في شهر شوال من السنة الثالثة من الهجرة وقعت غزوة أحد، والتي أنزل الله تعالى على إثرها آيات قرآنية تُتلى إلى يوم الدين، ومنها قوله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}(آل عمران 140: 142)، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}(آل عمران: 152)، وقوله سبحانه: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(آل عمران: 169).
بدأت المعركة في أحد، واستبسل المسلمون في القتال، وانتصروا في البداية حين التزموا بأوامر النبي صلى الله عليه وسلم. ولما انسحب المشركون من ساحة القتال منهزمين، تبعهم المسلمون يقتلون ويغنمون، فرأى رماة المسلمين ذلك فترك كثير منهم أماكنهم، ونزلوا يجمعون الغنائم، وخالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم ترك أماكنهم لأي سبب من الأسباب، فانتهز خالد بن الوليد ـ ولازال يومئذ مشركاً ـ فرصة خلو الجبل من غالب الرماة، فالتف ورجع هو ومن معه من جنده من المشركين، فقتلوا من بقي من الرماة، وقاموا بالهجوم على المسلمين من الخلف يقتلونهم، حتى وصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشجوه وجرحوه في وجهه.. وفي خضم هذه الأحداث والقتال ثبت النبي صلى الله عليه وسلم ومعه بعض أصحابه ثباتاً عظيماً، حتى انتهت المعركة بما خلَّفَتْه من آلام وجراح، وبما تركته من دروس وعبر، والتي منها رحمته صلى الله عليه وسلم بأصحابه الذين خالفوا أمره من الرماة، وبأعدائه الذين آذوه وجرحوه وأرادوا قتله.
رحمته بالرماة الذي خالفوا أمره:
من صور ومظاهر رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد: رحمته بأصحابه الرماة الذي أكد عليهم عدم ترك أماكنهم، فخالفوا أمره وتركوا أماكنهم لما رأوا هزيمة المشركين وانسحابهم من أرض المعركة، فلم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أغلظ لهم أو عنَّفهم،، فالناس ولو كانوا مخطئين في حاجة إلى رفق ورحمة، وقلب يشفق عليهم ويعذرهم، ويأخذ بأيديهم ويوجههم، وهذا كان عامة وغالب حال النبي الله صلى الله عليه وسلم مع من أخطأ، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}(آل عمران:159). قال السعدي: "أي: برحمة الله لك ولأصحابك، منَّ الله عليك أن ألَنْتَ لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترققت عليهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك". والسيرة النبوية زاخرة بالمواقف التي تدل على رحمته ورفقه صلوات الله وسلامه عليه بالعصاة والمخطئين.
فائدة :
قال ابن عثيمين: "فإن قيل: معاملة الناس بالحزم والقوة والجفاء أحياناً، هل ينافي هذا الحديث (وخالق الناس بخلق حسن) أو لا؟ فالجواب: لا ينافيه، لأنه لكل مقام مقال، فإذا كانت المصلحة في الغلظة والشدة فعليك بها، وإذا كان الأمر بالعكس فعليك باللين والرفق، وإذا دار الأمر بين اللين والرفق، أو الشدة والعنف فعليك باللين والرفق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)".
رحمته بأعدائه في أحد:
وأما رحمته صلى الله عليه وسلم بأعدائه الذين آذوه وأرادوا قتله في غزوة أحد، فقد ظهرت في عدم موافقته على طلب بعض الصحابة منه أن يدعو على هؤلاء الكافرين الذين آذوه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل: يا رسول الله! ادْعُ على المشركين، قال:إني لم أُبعَثْ لعَّاناً، وإنما بُعِثتُ رحمة) رواه مسلم، قال الطيبي: "قوله: (وإنما بُعِثْتُ رحمة) أي إنما بعثت لأقرب الناس إلى الله تعالى وإلى رحمته، وما بعثت لأبعدهم عنها، فاللعن مناف لحالي فكيف ألعن؟".
