مقاصد الصيام ومظاهر الرحمة في تشريعه
محمد بن أحمد الخولي
ها هي نسائم شهر رمضان المبارك تغمرنا بما فيها من أريج الطاعات، ومَعين القربات، وفيض العطايا والرحمات؛ فلقد اختص الله سبحانه هذا الشهر بعدد من الخصائص، وفضَّله بعدد من الفضائل، وميزه بعدد من العبادات، ويأتي في مقدمتها عبادة الصيام، هذه العبادة التي عظمها الله سبحانه، وجعلها ركنًا من أركان الإسلام، وفصَّل الحديث عنها في غير آية من آيات القرآن؛ ليلفتنا إلى مكانتها وأهميتها، ويوضح لنا مقاصدها وحكمها.
فهيا بنا أيها القارئ الكريم نتلمس شيئًا من مقاصد هذه العبادة وحكمها من خلال حديث القرآن عنها.
تشريع الصيام لجميع الأمم:
لقد بدأ حديث القرآن عن الصيام في سورة البقرة، وهي من أوائل السور التي نزلت بعد الهجرة – بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، وهذا إخبار منه سبحانه أنه شرع لهذه الأمة الصيام كما شرعه لغيرها من الأمم، وهذا بلا شك يدل على عظيم أمر الصيام، وأنه من الشرائع التي تشتمل على المصلحة للخلق في كلِّ زمان؛ فقد قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: “يخبر تعالى بما منَّ به على عباده، بأنه فرض عليهم الصيام كما فرضه على الأمم السابقة؛ لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كلِّ زمان، وفيه تنشيط لهذه الأمة، بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال، والمسارعة إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثقيلة التي اختصيتم بها”[1].
فمع اختلاف الكيفية بين صيام هذه الأمة وصيام الأمم السابقة، فإن أصل الصيام وجوهره واحد، وهو منع النفس عن بعض الأمور تعبدًا لله سبحانه؛ لذلك يوضح العلامة ابن عاشور أن الصيام الذي كُتب على الذين من قبلنا كان مختلفًا في الكيفية عن صيام هذه الأمة، وأن الله سبحانه إنما قرن الحديث عن صيام هذه الأمة والأمم السابقة لعدة أمور؛ فيقول رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [البقرة: 183]: “تشبيه في أصل فرض ماهية الصوم لا في الكيفيات، والتشبيه يُكتفى فيه ببعض وجوه المشابهة، وهو وجه الشبه المراد في القصد، وليس المقصود من هذا التشبيه الحوالة في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة، ولكنَّ فيهم أغراضًا ثلاثة تضمنها التشبيه:
أحدها: الاهتمام بهذه العبادة والتنويه بها؛ لأنها شرعها الله قبل الإسلام لمن كانوا قبل المسلمين، وشرعها للمسلمين، وذلك يقتضي اطراد صلاحها ووفرة ثوابها، وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة؛ كي لا يتميز بها من كان قبلهم.
والغرض الثاني: أن في التشبيه بالسابقين تهوينًا على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم، فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب، فهذه فائدة لمن قد يستعظم الصوم من المشركين، فيمنعه وجوده في الإسلام من الإيمان، ولمن يستثقله من قريبي العهد بالإسلام.
والغرض الثالث: إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة؛ حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض، بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة”[2].
التقوى أعظم مقاصد الصيام:
وإذا انتقلنا للحديث عن مقاصد الصيام وحكمه، نجد أنه من أكثر العبادات التي عدَّد العلماء مقاصدها وحكمها، ولقد أجمل الله سبحانه هذه المقاصد والحكم في تحقيق التقوى؛ فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
فتحقيق التقوى من أعظم المقاصد والمطالب التي ينبغي للمسلم أن يحققها، فالله سبحانه خلق الخلق وأرسل الرسل وأنزل الكتب لعبادته وتقواه عز وجل؛ فقد قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21].
فجوهر التقوى هو تحقيق مراقبة الله سبحانه في السر والعلن، وهذا ما يربِّيه الصيام في قلب المؤمن؛ يقول الشيخ السعدي رحمه الله: “ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى؛ لأن فيه امتثالَ أمرِ الله واجتناب نهيه، فمما اشتمل عليه من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها، التي تميل إليها نفسه، متقربًا بذلك إلى الله، راجيًا بتركها ثوابه، فهذا من التقوى، ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه؛ لعلمه باطلاع الله عليه”[3].
