في العام السادس من الهجرة رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في منامه أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأنهم يطوفون بالكعبة، فأخبر أصحابه بذلك، ففرحوا فرحاً شديدا، فرؤيا الأنبياء حق، وقد اشتد بهم الحنين إلى تأدية النُسُك، ودخول مكة موطنهم الأول ومسقط رأسهم .
وفي شهر ذي القعدة من العام نفسه خرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ألف وأربعمائة مسلم، متجهين إلى مكة لقضاء أول عمرة لهم بعد الهجرة، فلما وصل إلى ذي الحليفة أهلَّ مُحْرما هو ومن معه، وحين وصلوا إلى عسفان (مكان بين مكة والمدينة)، جاءهم بُسْر ـ رضي الله عنه ـ بأخبار قريش واستعدادهم لمنع المسلمين من دخول مكة، فاستشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه، فأشار أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بالتوجه إلى مكة لأداء العمرة والطواف بالبيت .
وفي موضع يقال له الحديبية قبيل مكة تمت مفاوضات بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقريش، أسفرت عن اتفاق عُرِفَ في السيرة النبوية بصلح الحديبية، ويقضي هذا الصلح بأن تكون هناك هدنة بين الطرفين لمدة عشر سنوات، وأن يرجع المسلمون إلى المدينة هذا العام فلا يقضوا العمرة إلا العام القادم، وأن يرد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من يأتي إليه من قريش مسلما دون علم أهله، وألا ترد قريش من يأتيها مرتدا، وأن من أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غير قريش دخل فيه .
وكان هذا الصلح ـ رغم شروطه الشديدة على المسلمين ـ فتحاً عظيماً، ونصراً مبيناً للمسلمين، وذلك لما ترتب عليه من منافع عظيمة، حيث اعترفت قريش بكيان المسلمين لأول مرة، وتنازلت عن صدارتها الدنيوية وزعامتها الدينية، وقد سمَّاه الله ـ عز وجل ـ فتحا مبينا، قال الله تعالى: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا }(الفتح الآية: 1) .
قال الشنقيطي: " وليس المراد بالفتح المذكور فتح مكة وإن قال بذلك جماعة من أهل العلم، وإنما قلنا ذلك لأن أكثر أهل العلم يرون أن المراد بالفتح فتح الحديبية، ولأن ظاهر القرآن يدل عليه، لأن سورة الفتح نزلت بعد الصلح في طريقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ راجعاً إلى المدينة، ولفظ الماضي في قوله: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } يدل على أن ذلك الفتح قد مضى، فدعوى أنه فتح مكة ولم يقع إلا بعد ذلك بقرب سنتين خلاف الظاهر " .
حُزْنٌ وحِوار :
خرج المسلمون من المدينة وهم أشد ما يكونون شوقاً إلى البيت الحرام، ولقد كانوا عازمين على دخول مكة، مهما كلفهم ذلك من جُهْد وثمن، ومن ثم حزنوا لرجوعهم إلى المدينة دون تأديتهم للعمرة وطوافهم بالكعبة، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أخبرهم أنهم سيأتون البيت يطوفون به، فلِمَ يرجعون ولا يطوفون به؟، كما حزنوا لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبي الله وهو على الحق، والله وعده نصره وإظهار دينه، فما له يقبل شروط قريش ويستجيب لضغوطهم؟، وصارت مشاعر المسلمين لأجل ذلك حزينة، وكان أعظم المسلمين حزنا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، الذي حدث بينه وبين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حوار ومناقشة .
عن أبي وائل قال: ( قام سهل بن حنيف يوم صفين، فقال: أيها الناس، اتهموا أنفسكم لقد كنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين المشركين، قال: فأتى عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟، قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟، قال: بلى، قال: ففيم نعطي الدنية في أنفسنا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟، قال: يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيعني الله، قال: فانطلق ابن الخطاب ولم يصبر متغيظا، فأتى أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على باطل؟، قال: بلى قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى قال: فعلى ما نعطي الدنية في ديننا؟، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟، قال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله، ولن يضيعه الله أبدا. فنزل القرآن على محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله، أو فتح هو؟، قال: نعم، قال: فطابت نفسه ورجع ) رواه البخاري .
وفي رواية أحمد: " فقال له أبو بكر بمثل ما قال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وزاد ـ أبو بكر ـ: ( يا عمر الزم غرزه - أي: تمسك بأمره - حيث كان، فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله، وقال عمر: ما زلتُ أصوم وأتصدق وأعتق مِنَ الذي صنعتُ مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيراً ) .