وقال ابن هبيرة: "في هذا الحديث من الفقه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سُئِل أن يدعو لم يفعل، وأراه لو سُئِل أن يدعو لهم بالهداية لما امتنع، وإن بقاء المشركين من رحمة الله للمؤمنين، ليتخذ منهم شهداء بأيديهم، وليستمر بقاء الجهاد في سبيل الله لاستمرار بقائهم. وقوله: (لم أبعث لعَّانا)، أي: لم أبْعَث لأهلك الخلق، لأن اللعنة إذا وقعت منه صلى الله عليه وسلم أهلكت".
وقد روى مسلم في صحيحه في "باب غزوة أحد" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كأني أني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). قال القاضي عياض: "قال القاضي أبو الفضل: انظر ما في هذا القول من جماع الفضل ودرجات الإحسان، وحسن الخُلق وكرم النفس، وغاية الصبر والحلم، إذْ لم يقتصر ـ صلى الله عليه وسلم ـ على السكوت عنهم حتى عفا عنهم، ثم أشفق عليهم ورحمهم، ودعا وشفع لهم، فقال: اغفر ـ أوِ: اهد ـ، ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله: لقومي، ثم اعتذر عنهم بجهلهم فقال: فإنهم لا يعلمون". قال ابن هبيرة: "في هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ما جرى لنبي قبله من الأذى ليشعر أصحابه وأمته أن صبره على أذى قومه قد سبقه الأنبياء إليه، وليس هو عن عجز ولا عن ذل كما يظنه أهل الجاهلية، وإنما هو الرفق بالخلق والأناة".
ومن المواقف النبوية المشابهة لموقفه في غزوة أحد وعدم دعائه على المشركين: موقفه صلى الله عليه وسلم مع الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه حين طلب منه أن يدعو الله على قبيلته دوس لعصيانها لله عز وجل وامتناعها عن الإسلام، فردَّ النبي صلوات الله وسلامه عليه قائلا: (اللهُمَّ اهْدِ دَوْسَاً وائتِ بهم) رواه مسلم.
وكان من نتيجة هذه الرحمة النبوية بالكافرين الذين آذوه وعدم دعائه عليهم: أن أبا سفيان في أُحُد كان يقود المشركين، وشعاره: "اعلُ هُبل"، وفي فتح مكة بعد إسلامه قال: "لا إله إلا الله"، وكان من المناصرين للإسلام والمدافعين عنه. ووحشي الذي قتل حمزة في أُحُد، يُسلم بعد ذلك ويقتل مُدعي النبوة مسيلمة الكذاب، وقد أخرج الله عز وجل من أصلاب الذين أسلموا بعد غزوة أحد ذرية مسلمة عبدتِ اللهَ عز وجل ورفعت لواء الإسلام، ولو دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم لاستجيبت دعوته وهلكوا حينئذ وماتوا كافرين. قال القاضي عياض: "وإجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لجماعة، بما دعا لهم وعليهم، متواتر على الجملة، معلوم ضرورة".
قيلَ لهُ يَدعُو على الكُفَّارِ دَوْسٍ وغَيرِهِمْ مِنَ الفُجَّارِ
فقال: إنما بُعِثتُ رَحْمَهْ وليسَ لَعَّانًا نبيُّ الرَّحمَهْ
لقد كانت الرحمة خلق من أخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم التي اتصف وعُرِف بها، ولم تنفك عنه أبداً، لا في سِلم ولا في حرب، وشملت الصغير والكبير، والمؤمن والكافر، والطائع والعاصي، ولذا قال الله تعالى عنه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة: 128)، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء: 107)، قال الشنقيطيُّ: "ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه ما أرسل هذا النَّبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه إلى الخلائق إلا رحمة لهم، لأنه جاءهم بما يُسعدهم، وينالون به كل خير من خير الدنيا والآخرة إن اتبعوه، ومن خالف ولم يتبع فهو الذي ضيع على نفسه نصيبه من تلك الرحمة العظمى". ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول عن نفسه وعن بعثته: (يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة) رواه الحاكم وصححه الألباني.
