التربية الإيمانية ضرورة ([1])
إن الحمد لله...، أما بعد:
فإن من المسلَّم به عند الجميع أنه ما مرّ على المسلمين عصرٌ انفتحوا فيه على العالم بكل صور الانفتاح كما يمرون به في هذه السنوات، ولعل القادم أشدّ وأعظم.
ولا يستريب عاقلٌ أن هذا الانفتاح له آثاره الكثيرة، ومن أخطرها: أثره على الإيمان والاعتقاد، وما يورّثه من أفكار مختلفة، تجنح للشبهات تارة، وللشهوات تارة أخرى.
وأخطر هذه الشبهات التي تروّج اليوم شبهتا: الإلحاد، والغلو في الدين، وآثارهما أكثر وأكبر من أن تُستعرض ههنا، وحسبك أن ترى آثار ما أحدثه الغلاةُ في بلاد الإسلام؛ من تدمير وتمزيق لوحدة البلاد، وتشويه لسمعة المسلمين في الخارج.
ولا بد لكل من استرعاه الله أمانةَ النشء - من بنين وبنات - في البيوت أو معاقل التعليم؛ أن يستشعر هذا الخطر، وأنه لا بد من مواجهته بكل السبل الممكنة، ومن أهمهما وأعظمها أثراً: التربية الإيمانية المبكّرة، المقرونة بالدليل والإقناع، والتي تَبني ـ بإذن الله ـ سياجاً من الإيمان القوي، والعقيدة الصلبة، التي تتحطم عليها عوادي الشبهات والشهوات.
وإن مما يقوي عزمَ الأبوين - وكل مربٍّ مسلم - على المضي في هذا، ويسهّل مهمتهما: أن يتذكرا أن الطفل الذي بين يديهما مولودٌ على الفطرة، فلا يحتاج لعناء كثير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه»([2])، ويبقى الدور في غرس أدلة هذه الفطرة، وتقوية إيمانه من خلالها.
يفعل الأبوان ذلك مستشعران ثقل الأمانة، وعظيم التوجيه الرباني الذي يقول الله فيه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6].
وفي قصة لقمان وهو يوجّه ابنَه ويربيه على هذه الأصول، أسوةٌ وعبرة، فقد ذكر الله وصاياه في سورة لقمان، بدءاً من الوصية بتعظيم حق الله ثم الوالدين، وانتهاء بغض الصوت وعدم رفعه.
يقول بعض العلماء: "الصبي أمانة عند والديه، وقلبُه الطاهر جوهرةٌ نفسية ساذجة، خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال إليه، فإن عُوّد الخير وعُلّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب، وإن عُوّد الشر وأُهمل إهمال البهائم؛ شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيّمِ عليه والوالي له"([3]).
ويقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "فمن أهمل تعليمَ ولده ما ينفعه, وتركه سدًا؛ فقد أساء غاية الإساءة, وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبَل الآباء وإهمالهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه, فأضاعوهم صغاراً فلم ينتفعوا بأنفسهم, ولم ينفعوا آباءهم كباراً"([4]).
إذا تقرر هذا ـ يا عباد الله ـ فاعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن لدى المربي: أدلةٌ كونية، وأدلة شرعية، يمكنه أن يربي من تحت يده عليها، وأن يسبق إلى ذلك، قبل أن تتشوه فطرتُه بما انفتح العالم عليه اليوم، فالطفل بيده جهاز إلكتروني قبل أن يدخل المدرسة.. فالخطرُ والخطبُ عظيم! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فأما الأدلة الكونية: فهي كثيرة، وتربية الطفل على الإيمان من خلالها يسيرة، فالسماوات والأرض.. والشمس والقمر.. والبر والبحر .. والهواء والمطر .. والنبات والحيوان .. كلها فرصٌ يغتنمها المربي الموفَّق؛ ليغرس في كل مناسبةٍ معنى إيمانياً في نفس طفله: مَن خلق هذه يا بني؟ من رفع السماء؟ من بسط الأرض؟ من أنبت الزرع؟ من نوّع بين المخلوقات؟ هذا زاحف وهذا طائر؟ هذا يعيش في البر وهذا في البحر؟ هذا يطير وهذا يمشي؟ من الذي جعل الزهور بهذه الألوان البهيجة؟ ينزل المطر، فيقول المربي: من الذي أنزل هذا المطر من السماء؟ وما أثره على الأرض إذا نزل عليها؟ وإذا رأى الشمس سأله: من الذي خلقها؟ ثم يوضح له ما جعل الله فيها من مصالح للخلق كلهم؟ وإذا رأى القمر سأله: من الذي جعله مضيئًا؟ وكيف يولد أول الشهر حتى يكتمل بدرًا في وسطه؟ وما علاقة هذا بعباداتنا الموسمية؟
في سلسلة من الأسئلة التي تزرع الإيمان والتعيظم في قلب الطفل، وتُطلعه على جمال الخلْق، وأنه أثر من آثار جمال الخالق تعالى، حتى ينشأ وقلبُه ممتلئ بالحب والإيمان للملك الرحمن.
وأما تربيته من خلال الأدلة الشرعية، فهذه يراعى فيها المرحلة العمرية للناشئ، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: "فإذا كان وقت نطقهم فليُلَقّنوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وليكن أول ما يقرع مسامعهم معرفة الله سبحانه وتوحيده، وأنه سبحانه فوق عرشه ينظر إليهم، ويسمع كلامهم، وهو معهم أينما كانوا"([5]).
وللمربي في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة، فلقد كانت له عليه لاصلاة والسلام عدة مواقف - خاصة وعامة - يغرس فيها معاني الإيمان والعقيدة الصحيحة، ومن أشهر ما يُذكر في هذا المقام: قوله لابن عباس رضي الله عنهما ـ حين أردفه خلفه يوماً ـ فقال: "يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"([6])، هذا الحديث العظيم، مدرسة إيمانية متكاملة، لو عاش الطفل فيه كلَّ عمره لانتفع، ولعظيم ما اشتمل عليه من علم؛ أفرده بعضُ العلماء بالشرح، كابن رجب وغيره، فليرجع إليه المربي ليستفيد منه.
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي الصحابةَ على هذه المعاني قبل أن ينزل قرآن كثير، فلخّص الصحابةُ رضي الله عنهم هذه التربية فقال أحدهم: فتعلمنا الإيمان قبل القرآن([7])، فظهر جيل إيمانيٌّ يمشي على الأرض، نشر النور في الدينا، وتلقاه عنه جيلُ التابعين، وعنهم إلى من بعدهم، حتى بلغنا هذا الدين غضّا طرياً كما أنزل.
ـ ومن أعظم ما يربّى عليه النشء: محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتقديمها على محبة كل أحد، والاستسلام لأمرهما، والانقياد لحكمهما، كما قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[النساء: 65]، ويُرَبّى النشءُ على مثل هذا الموقف الذي رواه البخاري أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله! لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك» فقال له عمر: فإنه الآن، والله، لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر»([8]).
ولحديثنا بقية.. بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة....
د. عمر المقبل
د. عمر المقبل