قال ابن حجر: " قال بعض الشراح قوله: " أعمالا " أي من الذهاب والمجيء، والسؤال والجواب، ولم يكن ذلك شكَّاً من عمر، بل طلباً لكشف ما خفي عليه، وحثاً على إذلال الكفار، لما عُرِفَ مِنْ قوته في نصرة الدين " ثم قال: " وتفسير الأعمال بما ذُكِرَ مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة، ليكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء " .
وروي الواقدي من حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ: قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: " لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا، وصُمْتُ دهْراً " .
لم يكن عمر ـ رضي الله عنه ـ في مناقشته للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضعيف الإيمان، بل كان يريد ما هو أشق على النفس حين قال: " أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟، قال: بلى، قال: ففيم نعطي الدنية في أنفسنا "، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُدْرِكاً وموقناً أن هذا الصلح سيكون فاتحة خير وبركة على المسلمين بعد ذلك، وإذا كان الأصل في أسلوب النبي ـ صلى الله عليه وسلم وعادته مع أصحابه الحوار والمناقشة ليبين لهم الحكمة، إلا أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الموقف يربي أصحابه على الاستسلام لأمر الله ـ عز وجل ـ، وأمْرِ رسوله ـ صلى الله عليه ,سلم ـ، دون معرفة الأسباب، أو إدراك الحكمة، فما دام الله ـ عز وجل ـ قد أمر، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد حكم، فلا يسعِ المسلم إلا الإيمان والتصديق والرضى، قال الله تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }(النساء الآية: 65) .
وإذا كان عمر ـ رضي الله عنه ـ وبعض الصحابة كرهوا هذا الصلح، ورأوا في شروطه الظلم والإجحاف بالمسلمين، إلا أنهم ندموا على ذلك، وظلت تلك الحادثة درسا لهم فيما استقبلوا من حياتهم، فكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يقول: " يا أيها الناس: اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيي اجتهادا " .
وكان سهل بن حنيف ـ رضي الله عنه ـ يقول: " اتهموا رأيكم،رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لرددته " .
لقد كان صلح الحديبية مفتاحا لفتح مكة وإن لم ينتبه المسلمون لهذا في حينه، إذْ لما تم الصلح والهدنة ووضعت الحرب، وأمِنَ المسلمون واختلطوا بالكفار من غير استنكار، دعوهم إلى الإسلام وأسمعوهم القرآن، وقد أسلم في خلال سنتين ـ بعد هذا الصلح ـ مثل من كان في الإسلام قبل ذلك بل أكثر، ومن ثم كان صلح الحديبية ـ مع ما فيه من الدروس والحكم ـ فتحا مبينا .
قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: " إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية " .
وقال الزهري: " فما فُتِحَ في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم منه " .
وقال ابن هشام: " والدليل على قول الزهري: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة في قول جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف " .
لقد تعلم الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ من سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عامة، ومن صلح الحديبية ـ خاصة ـ وجوب طاعة أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتسليم لحكمه، وإن خالف ذلك النفس، ولم يدرك غايته العقل، حتى قال عمر ـ رضي الله عنه ـ بعد ذلك وهو يقبل الحجر الأسود: ( إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلك ما قبَّلْتُك ) رواه البخاري .
وفي شهر ذي القعدة من العام نفسه خرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ألف وأربعمائة مسلم، متجهين إلى مكة لقضاء أول عمرة لهم بعد الهجرة، فلما وصل إلى ذي الحليفة أهلَّ مُحْرما هو ومن معه، وحين وصلوا إلى عسفان (مكان بين مكة والمدينة)، جاءهم بُسْر ـ رضي الله عنه ـ بأخبار قريش واستعدادهم لمنع المسلمين من دخول مكة، فاستشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه، فأشار أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ بالتوجه إلى مكة لأداء العمرة والطواف بالبيت .
وفي موضع يقال له الحديبية قبيل مكة تمت مفاوضات بين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقريش، أسفرت عن اتفاق عُرِفَ في السيرة النبوية بصلح الحديبية، ويقضي هذا الصلح بأن تكون هناك هدنة بين الطرفين لمدة عشر سنوات، وأن يرجع المسلمون إلى المدينة هذا العام فلا يقضوا العمرة إلا العام القادم، وأن يرد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من يأتي إليه من قريش مسلما دون علم أهله، وألا ترد قريش من يأتيها مرتدا، وأن من أراد أن يدخل في عهد قريش دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في عهد محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غير قريش دخل فيه .
وكان هذا الصلح ـ رغم شروطه الشديدة على المسلمين ـ فتحاً عظيماً، ونصراً مبيناً للمسلمين، وذلك لما ترتب عليه من منافع عظيمة، حيث اعترفت قريش بكيان المسلمين لأول مرة، وتنازلت عن صدارتها الدنيوية وزعامتها الدينية، وقد سمَّاه الله ـ عز وجل ـ فتحا مبينا، قال الله تعالى: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا }(الفتح الآية: 1) .
