ان الحمد لله ، نحمده و نستعينه ، و نستغفره ، و نعوذ بالله
من شرور انفسنا و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له
و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أن محمدا
عبده و رسوله صلى الله عليه و على آله و أصحابه و من تبعهم
بإحسان الى يوم الديـــن ، أما بعد ...
المسارعة إلى الخيرات
عبد الله بن صالح القصير
يا أيها الناس:
اتَّقوا الله - تعالى - تُفلِحوا، وبادِرُوا بالأعمال الصالحة قبل أنْ تُشغَلوا، بادِرُوا بالأعمال الصالحة فِتَنًا كقِطَع الليل المُظلِم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يَبِيع دينَه بعَرضٍ من الدنيا، فهل تنتَظِرون إلا فقرًا منسيًّا، أو غنًى مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجَّال، فشرُّ غائبٍ يُنتَظر، أو الساعة فالساعة أدهَى وأمرُّ؟
عباد الله:
استَبِقُوا الخيرات، ونافِسُوا في جليل القربات، ودوموا على ما أنتم عليه من الباقيات الصالحات، تَفُوزوا من الله بعظيم المِنَح والهِبات، وتكونوا من الصالحين الذين وصَفَهم الله مولاهم بجميل الصفات، في جملةٍ من الآيات؛ كما قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 61]، وقال - تعالى -: ﴿ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 88 - 89].
أيُّها المسلمون:
المؤمن كيِّس فَطِنٌ ذكي، مُوفَّق مُعان؛ ولذلك يَحرِص على فعْل الخير، ويُسارِع إليه، ويتحرَّى أهلَه، ويحضر مكانه، ويرتَقِب زمانَه، فإذا شهد مناسبته أو عرَض له سببُه أو دُعِي إليه، سبَق إليه مُجِيبًا لداعِيه، ففعَل ما استَطاع منه، واعتَذَر عمَّا عجَز عنه، ورجَا من الله ثَوابَ الاثنين بفضله ورحمته؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ﴾ [فاطر: 29 - 30].
وقد صَحَّ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال لأصحابه وهم في غزوة تبوك: إنَّ بالمدينة لرجالاً ما سرتُمْ مَسِيرًا ولا قطعتُم واديًا إلاَّ كانوا معكم؛ حبسهم المرض.
وفي روايةٍ: إلاَّ شركوكم في الأجر.
وكيف لا يَطمَع في فضْل الله مَن يَعلَم سعَةَ رحمتِه وعظيمَ غِناه، وأنَّه الجواد الكريم الرَّؤوف البَرُّ الرَّحيم؛ ولذلك يَجزِي بالحسنة عشْر أمثالِها إلى سبعمائة ضِعف إلى أضعافٍ كثيرة؛ ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 20 - 21].
أيُّها المؤمنون:
إنَّ العبد إذا استَجاب لداعي الخير فسارَع إليه وسبَق الناس فيه، فإنَّه يَفُوز من الله الكريم بمِنَحٍ كريمةٍ، وعَطايا جَزِيلة، وأجور عظيمة، فإنَّه بذلك يكون مستجيبًا لله وللرسول، وجزاؤه على ذلك الحياة الطيِّبة الكريمة، والأمن من أنْ يُحال بينه وبين قلبه، والعافية من المِحَن، والنَّجاة من الفِتَن، وربما سبَق المرء إلى فعْل خيرٍ تقرَّر أنَّه من أدنى خِصال الإِيمان، ولكنَّه وقَع من الله مَوقِعًا لا يَخطُر له على بال، فأثابَه الله عليه ثوابًا لا يَدُورُ لأحدٍ بخيال؛ وذلك لصحَّة النيَّة واحتِساب الأجْر عند ذي الكرم والجلال؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة - رضِي الله عنه - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ وجَد غُصنَ شوكٍ على الطريق فأخَّرَه فشكَر الله له فغفَر له، وفي روايةٍ لمسلم قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: لقد رأيتُ رجلاً يتقلَّب في الجنَّة في شجرةٍ قطَعَها من ظهْر الطريق كانت تُؤذِي المسلمين.
والسابق إلى الخير ابتِغاءَ وجْه ربِّه يجعَلُه الله إمامًا في هذا الخير لِمَن يعمَل به بعده، فيُعطِيه الله أجرَه، ومثل أجْر مَن فعَلَه؛ لإحيائه لسنَّةٍ غفَل عنها الناس؛ ففي "صحيح مسلم" عن جرير بن عبدالله - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: مَن سَنَّ في الإِسلام سنَّةً حسنة فله أجرُها وأجرُ مَن عمل بها من بعده من غير أنْ ينقص من أجورهم شيء.
كان سبب قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه دعا الناس يومًا للصدقة، فسبَق رجل بالصدقة فتَبِعَه الناس.
وفي "صحيح مسلم" أيضًا عن أبي مسعود الأنصاري - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: مَن دلَّ على خيرٍ فله مثلُ أجرِ فاعِلِه.
