[rtl]
من أسرار البيان في سورة القارعة
[rtl]الكـاتب : رفاه محمد علي زيتوني
بسم الله الرحمن الرحيم
الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ(1-11)
أولاً- افتتح الله - جل وعلا - هذه السورة الكريمة بلفظ القارعة، وهو افتتاح مَهول مرعب. فيه ترويع وتخويف، وفيه إثارة وتشويق إلى معرفة ما سيأتي بعده من خبرها، وقد ألقى به - سبحانه - مفردًا؛ كالقذيفة هكذا: الْقَارِعَةُ، بلا خبر، ولا صفة؛ ليلقي بظله، وجرسه الإيحاء المدوِّي، ويقرع بهوله القلوب. ثم عقَّب - سبحانه وتعالى - على ذلك بسؤال التهويل عن ماهية تلك القارعة؛ ليثير في النفوس الدهشة من هولها، والتساؤل عن معرفة حقيقتها، ثم أتبعه بسؤال آخر، يزيد في التهويل من أمر ها، والتعظيم من شأنها، فقال - جل جلاله- : الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ(1-3)
والْقَارِعَةُ وصف مشتق من القرع على وزن الفاعلة. والقرع هو ضرب جسم بآخر بشدة لها صوت. وأطلق مجازاً على الصوت، الذي يتأثر به السامع تأثُّر خوف، أو اتعاظ،.يقال: قَرَّع فُلاناً.أي: زجره وعَنَّفه بصوت شديد.ويقال: قرَعه، بالتخفيف: ضربه بالعصا، أو غيرها ضربًا عنيفًا. قال المتنبي:
العبد يقرع بالعصا *** والحر تكفيه الإشارة
وأطلق لفظ القارعةعلى الحدث العظيم، وإن لم يكن من الأصوات، ومنه قول العرب: قرعتهم القارعة، وفقرتهم الفاقرة، إذا وقع بهم أمر فظيع، وعلى هذا المعنى جاء قوله - تعالى -: وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ(الرعد: 31). أي: داهية تقرعهم، بصنوف البلاء من القتل والأسر والحرب والجدب، ونحو ذلك. وأنِّث لفظ القارعة؛ لتأويلها بالحادثة أو الكائنة. وعليه فـالمراد بالـ القارعة هنا: الحادثة العظيمة، أو الشديدة من شدائد الدهر، وجمهور المفسرين على القول بأنها اسم من أسماء القيامة، كالحاقة، والطامَّة، والصاخَّة، والآزفة، والواقعة، وقالوا: ” إن الشيء إذا عظُم خطره، كثُرت أسماؤه“. وروي عن الإمام علي كرم الله وجهه: ” كثرة الأسماء تدل على عظمة المسمَّى“. ومعلوم أن ذلك ليس من المترادفات؛ فإن لكل اسم دلالته على معنى خاص به. وفي الحقيقة أن لكل شيء اسم واحد، وما عداه صفات له، وكل صفة منها معناها غير معنى الأولى.
فـالحاقَّة) هي التي يحق فيها وعد الله - تعالى - بالبعث والجزاء. و الطامَّة) هي التي تطمُّ، وتعم بأحوالها. والصاخَّة) هي التي تصخُّ الآذان. أي: يصم صوتها الآذان بما يصحبه من جرس عنيف نافذ، يكاد يخترق صماخ الأذن. وتقول العرب: صخَّتهم الصاخَّة، ونابتهم النائبة. أي: الداهية العظيمة. والآزفة) هي تزف، بتخفيف الزاي وكسرها. أي: تقترب. والفرق بين أَزِفَتْ الْآزِفَةُ(النجم: 57) واقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ(القمر: 1) هو أن (الأزف) ضيق الوقت، ولهذا عبِّر عنه في الثانية بـ(الساعة). و (الواقعة) هي التي يصدق وقوعها، فليس لنفس أن تكذب بها بأن تنفيها؛ كما نفتها في الدنيا، لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ(الواقعة: 2).. أما القارعة فهي التي تقرع الناس بالأهوال، والسماء بالانشقاق والانفطار، والأرض والجبال بالدك والنسف، والنجوم والكواكب بالطمس والانكدار.
ومذهب أهل التحقيق من المفسرين أن قوله - تعالى -: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ أشدُّ هولاً من قوله - تعالى -: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ؛ لأن النازل آخرًا لا بد وأن يكون أبلغ؛ لأن المقصود منه زيادة التنبيه. وهذه الزيادة لا تحصل إلا إذا كانت أقوى. وأما بالنظر إلى المعنى فالحاقة أشد لكونها راجعة إلى معنى العدل، والقارعة أشد لكونها تهجم على القلوب بالأمر الهائل.
