بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
رحمة النبي عند مصيبة الموت
من الأزمات التي كان يهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها أزمة موت إنسان.
إعداد الطعام لأهل الميت
كان الرسول صلى الله عليه وسلم -من رحمته- يرحم أقارب الميت في أمور قد يظنُّها الناس بسيطة، ولكنها تترك أثرًا طيبًا في النفوس، ومن ذلك إعداد الطعام لهم.
روى عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما فقال: لما جاء نعي جعفر رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اصْنَعُوا لآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ يَشْغَلُهُمْ"[1].
وهذا عكس ما اشتهر بين الناس من أنَّ أهل الميت هم الذين يصنعون طعامًا لزوَّارهم، بل إن صناعة أهل الميت للطعام للضيوف خلاف واضح للسنة، فقد قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: "كنا نَعُدُّ الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعة الطعام من النياحة[2]"[3].
ويقول الإمام السندي رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: "أن كلمة (كُنَّا نرى) بمنزلة إجماع الصحابة أو تقرير النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى التقديرين فهو حُجَّة"[4].
تشجيع أهل الميت على الصبر وعدم الجزع
لكن الأهم حقيقةً من المساعدة المادية هو تشجيع أهل الميت على الصبر وعدم الجزع، وهذا ما كان يحرص عليه رسول الله جدًا، وقَلَّما حدثت وفاة في عصره إلا وكان حاضرًا مع أهل الميت يُذكِّرهم بالله ، ويحاول أن يخرجهم من أزمتهم بتعظيم أجرهم إذا صبروا.. فكان يُعَلِّمُهم أن يقولوا عند المصيبة ما يصبِّرهم -بل يعوضهم خيرًا- في الدنيا قبل الآخرة..
تروي أم سلمة[5] رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا إِلا أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا"[6].
وكان يعلم أن النساء يصيبهن الجزع أكثر من الرجال، فكان يحرص على تذكيرهنَّ بالصبر عند المصائب..
يروي أبو سعيد الخدري أن النساء قُلْنَ للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال؛ فاجعل لنا يومًا من نفسك؛ فوعدهنَّ يومًا لَقِيَهُنَّ فيه؛ فوعظهن وأمرهن فكان فيما قال لهن: "مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلا كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنْ النَّارِ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ: وَاثْنَتَيْنِ، فَقَالَ: وَاثْنَتَيْنِ"[7].
وانظر إلى رحمة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يهوِّن على امرأة مسكينة مصابها الفادح.. فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بابن لها؛ فقالت يا رسول الله: إنه يشتكي. وإني أخاف عليه؛ قد دفنت ثلاثة، قال: "لَقَدْ احْتَظَرْتِ بِحِظَارٍ شَدِيدٍ مِنْ النَّارِ"[8]. وتخيل مدى فرحتها -مع أنها في مصاب شديد- عندما علمت أن مصابها هذا قد وقاها وقاية شديدة من النار..
إنها كلمات بسيطة، لكنها ذات أثر عظيم..
ومع كون النبي صلى الله عليه وسلم يمنع الناس من الجزع وفقد الصبر إلا أنه كان واقعيًّا يُقدِّر ألم الناس ويعذرهم، ومن ثَمَّ يقبل ببكائهم وحزنهم دون إفراط..
يروي جابر بن عبد الله رضي الله عنه فيقول: لما قُتِلَ أبي جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي، وينهونني عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم لا ينهاني فجعلت عمتي فاطمة تبكي؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تَبْكِينَ أَوْ لا تَبْكِينَ، مَا زَالَتْ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ"[9].
وروى جابر بن عتيك[10] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت[11] فوجده قد غُلِب، فصاح به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبه، فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ عَلَيْهِ فَصَاحَ بِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ فَاسْتَرْجَعَ رَسُولُ اللَّهِ وَقَالَ: "قَدْ غُلِبْنَا عَلَيْكَ أَبَا الرَّبِيعِ" فَصِحْنَ النِّسَاءُ وَبَكَيْنَ فَجَعَلَ ابْنُ عَتِيكٍ يُسَكِّتُهُنَّ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "دَعْهُنَّ فَإِذَا وَجَبَ فَلا تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ", قَالُوا: وَمَا الْوُجُوبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ..
قَالَ: "الْمَوْتُ" قَالَتْ ابْنَتُهُ: إِنْ كُنْتُ لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ شَهِيدًا قَدْ كُنْتَ قَضَيْتَ جِهَازَكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْقَعَ أَجْرَهُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ نِيَّتِهِ وَمَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ؟", قَالُوا: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِيقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْهَدَمِ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرَقِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدَةٌ"[12].