بدأت المعركة في أحد، واستبسل المسلمون في القتال، وانتصروا في البداية حين التزموا بأوامر النبي صلى الله عليه وسلم. ولما انسحب المشركون من ساحة القتال منهزمين، تبعهم المسلمون يقتلون ويغنمون، فرأى رماة المسلمين ذلك فترك كثير منهم أماكنهم، ونزلوا يجمعون الغنائم، وخالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم ترك أماكنهم لأي سبب من الأسباب، فانتهز خالد بن الوليد ـ ولازال يومئذ مشركاً ـ فرصة خلو الجبل من غالب الرماة، فالتف ورجع هو ومن معه من جنده من المشركين، فقتلوا من بقي من الرماة، وقاموا بالهجوم على المسلمين من الخلف يقتلونهم، حتى وصلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشجوه وجرحوه في وجهه.. وفي خضم هذه الأحداث والقتال ثبت النبي صلى الله عليه وسلم ومعه بعض أصحابه ثباتاً عظيماً، حتى انتهت المعركة بما خلَّفَتْه من آلام وجراح، وبما تركته من دروس وعبر، والتي منها رحمته صلى الله عليه وسلم بأصحابه الذين خالفوا أمره من الرماة، وبأعدائه الذين آذوه وجرحوه وأرادوا قتله.
رحمته بالرماة الذي خالفوا أمره:
من صور ومظاهر رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد: رحمته بأصحابه الرماة الذي أكد عليهم عدم ترك أماكنهم، فخالفوا أمره وتركوا أماكنهم لما رأوا هزيمة المشركين وانسحابهم من أرض المعركة، فلم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أغلظ لهم أو عنَّفهم،، فالناس ولو كانوا مخطئين في حاجة إلى رفق ورحمة، وقلب يشفق عليهم ويعذرهم، ويأخذ بأيديهم ويوجههم، وهذا كان عامة وغالب حال النبي الله صلى الله عليه وسلم مع من أخطأ، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ}(آل عمران:159). قال السعدي: "أي: برحمة الله لك ولأصحابك، منَّ الله عليك أن ألَنْتَ لهم جانبك، وخفضت لهم جناحك، وترققت عليهم، وحسنت لهم خلقك، فاجتمعوا عليك وأحبوك، وامتثلوا أمرك". والسيرة النبوية زاخرة بالمواقف التي تدل على رحمته ورفقه صلوات الله وسلامه عليه بالعصاة والمخطئين.
فائدة :
قال ابن عثيمين: "فإن قيل: معاملة الناس بالحزم والقوة والجفاء أحياناً، هل ينافي هذا الحديث (وخالق الناس بخلق حسن) أو لا؟ فالجواب: لا ينافيه، لأنه لكل مقام مقال، فإذا كانت المصلحة في الغلظة والشدة فعليك بها، وإذا كان الأمر بالعكس فعليك باللين والرفق، وإذا دار الأمر بين اللين والرفق، أو الشدة والعنف فعليك باللين والرفق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)".
رحمته بأعدائه في أحد:
وأما رحمته صلى الله عليه وسلم بأعدائه الذين آذوه وأرادوا قتله في غزوة أحد، فقد ظهرت في عدم موافقته على طلب بعض الصحابة منه أن يدعو على هؤلاء الكافرين الذين آذوه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قيل: يا رسول الله! ادْعُ على المشركين، قال:إني لم أُبعَثْ لعَّاناً، وإنما بُعِثتُ رحمة) رواه مسلم، قال الطيبي: "قوله: (وإنما بُعِثْتُ رحمة) أي إنما بعثت لأقرب الناس إلى الله تعالى وإلى رحمته، وما بعثت لأبعدهم عنها، فاللعن مناف لحالي فكيف ألعن؟".