فإذا عرفت هذا، فتأمل قوله - تعالى -: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ كيف وضعت القارعةفي الآية الرابعة موضع ضمير (الحاقة)؛ إذ كان ينبغي أن يقال: كذبت ثمود وعاد بها. وإنما أتى - سبحانه وتعالى -- هنا- بالقارعة؛ لتدل على معنى القرع في الحاقة، زيادة في وصف شدَّتها وهولها.
أما قوله - تعالى -: مَا الْقَارِعَةُ فهو استفهام يراد به التهويل والتعظيم على طريقة المجاز المرسل؛ لأن الأمر العظيم من شأنه أن يستفهم عنه، فصار التعظيم والتهويل مع الاستفهام متلازمين. والأصل فيه: القارعة ما هي؟ أي: أيُّ شيء عظيم مَهول هي؟ فوضع الاسم الظاهر موضع المضمر تفخيمًا لشأنها، وتفظيعًا لهولها.. ونحو ذلك قولك: (زيد، ما زيد)؟ جعلته لانقطاع قرينه، وعدم نظيره؛ كأنه شيء خفيَ عليك جنسه، فأنت تسأل عن جنسه، وتفحص عن جوهره؛ كما تقول: ما الغول؟ وما العنقاء؟ تريد: أيُّ شيء من الأشياء هو؟. ولهذا قال السكاكي: ” يُسأل بـ(ما) عن الجنس. تقول: ما عندك؟ أي: أيُّ الأشياء عندك؟ وجوابه: إنسان، فرس، كتاب. وكذلك تقول: ما الكلمة؟ وما الكلام؟ وفي التنزيل: فَمَا خَطْبُكُمْ(الحجر: 57، والذاريات: 31).. أو يُسْأل بها عن الوصف، تقول: تقول: ما زيد؟ وما عمرو؟ وجوابه: كريم، أو فاضل، ونحوهما “.
وقال الفخر الرازي: ” لفظة (ما) وضعت لطلب ماهيَّات الأشياء وحقائقها. تقول: ما الملك؟ وما الروح؟ وما الجن؟ والمراد: طلب ماهيَّاتها، وشرح حقائقها. وذلك يقتضي كون ذلك المطلوب مجهولاً. ثم إن الشيء العظيم، الذي يكون لعظمه وتفاقم مرتبته ويعجز العقل عن أن يحيط بكنهه، يبقى مجهولاً؛ فحصل بين الشيء المطلوب بلفظ (ما)، وبين الشيء العظيم مشابهة من هذا الوجه. والمشابهة إحدى أسباب المجاز، فبهذا جُعِل (ما) دليلاً على عظمة حال ذلك المطلوب، وعلو رتبته“.
ولمَّا كان هول الشيء وعظمه يستلزم تساؤل الناس عنه، أتبعه الله - تعالى -بقوله:وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ؟ زيادة في التهويل، ومبالغة في التعظيم، والخطاب فيه لغير معين. والمعنى: أيُّ شيء أدراك أيها السامع: ما القارعة؟ ولك أن تجعل هذا الاستفهام إنكارياً. أي: لا دراية لك بكنهها، ومدى عظمها وشدتها. يعني: أنها في العظم والشدة بحيث لا يبلغه دراية أحد، ولا وهمه، وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك وأعظم، فلا يتسنى الإعلام عنها. ومنه يعلم أن الاستفهام- هنا- كنِّيَ به عن لازمه من أنها لا تعلم، ولا يصل إليها دراية دار، ولا تبلغ كنهها الأفكار والأوهام والتصورات؛ لأنها أكبر من أن يحيط بها الإدراك، ويبلغ درايتها الوهم، ويلمُّ بها التصور! والدراية- كما قال الراغب- هي المعرفة المُدْرَكة بضرب من الختل.. ولهذا لا تستعمل الدراية في الله - تعالى -. وأما قول الشاعر: (لاهُمَّ لا أدري وأنت الداري) فمن تعجْرُف أجلاف العرب. وأصل(درى) الثلاثي أن يتعدى بالباء، وقد تحذف على قلة. يقال: دريت به، ودريته. فإذا دخلت عليه همزة التعدية تعدَّى إلى واحد بنفسه، وإلى الآخر بالباء. يقال: أدريت فلانًا بالأمر، ومنه قوله - تعالى -: وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ(يونس: 16). وقد يتعدَّى (أدرى) إلى ثلاثة مفاعيل، فيكون من باب (أعلم) و(أرى). تقول: أدريت فلانًا الأمر سهلاً؛ كما تقول مثله في(أعلمته) و (أريته). وقد يعلق عن المفعول الثاني والثالث بهمزة الإنكار، أو بـ(ما) المتضمنة لها. فمن الأول قول زهير بن أبي سُلمَى:
وما أدري وسوف إخال أدري *** أقومٌ آل حصن أم نساء
ومن الثاني قوله - تعالى -: مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ولا الإيمَانُ(الشورى: 52). وتركيب: (مَا أدراك ما كذا)، مما جرى مجرى المثل، فلا يغير عن هذا اللفظ، وهو تركيب مركب من (ما) الاستفهامية، وفعل (أدرى) الذي يتعدى بهمزة التعدية إلى ثلاثة مفاعيل، وقد علق عن المفعولين الثاني والثالث بـما الاستفهامية الثانية.. وكاف الخطاب فيه- كما ذكرنا- خطاب لغير معين؛ فلذلك إذا خوطب به غير المفرد المذكر، فلا يقترن بضمير تثنية، أو جمع، أو تأنيث. واستعمال (ما أدراك ما كذا) غير استعمال (ما يدريك) في نحو قوله - تعالى -: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ(الشورى: 17)، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً(الأحزاب: 63)، وقوله - تعالى -: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(عبس: 3-4). وروي عن سفيان بن عيينة: ” كل شيء في القرآن وَمَا أَدْرَاكَ فقد أُخبِر الرسول به، وكل شيء فيه وَمَا يُدْرِيكَ لم يُخبَر به “. وقد روي نحو هذا أيضاً عن ابن عباس- رضي الله عنهما- وعن يحيى بن سلاّم. فإن صح هذا المروي، فإن مرادهم أن مفعول مَا أَدْرَاكَ محقق الوقوع؛ لأن الاستفهام فيه للتهويل، وأن مفعول مَا يُدْرِيكَ غير محقق الوقوع؛ لأن الاستفهام فيه للإِنكار المجرَّد، وهو في معنى نفي الدراية.
وقال الراغب: ” كل موضع ذُكر في القرآن وَمَا أَدْرَاكَ فقد عقب ببيانه؛ نحو: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ(القارعة: 10ـ11)، وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ(القدر: 2-3)، قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ(يونس: 16).. وكل موضع ذكر فيه مَا يُدْرِيكَ لم يُعقِّبْه بذلك؛ نحو: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(عبس: 3)، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ(الشورى: 17)“. وكنت قد أشرت بشيء من الإيجاز إلى هذا التركيب، الذي لم يوفِّه أحد من اللغويين والمفسرين حقَّه من التوضيح والبيان؛ حتى أن بعضهم لم يذكره أصلاً، وذلك في مقالي (من أسرار البيان في سورة المدثر) عند تفسير قوله - تعالى -: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَْ(المدثر: 26-30). ومثله قوله - تعالى -: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ * كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَاد ٌبِالْقَارِعَةِ(الحاقة: 1-4).
ثانيًا- قوله - تعالى -: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ?(4-5) جواب لقوله - تعالى -: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ(3). وكان حق الجواب أن يكون بماهيَّة القارعة وحقيقتها، لا بما يكون فيها من أحوالها. ولكن عدل عن الأول إلى هذا؛ لأن ماهيتها وحقيقتها- كما أسلفنا- أكبر من أن يحيط بها لإدراك، ويبلغ درايتها الوهم، ويلم بحقيقتها التصور!