والرسول صلى الله عليه وسلم في المثالَين السابقَين يسمح ببكاء وحزن أقارب الميت، لكن في نفس الوقت يُبشِّرهم بأجر المتوفى ليصبِّرهم على مصابهم..
قضاء ديون المسلمين
ولم تكن وقفات رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصحابة عند المرض أو الوفاة فقط، بل كانت في أي أزمة ولو كانت عابرة..
نجده مثلاً يدخل المسجد فإذا برجل من الأنصار يُقالُ له أبو أمامة؛ فقال: "يَا أَبَا أُمَامَةَ، مَا لِي أَرَاكَ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلاةِ", قَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "أَفَلا أُعَلِّمُكَ كَلامًا إِذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّكَ وَقَضَى عَنْكَ دَيْنَكَ", قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "قُلْ إِذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ وَقَهْرِ الرِّجَالِ"، قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ هَمِّي وَقَضَى عَنِّي دَيْنِي[13].
وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: أُصِيبَ رَجُلٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ثِمَارٍ ابْتَاعَهَا فَكَثُرَ دَيْنُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَصَدَّقُوا عَلَيْهِ", فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِغُرَمَائِهِ: "خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلا ذَلِكَ"[14].
فالرسول صلى الله عليه وسلم حرص على أن يساعد الرجل على سداد دينه، ثم طلب من غرمائه أن يقبلوا بالمبلغ الذي جُمِعَ، ويقول المباركفوري[15] في شرح سنن الترمذي: "والمعنى: ليس للغرماء أن يأخذوا إلا ما وجدوا، والإمهال بمطالبة الباقي إلى الميسرة"[16].
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يُسقط الدين عن الرجل، إنما توسَّط له عند الغرماء ليأخذوا قسطًا، ويؤخروا الباقي، وهذا من رحمته بالمدين..
[1] أبو داود (3132)، وابن ماجة (1610)، وأحمد (1751)، والترمذي (998) وقال: حسن صحيح.
[2] النياحة: البكاء بصوت مع ترديد عبارات السخط.
[3] ابن ماجة (1612)، وقال الألباني: صحيح، وأحمد (6905).
[4] السندي: حاشية السندي على سنن ابن ماجه 3/385.
[5] هي هند بنت أبي أمية المعروف بزاد الراكب، المخزومية، كانت عند أبي سلمة بن عبد الأسد، فتوفي عنها؛ فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفيت أم سلمة سنة ستين وقيل سنة تسع وخمسين وصلى عليها أبو هريرة. الإصابة الترجمة (12054)، أسد الغابة 6/351.
[6] مسلم: كتاب الجنائز باب ما يقال عند المصيبة (918)، أبو داود (3119)، ابن ماجة (1598)، وأحمد (16388)، والبيهقي في سننه الكبرى (6917)، ومالك في الموطأ برواية يحيى الليثي (560).
[7] البخاري: كتاب العلم، باب هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم؟ (101)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه (2633)، أحمد (11314)، وابن حبان (2944).
[8] مسلم: كتاب البر والصلة والأدب، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه (2636)، والنسائي (1877)، وأحمد (9427)، والبخاري في الأدب المفرد (144).
[9] البخاري: كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في كفنه (1187)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمرو بن حرام (2471)، وأحمد (14223).
[10] جابر بن عتيك بن قيس بن الحارث الأنصاري، شهد بدرًا والمشاهد. توفي جابر سنة إحدى وستين، وعمره إحدى وتسعون سنة. الإصابة الترجمة (1028).
[11] عبد الله بن ثابت الأنصاري أبو الربيع توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حياته، ودفنه النبي صلى الله عليه وسلم في قميصه وكان قد شهد أحدًا. الإصابة الترجمة (4570).
[12] النسائي (1846)، أحمد (23804)، وقال الألباني: صحيح.
[13] أبو داود (1555).
[14] مسلم كتاب المساقاة، باب استحباب الوضع من الدين (1556)، والترمذي (655)، والنسائي (4530)، وأبو داود (3469)، وابن ماجة (2356)، وأحمد (11335).
[15] هو: أبو العلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، من مشاهير دعاة السلفية في الهند، كان له إسهام في تأسيس جمعية أهل الحديث، وعرف بحملاته على المذهبية، واشتهر كتابه (تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي) وتوفي سنة 1353هـ انظر: المسح في وضوء الرسول1/152
[16] المباركفوري: تحفة الأحوذي في شرح سنن الترمذي 4/397.