ومن مقاصد الصيام: تزكية النفس وطهرتها من سيئ الأخلاق ورذائل الصفات؛ وذلك أن الصائم حال تلبسه بهذه العبادة يدرب نفسه على محاسن الأخلاق، والبعد عن قول الزور والفحش واللغو والرفث، وهذا مقصد واضح من مقاصد الصيام؛ فقد قال الإمام ابن كثير في تفسير قوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21]: “يقول تعالى مخاطبًا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرًا لهم بالصيام؛ وهو: الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله عز وجل؛ لِما فيه من زكاة النفس وطهارتها، وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة”[4].
وهذا ما تؤكده السنة المطهرة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ لم يَدَع قولَ الزُّور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يَدَعَ طعامَه وشرابَه))؛ [رواه البخاري].
وجاء في الحديث الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربِّ العزة: ((… وإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يَرفُثْ، ولا يَصْخَبْ، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله، فليقل: إني امرؤٌ صائمٌ))؛ [متفق عليه]، فالمسلم إذا حافظ على هذه الأخلاق خلال شهر الصيام، صارت هذه عادته وطبيعته طوال العام.
ومن مقاصد الصيام: أنه يضيق مجاري الشيطان في ابن آدم؛ فيقل نزوعه إلى فعل المعاصي والذنوب، بل تميل نفسه إلى فعل الطاعات، والتقرب إلى رب الأرض والسماوات.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله: “الصيام يضيق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام يضعف نفوذه، وتقل منه المعاصي… وأن الصائم في الغالب تكثر طاعته”[5].
لذلك كان النبي صلى الله عليه وسـلم ينصح الشباب بالصيام إن عجزوا عن النكاح؛ لِما له من الآثار العظيمة في كبح النفس وكسر وطأة الشهوة؛ فقد ثبت في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلـم: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء))؛ [متفق عليه].
ومن مقاصد الصيام أيضًا: أنه يُشعِر الأغنياء بحاجة الفقراء، فترق قلوبهم في الإنفاق عليهم، ويسارعون إلى مساعدتهم، وهذا نلاحظه كثيرًا في شهر رمضان.
يقول الشيخ السعدي في الحديث عن مقاصد الصيام: “منها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع، أوجب له ذلك مواساة الفقراء المعدمين”[6].
مظاهر الرحمة في فرضية الصيام:
وينبغي ونحن نتحدث عن مقاصد الصيام ألَّا نغفل عن الحديث عن مظاهر الرحمة التي تغمر هذه العبادة العظيمة، فمع عظم مقاصدها وشدة حاجة العبد لها، فإنها لا تخلو من مظاهر الرحمة الإلهية في فرضيتها، فهيا بنا أيها القارئ الكريم نتوقف مع بعض هذه المظاهر؛ لنزداد إقبالًا ومحبة لهذه الشعيرة:
فأول مظاهر الرحمة في فرضية الصيام: أن الله سبحانه لم يأمر عباده بصيام الدهر كله، بل كلفهم ببعض الأيام المعدودات؛ فقال تعالى: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة: 184]؛ وذلك رحمة بهم ولعلمه بضعفهم.
يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: “ثم بيَّن مقدار الصوم، وأنه ليس في كل يوم؛ لئلا يشق على النفوس، فتضعف عن حمله وأدائه، بل في أيام معدودات”[7].
ومن مظاهر الرحمة في فرضية الصيام: أن الله سبحانه لم يفرضه مباشرة على عباده، إنما حرص على التدرج في فرضيته؛ مراعاة لطبيعة الإنسان ورفعًا للمشقة عنه؛ حيث كان المسلم في بداية الأمر مخيرًا بين الصيام أو الإطعام؛ حيث قال تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 184].
فقد قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: “أما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام، فقد كان مخيرًا بين الصيام وبين الإطعام، إن شاء صام، وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينًا، فإن أطعم أكثر من مسكين عن كلِّ يوم، فهو خير، وإن صام فهو أفضل من الإطعام… ثم إن الله عز وجل أنزل الآية الأخرى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ إلى قوله: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185]، فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح”[8].