وقد بين الله - تعالى -في هاتين الآيتين الكريمتين حالاً من أحوال القارعة، وبين بعض أحوالها الأخرى في سورة (الواقعة) بأنها خافضة رافعة، وفي سورة (الحاقة)بما أصاب ثمود وعاد وحلَّ بهم بسبب تكذيبهم بالقارعة، وفي (الطامة والصاخة)ينظر المرء ما قدَّمت يداه.. وقد ذكر - سبحانه وتعالى - مع كل حالة من هذه الحالات الحال الذي يناسبها. والقارعة من القرع؛ وهو- كما أسلفنا - ضرب جسم بآخر بشدة لها صوت، فناسب أن يذكر معها ما يوهن قوى الإنسان إلى ضعف الفراش المبثوث، ويفكك ترابط الجبال وتماسكها إلى هباء العهن المنفوش. والفَراش هو فرخ الجَراد حين يخرُج من بيضه من الأرض. وقد يطلق لفظ الفراش على ما يطير من لحشرات، ويتساقط على النار ليْلاً، وهو إطلاق آخر، لا يناسب تفسيرُ لفظ الآية به هنا. وقال الفراء: ” هو غوغاء الجراد، الذي ينتشر في الأرض، ويركب بعضه بعضًا من الهول “. وقال صاحب التأويلات: ” اختلفوا في تأويله على وجوه؛ لكن كلها ترجع إلى معنى واحد، وهو الإشارة إلى الحيرة والاضطراب من هول ذلك اليوم“. و المبثوث هو المتفرق على وجه الأرض في كل الجهات. ومن أمثال العرب قولهم: (أطيش من فراشة) و(أضعف من فراشة)و(وأذل وأجهل من فراشة).
وقال - تعالى -هنا: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ، فشبه الناس يوم البعث بالفراش المبثوث، وقال في موضع آخر: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ(القمر: 7)، فشبههم بالجراد المنتشر. وقد سبق أن ذكرنا إلى أن الفراش هو فرخ الجراد، أو هو غوغاء الجراد، فما وجه التشبيه في كل منهما؟ أما وجه التشبيه بالفراش فقيل: شبِّه الناس بالفراش المتفرق المتطاير في الكثرة والانتشار، والضعف والذلة، والمجيء والذهاب على غير نظام، والتطاير إلى الداعي من كل جهة حين يدعوهم إلى المحشر؛ لأن الفراش إذا ثار، لم يتَّجه لجهة واحدة؛ بل كل واحدة منها تذهب إلى غير جهة الأخرى.. وأما وجه تشبيههم بالجراد فقيل: بالكثرة، والتتابع. و الْعِهْنُ هو الصوف المصبوغ باللون الأحمر، وقيل هو المصبوغ ألوانًا. وفي قراءة ابن مسعود- رضي الله عنه-: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْصُّوفِ الْمَنْفُوشِ. قال زهير بن أبي سُلمَى:
كأنَّ فُتات العِهن في كل منزلٍ *** نَزَلْنَ به حبُّ الفَنَا لم يُحَطَّمِِ
والفنا بالقصر: حب في البادية، يقال له: عنب الثعلب، وله ألوان بعضه أخضر، وبعضه أصفر، وبعضه أحمر. والعهنة: شجرة تنبت بالبادية لها ورد أحمر. و الْمَنْفُوشِ هو المفرق بعض أجزائه عن بعض؛ ليغزل، أو تحشى به الحشايا، فعندما يضرب بالعصا تتطاير أجزاؤه.
ووجه التشبيه بين الجبال، والعهن المنفوش: أن من الجبال؛ كما قال - تعالى -: جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ َلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (فاطر: 27)، فهي مختلفة الألوان بحجارتها ونبتها، وكذلك الصوف مختلفة ألوانه. فهي تشبهه من هذا الوجه، ثم هي تشبهه من وجه آخر، وهو أنها إذا بسَّت طيِّرت في الجو كما تطاير الصوف. قال الحسن - رضي الله عنه -: تسير الجبال مع الرياح، ثم تنهد، ثم تصير كالعهن، ثم تنسف، فتصير هباء. وإعادة لفظ الكون مع حرف العطف (يكون، وتكون) للإِشارة إلى اختلاف الكونين؛ فإن أولهما كونُ إيجاد، والثاني كون اضمحلال، وكلاهما علامة على زوال عالم، وظهور عالم آخر. وقيل: كرَّر ذلك؛ لأن التكرير في مثل هذا المقام أبلغ في التحذير.
