استلمت رسالة نصية من أحد الأصدقاء منذ فترة، وعندما حاولت قراءتها وجدت نفسي عاجزاً تماماً؛ لأنها كتبت بلغة سنسكريتية بالنسبة لي!
بقلم: يحيى السيد عمر
كانت الرسالة مكتوبة بحروف اللغة الإنجليزية، مع بعض الأرقام داخل الكلمات نفسها، لكن الكلمات عربية!.. وحين استفسرتُ عن الأمر، علمت أنّ هذه هي لغة الإنترنت الحديثة، ولا بدّ أنّ معظم القراء يعرفونها لأنّها انتشرت بسرعة كبيرة وعلى نطاق كبير، بين مختلف شرائح مستخدمي التكنولوجيا الحديثة.
بعد أن قرأت الرسالة بمساعدة أشخاص آخرين ملمّين بهذه اللغة، تساءلت عن مدى صعوبة أن يرسل لي صديقي رسالته إمّا بالعربية أو بالإنجليزية، إذ إنّني حتى الآن لا أفهم العبرة من استخدم الحروف والأرقام الإنجليزية لكتابة كلمات عربية!
ولا أخفيكم سرّاً شعرت بوخزة صغيرة في قلبي، بسبب ما آلت إليه حال اللغة العربية، وتذكّرت بيت الشعر الذي قاله حافظ إبراهيم في القرن الماضي، متحدّثاً على لسان اللغة العربية:
(أنا البحرُ في أحشائِهِ الدرُّ كَامِنٌ * فَهَلْ سَأَلُوا الغَوَّاصَ عَـنْ صَدَفَاتي؟)
وفكّرت أنّ حافظ إبراهيم، سيُصاب بصدمة ثقافية لو رأى ما حصل لصدفات ذلك البحر اليوم.
وفي الواقع، لا أفهم لماذا يتعاطى بعض الشباب العرب مع لغتهم بهذا الشكل من اللامبالاة والاستهتار والإهمال، متناسين أنّها واحدة من أعرق وأقدم لغات العالم، وأنّها لغة القرآن الكريم، واللغة الأكثر فصاحة والأقدر على التعبير بين لغات العالم.
قيلت بها أعظم الأشعار، حتّى كُتبت بماء الذهب، وعُلِّقت على أستار الكعبة؛ لما لها من مكانة في قلوب أبناء هذه الحضارة.. وعَبْرها وصل عشرات الأدباء والشعراء العرب إلى العالمية؛ لروعة ما خطَّت أقلامهم، ولجمال ما عبَّروا به عن مشاعرهم وأحلامهم وغضبهم وسخطهم وفرحهم..
لكن -للأسف- لم تعد هذه اللغة كما كانت منذ قرن واحد، فاليوم تتحدث مع شخص عربي أباً عن جد، فيطلب منك محادثته بالإنجليزية؛ لأنّ عربيته ركيكة، وفي الواقع، لا أعرف كيف تسنَّى لهذا الشخص أن يحسِّن لغته الإنجليزية ويتقنها ولم يتسنَّ له أن يُصقِل لغته العربية التي تحدَّث بها أجداده منذ آلاف السنين!
وقد وصل الأمر ببعض الأشخاص إلى الخَجَل من التحدُّث بالعربية؛ لدرجة أنّهم يعتمدون اللغة الإنجليزية للتخاطب مع أفراد أُسَرِهم.
لا نستطيع أن ننكر أهمية اللغة الإنجليزية في حياتنا، وأنا أشجِّع الجميع على تعلُّمها وفق قواعدها الأساسية، وإتقانها كلغة عالمية، نستطيع استخدامها في أيّ بقعة من العالم، لكنّني لا أُحبِّذ أن تكون بديلاً للغة الأم، فاللغة أبرز مقوّمات الهوية، وإذا فُقدت اللغة، فُقِدَت الهوية.
لقد أثار شجوني أنّ بعض قبائل الهنود الحمر في أمريكا الجنوبية، تبذل قصارى جهدها للحفاظ على لغاتها الأصلية وعاداتها ومعتقداتها؛ خوفاً من الانجراف في تيار المدَنِيَّة، والذوبان في حضارات أخرى بعيدة عن جذورها الهندية، مع العلم أنّ أفراد بعض هذه القبائل لا يتجاوز عددهم بضع مئات!
في الوقت الذي يبذل فيه بعض العرب قصارى جهدهم للتخلص من اللغة الأجمل، وكأنّها عارٌ عليهم!!
وللأسف الشديد، على الرغم مما تبذله بعض الحكومات العربية، في محاولة لإعادة أمجاد اللغة العربية، واعتبارها لغة المراسلات الرسمية في الدولة؛ احتراماً لمكانتها وقيمتها المعنوية لدى أبنائها، إلّا أنّ بعض أبناء هذا الزمان هم من يرفضونها، وصار الغالب على كثير من الشباب خلط بعض التعابير من هنا وهناك، لتخرج العبارات كَرِدَاءٍ مرقَّع بألوان متضاربة، فلا تكاد تدرك كلمة مما قيل، حتّى تستجمع معلوماتك ومفرداتك من اللغة الأخرى؛ لتستوعب العبارة بشكلها النهائي، وإن لم تفعل، فأنت بالتأكيد (غير عصري) أو (مش cool)، وعليك أن تبدأ بتعلّم لغة الإنترنت لتكون جديراً بالحياة في هذا الزمان، وهذا المكان!