ومن مظاهر الرحمة في فرضية الصيام: أن الله سبحانه رفع الحرج عن المريض والمسافر بأن يترك الصيام ويقضيه في أيام أخر؛ حتى لا يفوتهما مقاصد الصيام وما فيه من المصالح والفوائد؛ فقال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184]، وقال في الآية التي تليها: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185].
يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: “رخص الله لهما – أي: المريض والمسافر – في الفطر، ولما كان لا بد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن، أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض، وانقضى السفر، وحصلت الراحة”[9].
أما كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة التي يصعب معها الصيام، فقد جعل الله لهم فدية عن صيامهم؛ جبرًا لخواطرهم، ورفعًا للحرج والمشقة عنهم برحمته وفضله سبحانه.
ومن مظاهر الرحمة في فرضية الصيام أيضًا: أنه سبحانه أحل لعباده ليلة الصيام ما كان محرمًا عليهم وقت الصيام من الطعام والشراب والجماع؛ رحمة بهم ورفعًا للمشقة عنهم؛ فقال سبحانه: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ [البقرة: 187]؛ يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: “هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين، ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك، فمتى نام أو صلى العشاء، حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة، فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة… وحاصله أن الرجل والمرأة كل منهما يخالط الآخر ويماسه ويضاجعه، فناسب أن يرخص لهم في المجامعة في ليل رمضان؛ لئلا يشق ذلك عليهم”[10].
وختامًا:
هكذا رأينا أيها القارئ الكريم من خلال هذه الوقفات التدبرية شيئًا من مقاصد الصيام ومظاهر الرحمة المتضمنة فيه، وتظل الحكم والمقاصد وأسرار العبادات بابًا عظيمًا يجلي الله لنا منه ما شاء الله ويخفي عنا منه ما شاء، ويظل المسلم على يقين أن الله سبحانه لا يكلفه إلا بما في وسعه وقدرته، وما يضمن له المصلحة والخير في الدنيا والآخرة، وصلِّ اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
محمد بن أحمد الخولي
ها هي نسائم شهر رمضان المبارك تغمرنا بما فيها من أريج الطاعات، ومَعين القربات، وفيض العطايا والرحمات؛ فلقد اختص الله سبحانه هذا الشهر بعدد من الخصائص، وفضَّله بعدد من الفضائل، وميزه بعدد من العبادات، ويأتي في مقدمتها عبادة الصيام، هذه العبادة التي عظمها الله سبحانه، وجعلها ركنًا من أركان الإسلام، وفصَّل الحديث عنها في غير آية من آيات القرآن؛ ليلفتنا إلى مكانتها وأهميتها، ويوضح لنا مقاصدها وحكمها.
فهيا بنا أيها القارئ الكريم نتلمس شيئًا من مقاصد هذه العبادة وحكمها من خلال حديث القرآن عنها.
تشريع الصيام لجميع الأمم:
لقد بدأ حديث القرآن عن الصيام في سورة البقرة، وهي من أوائل السور التي نزلت بعد الهجرة – بقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، وهذا إخبار منه سبحانه أنه شرع لهذه الأمة الصيام كما شرعه لغيرها من الأمم، وهذا بلا شك يدل على عظيم أمر الصيام، وأنه من الشرائع التي تشتمل على المصلحة للخلق في كلِّ زمان؛ فقد قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: “يخبر تعالى بما منَّ به على عباده، بأنه فرض عليهم الصيام كما فرضه على الأمم السابقة؛ لأنه من الشرائع والأوامر التي هي مصلحة للخلق في كلِّ زمان، وفيه تنشيط لهذه الأمة، بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل الأعمال، والمسارعة إلى صالح الخصال، وأنه ليس من الأمور الثقيلة التي اختصيتم بها”[1].
فمع اختلاف الكيفية بين صيام هذه الأمة وصيام الأمم السابقة، فإن أصل الصيام وجوهره واحد، وهو منع النفس عن بعض الأمور تعبدًا لله سبحانه؛ لذلك يوضح العلامة ابن عاشور أن الصيام الذي كُتب على الذين من قبلنا كان مختلفًا في الكيفية عن صيام هذه الأمة، وأن الله سبحانه إنما قرن الحديث عن صيام هذه الأمة والأمم السابقة لعدة أمور؛ فيقول رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [البقرة: 183]: “تشبيه في أصل فرض ماهية الصوم لا في الكيفيات، والتشبيه يُكتفى فيه ببعض وجوه المشابهة، وهو وجه الشبه المراد في القصد، وليس المقصود من هذا التشبيه الحوالة في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة، ولكنَّ فيهم أغراضًا ثلاثة تضمنها التشبيه:
أحدها: الاهتمام بهذه العبادة والتنويه بها؛ لأنها شرعها الله قبل الإسلام لمن كانوا قبل المسلمين، وشرعها للمسلمين، وذلك يقتضي اطراد صلاحها ووفرة ثوابها، وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة؛ كي لا يتميز بها من كان قبلهم.