وقال - تعالى -هنا: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ(3)، وقال في موضع آخر: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (المعارج: 8-9)، فأتى بالعهن موصوفًا بالنفش في الآية الأولى، وأتى به غير موصوف في الآية الثانية، فما سر البيان في ذلك؟ ويجاب عن ذلك بأن الغرض من هذا التشبيه في القارعة هو غيره في المعارج، وبيان ذلك: أن القارعة- كما أسلفنا - من القرع؛ وهو ضرب جسم بآخر بشدة لها صوت، فناسب أن يذكر معها من أحوالها في ذلك اليوم المهول ما يوهن قوى الإنسان إلى ضعف الفراش المبثوث، ويفكك ترابط الجبال وتماسكها إلى هباء العهن المنفوش.. فشبَّه - تعالى -أحوال الناس في ذلك اليوم في كثرتهم وحيرتهم واضطرابهم وانتشارهم في كل جهة بالفراش المبثوث، ثم شبَّه الجبال في اختلاف ألوانها وتفكك أجزائها وتطايرها هباء في الجو بالصوف المنفوش، فناسب بين المشبَّه، والمشبَّه به من جهة، ثم ناسب بين التشبيه في الصورة الثانية، والتشبيه في الصورة الأولى، فقال - سبحانه -: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * َتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ(4-5)
وأما في آية المعارج فقد ذكر - سبحانه وتعالى - من أحوال ذلك اليوم، الذي وصفه بقوله: فِيْ يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ(المعارج: 4)، ما يحيل بناء السماء ولونها إلى صورة المهل المذاب ولونه، وتماسك الجبال وثقلها وألوانها إلى وهن العهن الخفيف وألوانه، فشبَّه السماء في ذلك اليوم بالمهل، وشبَّه الجبال بالعهن، فناسب بين المشبَّه والمشبَّه به من جهة، ثم ناسب بين التشبيه في الصورة الثانية، والتشبيه في الصورة الأولى؛ وذلك قوله - تعالى -: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ(المعارج: 8-9)
ووجه التشبيه بين السماء، والمهل: أن السماء تذاب في ذلك اليوم، وتصير كالفضة المذابة؛ كما قال الحسن، - رضي الله عنه -.. وعن مجاهد، - رضي الله عنه -: تكون الأرض كالفضة، والسماوات كذلك. وقيل: المهل: ما أذيب من النحاس والرصاص وما أشبه ذلك. وقال غير واحد المهل ما أذيب على مهل من الفلزات. والمراد يوم تكون السماء واهية.. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية قوله: إن السماء الآن خضراء، وإنها تحول يوم القيامة لونًا آخر إلى الحمرة.
وسئل ابن مسعود- رضي الله عنه- عن قوله - تعالى -: كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ (الكهف: 29)، فدعا بفضة، فأذابها، فجعلت تميع، وتلوَّن، فقال: هذا من أشبه ما أنتم راءون بالمهل. قال الأزهري: ومثله قوله: فكانت وردة كالدهان، قال أبو إسحق: كالدهان. أي تتلون؛ كما يتلون الدهان المختلفة، ودليل ذلك قوله - تعالى -: يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ؛ كالزيت، الذي قد أغلي.
ووجه التشبيه بين الجبال، والعهن: أن الجبال في ثقلها وتماسك أجزائها واختلاف ألوانها، تصير في ذلك اليوم واهية خفيفة مفككة الأجزاء تتلوَّن بألوان مختلفة؛ كالعهن في ضعفه وخفته وتفرق أجزائه واختلاف ألوانه.. وليس المراد- هنا- تطاير أجزائها في الجو، كما في القارعة؛ ولهذا أطلق لفظ العهن هنا، وقيد
هناك.
ثالثًا- ولما وصف الله - تعالى -في الآيات السابقة حال يوم القيامة، عقَّب على ذلك بقوله: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ(6-11)، فقسم الناس في هذا اليوم إلى قسمين:
أحدهما: مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ. والثاني: مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ، وأخبر عن الأول بأنه في عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ. أي: عيشة مرضية، وأخبر عن الثاني بأن أُمُّهُ هَاوِيَةٌ. أي: مستقرُّه، أو مسكنه. والهاوية اسم من أسماء النار؛ وكأنها النار العميقة يهوي فيها أهل النار مهوى بعيدًا. وقال: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ؛ لأن الأصل في السكون والاستقرار الأمهات. وقال - تعالى -: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ، ثم أخبر عنها، فقال: نَارٌ حَامِيَةٌ، منبهًا بذلك على أن نار الدنيا في جنب تلك النار الحامية ليست بشيء.. وبذلك صار آخر السورة مطابقًا لأولها.
وأما قوله - تعالى -: هِيَهْ فهو ضمير يعود على قوله: هَاوِيَةٌ، والهاء فيه للسكت. وحذفها في الوصل: ابن أبي إسحاق، والأعمش، وحمزة، وأثبتها الجمهور. وقال - تعالى -: فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ، ولم يقل: (وما أدراك ما هاوية)؛ كما قال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ. والفرق بينهما: أن كونها قارعة أمر محسوس، وليس كذلك كونها هاوية؛ ولهذا حسُن وضع الضمير- هنا- موضع الاسم الظاهر، خلافًا للآية السابقة.. والله - تعالى -أعلم
[/rtl][/rtl]