وقال ابن هبيرة: "في هذا الحديث من الفقه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سُئِل أن يدعو لم يفعل، وأراه لو سُئِل أن يدعو لهم بالهداية لما امتنع، وإن بقاء المشركين من رحمة الله للمؤمنين، ليتخذ منهم شهداء بأيديهم، وليستمر بقاء الجهاد في سبيل الله لاستمرار بقائهم. وقوله: (لم أبعث لعَّانا)، أي: لم أبْعَث لأهلك الخلق، لأن اللعنة إذا وقعت منه صلى الله عليه وسلم أهلكت".
وقد روى مسلم في صحيحه في "باب غزوة أحد" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كأني أني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء، ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). قال القاضي عياض: "قال القاضي أبو الفضل: انظر ما في هذا القول من جماع الفضل ودرجات الإحسان، وحسن الخُلق وكرم النفس، وغاية الصبر والحلم، إذْ لم يقتصر ـ صلى الله عليه وسلم ـ على السكوت عنهم حتى عفا عنهم، ثم أشفق عليهم ورحمهم، ودعا وشفع لهم، فقال: اغفر ـ أوِ: اهد ـ، ثم أظهر سبب الشفقة والرحمة بقوله: لقومي، ثم اعتذر عنهم بجهلهم فقال: فإنهم لا يعلمون". قال ابن هبيرة: "في هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ما جرى لنبي قبله من الأذى ليشعر أصحابه وأمته أن صبره على أذى قومه قد سبقه الأنبياء إليه، وليس هو عن عجز ولا عن ذل كما يظنه أهل الجاهلية، وإنما هو الرفق بالخلق والأناة".
ومن المواقف النبوية المشابهة لموقفه في غزوة أحد وعدم دعائه على المشركين: موقفه صلى الله عليه وسلم مع الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه حين طلب منه أن يدعو الله على قبيلته دوس لعصيانها لله عز وجل وامتناعها عن الإسلام، فردَّ النبي صلوات الله وسلامه عليه قائلا: (اللهُمَّ اهْدِ دَوْسَاً وائتِ بهم) رواه مسلم.
وكان من نتيجة هذه الرحمة النبوية بالكافرين الذين آذوه وعدم دعائه عليهم: أن أبا سفيان في أُحُد كان يقود المشركين، وشعاره: "اعلُ هُبل"، وفي فتح مكة بعد إسلامه قال: "لا إله إلا الله"، وكان من المناصرين للإسلام والمدافعين عنه. ووحشي الذي قتل حمزة في أُحُد، يُسلم بعد ذلك ويقتل مُدعي النبوة مسيلمة الكذاب، وقد أخرج الله عز وجل من أصلاب الذين أسلموا بعد غزوة أحد ذرية مسلمة عبدتِ اللهَ عز وجل ورفعت لواء الإسلام، ولو دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم لاستجيبت دعوته وهلكوا حينئذ وماتوا كافرين. قال القاضي عياض: "وإجابة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لجماعة، بما دعا لهم وعليهم، متواتر على الجملة، معلوم ضرورة".
قيلَ لهُ يَدعُو على الكُفَّارِ دَوْسٍ وغَيرِهِمْ مِنَ الفُجَّارِ
فقال: إنما بُعِثتُ رَحْمَهْ وليسَ لَعَّانًا نبيُّ الرَّحمَهْ
لقد كانت الرحمة خلق من أخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم التي اتصف وعُرِف بها، ولم تنفك عنه أبداً، لا في سِلم ولا في حرب، وشملت الصغير والكبير، والمؤمن والكافر، والطائع والعاصي، ولذا قال الله تعالى عنه: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(التوبة: 128)، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء: 107)، قال الشنقيطيُّ: "ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه ما أرسل هذا النَّبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه إلى الخلائق إلا رحمة لهم، لأنه جاءهم بما يُسعدهم، وينالون به كل خير من خير الدنيا والآخرة إن اتبعوه، ومن خالف ولم يتبع فهو الذي ضيع على نفسه نصيبه من تلك الرحمة العظمى". ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول عن نفسه وعن بعثته: (يا أيها الناس إنما أنا رحمة مهداة) رواه الحاكم وصححه الألباني.