والغرض الثاني: أن في التشبيه بالسابقين تهوينًا على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم، فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب، فهذه فائدة لمن قد يستعظم الصوم من المشركين، فيمنعه وجوده في الإسلام من الإيمان، ولمن يستثقله من قريبي العهد بالإسلام.
والغرض الثالث: إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة؛ حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض، بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة”[2].
التقوى أعظم مقاصد الصيام:
وإذا انتقلنا للحديث عن مقاصد الصيام وحكمه، نجد أنه من أكثر العبادات التي عدَّد العلماء مقاصدها وحكمها، ولقد أجمل الله سبحانه هذه المقاصد والحكم في تحقيق التقوى؛ فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
فتحقيق التقوى من أعظم المقاصد والمطالب التي ينبغي للمسلم أن يحققها، فالله سبحانه خلق الخلق وأرسل الرسل وأنزل الكتب لعبادته وتقواه عز وجل؛ فقد قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21].
فجوهر التقوى هو تحقيق مراقبة الله سبحانه في السر والعلن، وهذا ما يربِّيه الصيام في قلب المؤمن؛ يقول الشيخ السعدي رحمه الله: “ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، فإن الصيام من أكبر أسباب التقوى؛ لأن فيه امتثالَ أمرِ الله واجتناب نهيه، فمما اشتمل عليه من التقوى: أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من الأكل والشرب والجماع ونحوها، التي تميل إليها نفسه، متقربًا بذلك إلى الله، راجيًا بتركها ثوابه، فهذا من التقوى، ومنها: أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى، فيترك ما تهوى نفسه مع قدرته عليه؛ لعلمه باطلاع الله عليه”[3].
ومن مقاصد الصيام: تزكية النفس وطهرتها من سيئ الأخلاق ورذائل الصفات؛ وذلك أن الصائم حال تلبسه بهذه العبادة يدرب نفسه على محاسن الأخلاق، والبعد عن قول الزور والفحش واللغو والرفث، وهذا مقصد واضح من مقاصد الصيام؛ فقد قال الإمام ابن كثير في تفسير قوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21]: “يقول تعالى مخاطبًا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرًا لهم بالصيام؛ وهو: الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله عز وجل؛ لِما فيه من زكاة النفس وطهارتها، وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة”[4].
وهذا ما تؤكده السنة المطهرة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ لم يَدَع قولَ الزُّور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يَدَعَ طعامَه وشرابَه))؛ [رواه البخاري].
وجاء في الحديث الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربِّ العزة: ((… وإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يَرفُثْ، ولا يَصْخَبْ، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتله، فليقل: إني امرؤٌ صائمٌ))؛ [متفق عليه]، فالمسلم إذا حافظ على هذه الأخلاق خلال شهر الصيام، صارت هذه عادته وطبيعته طوال العام.
ومن مقاصد الصيام: أنه يضيق مجاري الشيطان في ابن آدم؛ فيقل نزوعه إلى فعل المعاصي والذنوب، بل تميل نفسه إلى فعل الطاعات، والتقرب إلى رب الأرض والسماوات.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله: “الصيام يضيق مجاري الشيطان، فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فبالصيام يضعف نفوذه، وتقل منه المعاصي… وأن الصائم في الغالب تكثر طاعته”[5].
لذلك كان النبي صلى الله عليه وسـلم ينصح الشباب بالصيام إن عجزوا عن النكاح؛ لِما له من الآثار العظيمة في كبح النفس وكسر وطأة الشهوة؛ فقد ثبت في الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلـم: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء))؛ [متفق عليه].
