةً جاءت من دومة الجندل إلى النبي صلى الله عليه وسلم - تريد النبي عليه الصلاة والسلام - ولكنها وصلت المدينة بعد وفاته يعني بأيام قليلة ، فلما وصلت المدينة وعلِمت أنه قد مات حزنت حزناً شديدا وبكت بكاء مرًّا فأخذت تبكي وتكلمت مع عائشة في خبرها وذكرت لها قصتها ، والقصة تجدونها في تفسير ابن كثير ، قالت المرأة ما معناه وملخصه : أنها فقَدت زوجها ، غاب عنها زوجها وكانت محبة له ففقدته وذهبت إلى امرأة عجوز وقالت إني فقدتُ زوجي أريد أن تساعديني في حل لعودته ، قالت أرشدك إلى أمر تفعلينه ولا تعصينني فيه ؟ ولك عليّ أن يأتي زوجك ، وكانت محبة له ، قالت لا أعصيك ، فواعدتها في وقت وأتت بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت المرأة الآخر وإذا بهما في لحظات ببابل وكانا هما في دومة الجندل فإذا بهما في لحظات في بابل، وإذا برجلين معلَّقين بقدميهما فقال لأي شيء جئتما ؟ قالوا جئنا نتعلم السحر ، فقالا لها إنما نحن فتنة فلا تكفري قالت أنا أريد أن أتعلم السحر ، فقالا لها اذهبي إلى ذاك التنور وبولي فيه ، حدَّدا لها تنور وأمراها بأن تبول فيه فذهبت إلى التنور فاقشعرت ورجعت إليهما ، قالا لها بلتِ فيه ؟ قالت نعم ، قالا لها ماذا رأيت ؟ قالت لم أر شيئا ، قالا كذبت لم تبولي ارجعي إلى بلدك ولا تكفري ، قالت أريد أن أتعلم السحر ، قالا لها اذهبي إلى ذاك التنور وبولي فيه فذهبت وأيضاً اقشعرت ورجعت وقالت بُلت ، قالوا ماذا رأيت ؟ قالت لم أرَ شيئا ، قالوا كذبت ارجعي إلى بلدك ولا تكفري ، قالت أريد أن أتعلم السحر - تريد زوجها هي ، حبها الشديد لزوجها أعماها وجعلها ملحَّةً في البحث عن وسيلة لطلب الزوج- فلا تكفري ، قالت أريد أن أتعلم السحر ، قالوا اذهبي وبولي في التنور فذهبت إلى التنور وبالت ، ولما بالت في التنور شعرت بأنه خرج منها فارس وطار في الهواء وذهب في السماء وهي تراه ، فرجعت إليهم قالت بلتُ فيه ، قالوا ماذا رأيت ؟ قالت رأيت فارساً على خيل ونحو ذلك خرج مني وطار في السماء، قالوا نعم هذا إيمانك قد خرج ، لا يكون الساحر ساحراً إلا بالكفر "ارجعي إلى بلدك ولا تكفري" ، {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ } ، فقالت للعجوز التي معها ما حصل لي شيئا ، فقالت لها خذي هذا القمح ارميه رمته ، قالت له قولي له انبت فنبت ، قالت لها قولي له احصد فحصد ، قالت قولي له ايبس فيبس ، قال قولي له اطحن فطحن ، قالت اخبز فخبز ، وجدت أنها تأمر وأمامها يحصل الشيء الذي تريد ، عندئذ تألمت ألماً شديداً وحزنت حزناً عظيما لحالها أنها وصلت إلى هذه المرحلة ؛ فجاءت إلى المدينة تبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم تريد تعرض عليه حالتها تريد تعرض عليه أمرها وجدته قد مات وأخذت تبكي ، تريد حل إيمانها مشى قضى وأصبحت في هذه الحال وبقيت في مصيبة انتزاع الإيمان وهي تريد إيمانها ، فأخذت تستفتي الصحابة كلما استفتت واحداً منهم أحالها للآخر أخذوا يتدافعون أمرها كل واحد يرسلها للثاني ، قال ابن عباس أو بعض من عنده : " إن كان لك أبوين أفتيتك "كأنه يريد أن يفتيها ببر الوالدين ، سبحان الله !! وأن بر الوالدين من القربات العظيمة المباركة التي يصلح بها حال الإنسان إذا عظم عنايته بهذا الباب وتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ، قال "إن كان لك أبوين أفتيتك" ، قال هشام أحد رواة الحديث " لو كانت جاءت في زماننا لوجدت الكثير من النوكى من يفتيها " يعني سرعة الفتوى حاضرة يسارعون بالفتوى ، والصحابة كانوا يتدافعون أمرها كل واحد يحيلها للثاني . فهذه من القصص وذكرها ابن كثير رحمه الله قال إسنادها جيد إلى عائشة .
