مرادفات لفظ العقل في القرآن الكريم ومدلولاتها التربوية (10)
بقلم: د. محمد عطا مدني
تحدثنا في المقالات السابقة عن التوجيهات الربانية بخصوص استخدام العقل في القرآن الكريم، والتي ركزت على ألفاظ العقل والقلب واللب، وقد اتضح أن (اللب) هو العقل الخالص أو ما زكا من العقل، وقد ذهب الحكيم الترمذي إلى أن القلب مقام نور الإيمان، واللب مقام نور التوحيد، وهو قول له وجاهته كما ثبت من تحليل آيات اللب في المقال السابق.
وسوف يركز المقال الحالي على لفظ جديد يوصف به العقل وهو (الفؤاد)، وقد ذكر الحكيم الترمذي أن الفؤاد مقام المعرفة، وقد أجمعت معظم المعاجم على أنه القلب وجمعه أفئدة، وأشارت معاجم أخرى إلى أنه يعني العقل والقلب، أو القوة الواعية المدركة في الإنسان، وارتباطه بالمسؤولية.
والفؤاد يعبر عن مجموعة معطيات دقيقة صاغها الله سبحانه وتعالى لتؤدي إلى رؤية بصرية وذهنية وإيمانية تقود في نهاية المطاف إلى رؤية يقينية.
وقد ورد لفظ (الفؤاد) في القرآن الكريم في ستة عشر موضعا، وقد جاء في أكثر المواضع مرتبطا بحاستي السمع والبصر، ليعبر عن منافذ الإدراك العقلي.
قال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (النحل- 78)
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأَفئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ). (المؤمنون- 78)
(الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ). السجدة (7-9)
(قلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ). (الملك- 23)
(وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ). (هود-120)
(وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا). (الإسراء- 36)
(ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ). (إبراهيم- 42،43)
وكما نرى يرتبط الفؤاد بحاستي السمع والبصر في هذه الأمثلة، فهما من أهم منافذ نقل العلم والمعرفة إلى العقل، وهكذا خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان مسلحا بقوى الإدراك والتمييز والفهم. وليس مطلوبا من الإنسان في مقابل هذه النعم إلا الشكر فقط، فيالها من نعم عظيمة في مقابل رد يسير وبسيط للغاية، وهو شكر هذه النعم.
ونلاحظ أن الآيات التي ورد بها لفظ (الفؤاد) ومشتقاته، تركز على المعنى القلبي والوجداني للفؤاد والذي يؤدي إلى الثبات والاطمئنان النفسي. ومن أمثلة ذلك الآية الخامسة في النموذج السابق، كما تكرر ذات المعنى في قوله تعالى:
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا). (الفرقان- 32)، كما تم التركيز على النواحي الوجدانية في قوله تعالى:
(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ). (إبراهيم- 37)
كما نعى على الظالمين ظلمهم وطغيانهم وعدم ثبات قلوبهم التي عميت عن رؤية الحق:
(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ). الأنعام (110).
ومن معاني الآيات الكريمات السابقات يمكن أن نصل إلى التحليلات التربوية التالية:
يولد الإنسان - بطبيعة الحال - ينقصه العلم والمعرفة والتجربة، ولقد سخر له الله سبحانه وتعالى مجموعة من الحواس تنتقل بها الصور الحسية إلى الفؤاد الذي يعمل في الحال على تفسيرها ويحولها إلى مدركات ذات معنى، وتتحول هذه المدركات وتتبلور إلى مجموعة من الخبرات والتجارب التي تثرى حياة الانسان، وبتراكم هذه الخبرات تتكون لدى الفرد مجموعة من الخلفيات العلمية والمعرفية التي يستطيع عن طريقها بلورة واستقطاب معلومات وتجارب جديدة مستمرة، وتساعد هذه العملية على نمو ثقافة الفرد وتكوين شخصيته.
ومع أهمية الحواس والفؤاد - كنعم أنعم بها الله سبحانه وتعالى على الإنسان- إلا أن هناك من يجحدها ولا يشكر الله عليها، وجاء هذا في قوله تعالى: (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون)، ويطلب منا القرآن الكريم - دائما - وفي ألفاظ متعددة ومتنوعة، أن نشكر الله على هذه النعم، والتي تؤدي بالتكرار إلى حصول الإنسان على المعرفة والحكمة والخبرة والإيمان بالله تعالى، وفوق ذلك اطمئنان القلب وثباته في الحالات التي يتعرض فيها الإنسان للمحن والصعاب والاختبارات.
وعلى الرغم من ذلك، لا يستفيد كثير من الناس من هذه النعم، بل ويعطلون قدرتها على العمل والإدراك، وعند عجز البعض عن إدراك المعقولات وعن القول بوجودها، يتعطل الفؤاد ولا يقوم بالدور الذي أنيط به، وهو ما يجعلهم يتمادون في ظلم أنفسهم وفي ظلم الآخرين. وهؤلاء الذين وصفوا في القرآن الكريم بأن (أفئدتهم هواء)، أي خالية من العقل. قال تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ). إبراهيم (42-43).
ولهذا، يجب على الفرد المؤمن حقا أن يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى في أفراحه ليشكره على النعم التي أنعم بها عليه، وفي أتراحه ليلهم رب العزة فؤاده بالثبات والصبر. كما حدث لفؤاد أم موسى عندما ألقته في اليم وجزعت عليه، فألهم المولى جل وعلا فؤادها بالثبات. قال تعالى:
(وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). (القصص- 10)
لعل الكثير منا يتمثلون تلك الهداية الربانية في مجالات استخدام العقل، ويضعونها موضع التنفيذ بدلا من جعلها وراء ظهورهم فيعانون الشقاء في الحياتين الدنيوية والأخروية.