ومن فضْل الله - تعالى - علينا معشر المسلمين أنَّ الرجل إذا فعَل الخير ولازَم عليه، فحصَل له عارِضٌ منَعَه منه من غير قصْد التخلُّف عنه أجرى الله له عملَه على ما كان عليه قبل ذلك العارِض؛ ففي "صحيح البخاري" عن أبي موسى - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: إذا مَرِضَ العبدُ أو سافَر كُتِبَ له مثْل ما كان يَعمَل مُقِيمًا صحيحًا.
وإذا مات المسلم على فعْل خيرٍ خُتِمَ له خاتمة حسنة يُبعَث عليها يوم القيامة؛ لما في "صحيح مسلم" عن جابر - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: يُبعَث كلُّ عبدٍ على ما مات عليه.
وكان رجلٌ مع النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في عرفةٍ في حجَّة الوداع فسقَط من على راحلته فوقصَتْه؛ أي: وطِئَت عنقه فمات، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: غسِّلوه وكفِّنوه في ثوبَيْه، ولا تخمِّروا رأسَه، ولا تمسُّوه طِيبًا؛ فإنَّه يُبعَث يوم القيامة مُلبِّيًا.
فاتَّقوا الله أيُّها المؤمنون، واستَجِيبوا لربِّكم إذا دعاكُم إلى المسارَعة إلى مغفرته وجنَّته؛ باستِباق الخيرات، وعمَل الصالحات، من التقوى، والنَّفَقة ابتِغاء وجهِه، والحلم والعفو، وغير ذلك من وجوه الإِحسان، والتوبة من الفَواحِش وظلم النُّفوس؛ طمَعًا في مَغفِرة الله وواسِع رحمته وفسيح جنَّته.
فبادِرُوا إلى ذلك؛ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ [فاطر: 5 - 6].
بارَك الله لي ولكم في القُرآن العظيم، ونفَعَنا جميعًا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستَغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم من كلِّ ذنب، فاستغفروه يغفر لكم إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحدَه لا شريك له، ربُّ السماوات السبع وربُّ العرش العظيم، وأشهَدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله الكريم، الداعي إلى صراطه المستقيم، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا يسأَلُونه عن كلِّ ما يُدخِلهم جنَّة النَّعِيم، ويُنجِيهم من عذاب الجحيم، أمَّا بعدُ:
فيا أيُّها الناس:
إنَّ الرِّزق مقسومٌ، لن يَعدُو امرؤٌ ما كُتِب له، فأجمِلُوا في الطلب، وإنَّ العمر محدودٌ، لن يُجاوِز أحدٌ ما قُدِّر له، فبادِرُوا قبلَ نَفاذ الأجَل، والأعمال مُحصاة، لن يُهمَل منها صغيرةٌ ولا كبيرةٌ، فأكثِرُوا من صالِح العمل.
أيُّها الناس:
إنَّ في القُنُوع لسَعَة، وإنَّ في الاقتِصاد لبُلغَة، وإنَّ في الزُّهد لراحة، وإنَّ لكلِّ عملٍ جَزاءً، وكلُّ آتٍ قريب.
أيُّها الناس:
شَمِّروا فإنَّ الأمر جدٌّ، وتأهَّبوا فإنَّ الرَّحيل قريب، وتزوَّدوا فإنَّ السفر بعيدٌ، وخفِّفوا أثقالكم فإنَّ العقبة كَؤُود لا يقطَعُها إلاَّ المخفُّون.
أيُّها الناس:
إنَّ بين يدي الساعة أمورًا شِدادًا، وأهوالاً عِظامًا، وزَمانًا صعبًا، يتملَّك فيه الظَّلَمة، ويتصدَّر فيه الفسَقَة، فيُضطهَد الآمِرون بالمعروف، ويُضام الناهُون عن المنكر، فأعدُّوا لذلك الإِيمانَ، وعضُّوا عليه بالنَّواجِذ، والجؤوا إلى العمَل الصالِح، وأكرِهُوا عليه النُّفوس، واصبِرُوا على الضرَّاء - تُفضِوا إلى النعيم الدائم.
أيُّها الناس:
إنَّ الطمع فقر، وإنَّ اليأس والقناعة راحةٌ، والعزلة عِبادة، والعمل كنز، فكلٌّ إلى نَفادٍ وَشِيك، وزَوالٍ قَرِيب، وأنتم في مهل الأنفاس، وجدة الأحلاس، قبل أنْ يُؤخَذ بالكظم ولا يُغنِي النَّدَم، فاستَبِقُوا الخيرات، وبادِرُوا بالأعمال الصالِحة قبل المَمات، وأكثِرُوا من الصَّلاة والسَّلام على عبد الله ورسوله محمَّد خير البريَّات؛ فإنَّ الله قد أمَرَكم بذلك إذ يقول في محكم الآيات: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].
عباد الله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
فاذكُرُوا الله العظيم الجليل يَذكُركم، واشكُرُوه على نِعَمِه يَزِدْكم، ولَذِكرُ الله أكبر، والله يعلَمُ ما تصنعون.
المصدر
منارات الدعوة