وأنا مرةً جمعني مجلس ببعض الناس من دولة افريقية وشرحتُ لهم كتاب الأصول الثلاثة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، ومن نعمة الله سبحانه وتعالى أنهم فهموا التوحيد وفهموا العقيدة وأخذتُ أذكر من خلال ذلك تحذيراً من السحرة وأحوالهم إلى غير ذلك ، فقال أحد الحاضرين أريد أن أذكر لك قصة حصلت لي أنا من هؤلاء الذين درسوا علي الكتاب حصلت لي ، يقول لا أقول حُدِّثت بها وإنما حصلت لي أنا شخصياً - ولهذا تروون القصة عني مباشرة عن صاحب القصة - يقول كان لي جار أعرفه لم يرث من قريب له مالاً ، وليس هو صاحب تجارة ، وليس صاحب حرفة ولكن دائما عنده أموال !! وكنت أحتاج أحيانا المال وأذهب إليه يعطيني ، مرة أتيته قلت له يا فلان أنا جارك وتعلم حالي وتعلم ضعفي وتعرف فقري تعرف حاجتي ودائماً تحت وسادتك أموال فمن الجيرة دلني على طريقة أكون مثلك ، قال له أنا مستعد أن أدلك على طريقة وتكون مثلي ولكن اشترط عليك لا أطلب منك أمراً إلا وتفعله دون تردد - العجوز صاحبة المرأة التي في دومة الجندل قالت لها لا تعصيني أطلب منك شيء تكوني مستعدة قالت مستعدة - فقال له أنا أطلب ولكن أي شيء أطلبه مستعد ، قال أنا مستعد يقول أنا وقتها طمعان في المال - تلك طمعانة في زوجها - الطمع الدنيوي في الغالب يسوء ، فهذا طمعان في مال ويرى أموال عند صاحبه فقال لا أعصيك ، يقول فقال لي تذهب في الوقت الفلاني قرب مغيب الشمس (( تغرب الشمس بين قرني شيطان )) قال تذهب على شاطئ البحر وقرص الشمس يغرب ولما يقترب من الغروب تنادي بهذا الاسم - هو سمَّى لي أنا الاسم الذي علَّمه إياه ونسيته ولله الحمد - فقال تنادي بهذا الاسم لما تريد تغرب تقف أمام البحر والشمس أمامك وتنادي بهذا الاسم تصيح بصوت عالي بهذا الاسم تناديه ، يقول إذا ناديته بصوت مرات ستجد أن البحر ينشق ويخرج منه حيوان يشق الماء شكله مفزع مخيف لا تخاف وسيناديك باسمك وسيطلب منك بعض الطلبات أي شيء يطلب منك قل له نعم حاضر ، يقول فذهبت إلى شاطئ البحر عند الغروب ولما أوشكت على الغروب أخذت أنادي بذاك الاسم ، يقول ناديت كم مرة بصوت وفعلاً انشق البحر ورأيت دابة تخرج ولها شعر من وسط الماء وتقترب إلي قال يا فلان ، قلت نعم ، قال أريد أطلب منك طلبات قال حاضر ، يقول من رحمة الله بي أن أول طلب طلبه مني كان في أمر عشت محباً له عشت لا أساوم عليه يقول من رحمة الله أن أول طلب خرج مني في شيء نشأت عليه ولا أفكر أبدا أنني أساوم به ، قال يا فلان ، قلت نعم ، قال لا تصلي ، قلت " يا زول ! الصلاة ما داير أتركها " هذه عبارة صاحبنا ، ماني تارك الصلاة ، يقول فلما قلت هذه الكلمة صاح بصوت وأعطاني قفاه وذهب اختفى ، وهذا من رحمة الله عز وجل بالمصلي إذا كان محافظاً على الصلاة ولا يساوم فيها ، يقول فرجعت بعد وقت تركت صاحبي وعرفت أن هذا طريق ظلمة يقول في يوم مرِّيت ناداني وشتمني بشم مقذع وكلام غريب قال أنت ماذا فعلت بي ؟ لأنهم جاءوا إليه واعتدوا عليه وقالوا كيف ترسل لنا شخصا غير مطاوع !! يقول فرحمني الله سبحانه وتعالى .
فالشاهد أن الساحر لا يصل إلى السحر إلا عبر خطوات ، ولا يكون ساحراً إلا بالكفر بالله سبحانه وتعالى إذا عُلمت هذه الحقيقة وعلمنا ما دل عليه قول الله سبحانه وتعالى { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } هذا يا إخوان والله وحده يكفي لقطع الصلة بأي ساحر كان وعدم الاتصال بأي ساحر كان ، مهما كان الأمر ومهما كانت الحال حتى لو كان الإنسان يريد أن يذهب إليه لحل سحر ، فعموم قول الله سبحانه وتعالى { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} يدل على هذا المعنى .
الموضوع والحديث في هذا الموضوع حديث له جوانب عديدة وأطراف متنوعة ولعل فيما سمعناه شيء من البيان لهذا الأمر أو لبعض الحقائق في هذا الموضوع تنفعنا بإذن الله تبارك وتعالى . وهناك أيها الإخوة أمور مرتبط بعضها ببعض أشير إليها تنبيها وتحذيراً :
الجهل عندما يفشو في الناس وتقلّ البصيرة في الدين تكثر المعاصي ، وعندما تكثر المعاصي تكثر أيضاً الأمراض ، لأن المعاصي تؤثر على الأبدان ، تؤثر على القلوب ، تؤثر على الأموال ، تؤثر على المجتمعات {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] ، وإذا وجدت الأمراض وُجد التطبُّب وكثُر ، وإذا وجد التطبب انتشر في هذه الأجواء السحرة ، وكثيراً ما يخترق السحرة مجتمعات بزعمٍ منهم لعلاج الأمراض والأسقام وحل المشكلات والمصائب ، وكما يقال فاقد الشيء لا يعطيه ، من قال عنه رب العالمين لا يفلح { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } كيف يرتجى من ناحيته صحةً أو عافيةً أو غنى أو صلاح أمرٍ أو زوال مشكلة أو غير ذلك من الأمور !! لا يمكن أن ينال من جهة من هذا صفته ومن هذا شأنه مثل هذا ، بل من يتصل بهؤلاء ويتواصل معهم ويستعين بهم ويلتجئ إليهم لا يزداد إلا سقماً إلى سقمه وضعفاً إلى ضعفه ووهناً إلى وهنه {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] ، لا ينال إلا هذه الحقيقة .
ولهذا نحن جميعا بحاجة إلى العلم النافع ، بحاجة إلى ال