ومن مقاصد الصيام أيضًا: أنه يُشعِر الأغنياء بحاجة الفقراء، فترق قلوبهم في الإنفاق عليهم، ويسارعون إلى مساعدتهم، وهذا نلاحظه كثيرًا في شهر رمضان.
يقول الشيخ السعدي في الحديث عن مقاصد الصيام: “منها: أن الغني إذا ذاق ألم الجوع، أوجب له ذلك مواساة الفقراء المعدمين”[6].
مظاهر الرحمة في فرضية الصيام:
وينبغي ونحن نتحدث عن مقاصد الصيام ألَّا نغفل عن الحديث عن مظاهر الرحمة التي تغمر هذه العبادة العظيمة، فمع عظم مقاصدها وشدة حاجة العبد لها، فإنها لا تخلو من مظاهر الرحمة الإلهية في فرضيتها، فهيا بنا أيها القارئ الكريم نتوقف مع بعض هذه المظاهر؛ لنزداد إقبالًا ومحبة لهذه الشعيرة:
فأول مظاهر الرحمة في فرضية الصيام: أن الله سبحانه لم يأمر عباده بصيام الدهر كله، بل كلفهم ببعض الأيام المعدودات؛ فقال تعالى: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ ﴾ [البقرة: 184]؛ وذلك رحمة بهم ولعلمه بضعفهم.
يقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: “ثم بيَّن مقدار الصوم، وأنه ليس في كل يوم؛ لئلا يشق على النفوس، فتضعف عن حمله وأدائه، بل في أيام معدودات”[7].
ومن مظاهر الرحمة في فرضية الصيام: أن الله سبحانه لم يفرضه مباشرة على عباده، إنما حرص على التدرج في فرضيته؛ مراعاة لطبيعة الإنسان ورفعًا للمشقة عنه؛ حيث كان المسلم في بداية الأمر مخيرًا بين الصيام أو الإطعام؛ حيث قال تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 184].
فقد قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: “أما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام، فقد كان مخيرًا بين الصيام وبين الإطعام، إن شاء صام، وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينًا، فإن أطعم أكثر من مسكين عن كلِّ يوم، فهو خير، وإن صام فهو أفضل من الإطعام… ثم إن الله عز وجل أنزل الآية الأخرى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ إلى قوله: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185]، فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح”[8].
ومن مظاهر الرحمة في فرضية الصيام: أن الله سبحانه رفع الحرج عن المريض والمسافر بأن يترك الصيام ويقضيه في أيام أخر؛ حتى لا يفوتهما مقاصد الصيام وما فيه من المصالح والفوائد؛ فقال تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 184]، وقال في الآية التي تليها: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البقرة: 185].
يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: “رخص الله لهما – أي: المريض والمسافر – في الفطر، ولما كان لا بد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن، أمرهما أن يقضياه في أيام أخر إذا زال المرض، وانقضى السفر، وحصلت الراحة”[9].
أما كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة التي يصعب معها الصيام، فقد جعل الله لهم فدية عن صيامهم؛ جبرًا لخواطرهم، ورفعًا للحرج والمشقة عنهم برحمته وفضله سبحانه.
ومن مظاهر الرحمة في فرضية الصيام أيضًا: أنه سبحانه أحل لعباده ليلة الصيام ما كان محرمًا عليهم وقت الصيام من الطعام والشراب والجماع؛ رحمة بهم ورفعًا للمشقة عنهم؛ فقال سبحانه: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ [البقرة: 187]؛ يقول الإمام ابن كثير رحمه الله: “هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين، ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك، فمتى نام أو صلى العشاء، حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة، فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة… وحاصله أن الرجل والمرأة كل منهما يخالط الآخر ويماسه ويضاجعه، فناسب أن يرخص لهم في المجامعة في ليل رمضان؛ لئلا يشق ذلك عليهم”[10].
وختامًا:
هكذا رأينا أيها القارئ الكريم من خلال هذه الوقفات التدبرية شيئًا من مقاصد الصيام ومظاهر الرحمة المتضمنة فيه، وتظل الحكم والمقاصد وأسرار العبادات بابًا عظيمًا يجلي الله لنا منه ما شاء الله ويخفي عنا منه ما شاء، ويظل المسلم على يقين أن الله سبحانه لا يكلفه إلا بما في وسعه وقدرته، وما يضمن له المصلحة والخير في الدنيا والآخرة، وصلِّ اللهم وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.