قال الشنقيطي: " وليس المراد بالفتح المذكور فتح مكة وإن قال بذلك جماعة من أهل العلم، وإنما قلنا ذلك لأن أكثر أهل العلم يرون أن المراد بالفتح فتح الحديبية، ولأن ظاهر القرآن يدل عليه، لأن سورة الفتح نزلت بعد الصلح في طريقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ راجعاً إلى المدينة، ولفظ الماضي في قوله: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا } يدل على أن ذلك الفتح قد مضى، فدعوى أنه فتح مكة ولم يقع إلا بعد ذلك بقرب سنتين خلاف الظاهر " .
حُزْنٌ وحِوار :
خرج المسلمون من المدينة وهم أشد ما يكونون شوقاً إلى البيت الحرام، ولقد كانوا عازمين على دخول مكة، مهما كلفهم ذلك من جُهْد وثمن، ومن ثم حزنوا لرجوعهم إلى المدينة دون تأديتهم للعمرة وطوافهم بالكعبة، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أخبرهم أنهم سيأتون البيت يطوفون به، فلِمَ يرجعون ولا يطوفون به؟، كما حزنوا لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ نبي الله وهو على الحق، والله وعده نصره وإظهار دينه، فما له يقبل شروط قريش ويستجيب لضغوطهم؟، وصارت مشاعر المسلمين لأجل ذلك حزينة، وكان أعظم المسلمين حزنا عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ، الذي حدث بينه وبين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حوار ومناقشة .
عن أبي وائل قال: ( قام سهل بن حنيف يوم صفين، فقال: أيها الناس، اتهموا أنفسكم لقد كنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الحديبية ولو نرى قتالا لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين المشركين، قال: فأتى عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟، قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟، قال: بلى، قال: ففيم نعطي الدنية في أنفسنا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟، قال: يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيعني الله، قال: فانطلق ابن الخطاب ولم يصبر متغيظا، فأتى أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على باطل؟، قال: بلى قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى قال: فعلى ما نعطي الدنية في ديننا؟، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟، قال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله، ولن يضيعه الله أبدا. فنزل القرآن على محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله، أو فتح هو؟، قال: نعم، قال: فطابت نفسه ورجع ) رواه البخاري .
وفي رواية أحمد: " فقال له أبو بكر بمثل ما قال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وزاد ـ أبو بكر ـ: ( يا عمر الزم غرزه - أي: تمسك بأمره - حيث كان، فإني أشهد أنه رسول الله، قال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله، وقال عمر: ما زلتُ أصوم وأتصدق وأعتق مِنَ الذي صنعتُ مخافة كلامي الذي تكلمت به يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيراً ) .
قال ابن حجر: " قال بعض الشراح قوله: " أعمالا " أي من الذهاب والمجيء، والسؤال والجواب، ولم يكن ذلك شكَّاً من عمر، بل طلباً لكشف ما خفي عليه، وحثاً على إذلال الكفار، لما عُرِفَ مِنْ قوته في نصرة الدين " ثم قال: " وتفسير الأعمال بما ذُكِرَ مردود، بل المراد به الأعمال الصالحة، ليكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء " .
وروي الواقدي من حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ: قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: " لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا، وصُمْتُ دهْراً " .
لم يكن عمر ـ رضي الله عنه ـ في مناقشته للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضعيف الإيمان، بل كان يريد ما هو أشق على النفس حين قال: " أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟، قال: بلى، قال: ففيم نعطي الدنية في أنفسنا "، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُدْرِكاً وموقناً أن هذا الصلح سيكون فاتحة خير وبركة على المسلمين بعد ذلك، وإذا كان الأصل في أسلوب النبي ـ صلى الله عليه وسلم وعادته مع أصحابه الحوار والمناقشة ليبين لهم الحكمة، إلا أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الموقف يربي أصحابه على الاستسلام لأمر الله ـ عز وجل ـ، وأمْرِ رسوله ـ صلى الله عليه ,سلم ـ، دون معرفة الأسباب، أو إدراك الحكمة، فما دام الله ـ عز وجل ـ قد أمر، والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد حكم، فلا يسعِ المسلم إلا الإيمان والتصديق والرضى، قال الله تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }(النساء الآية: 65) .
وإذا كان عمر ـ رضي الله عنه ـ وبعض الصحابة كرهوا هذا الصلح، ورأوا في شروطه الظلم والإجحاف بالمسلمين، إلا أنهم ندموا على ذلك، وظلت تلك الحادثة درسا لهم فيما استقبلوا من حياتهم، فكان عمر ـ رضي الله عنه ـ يقول: " يا أيها الناس: اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيي اجتهادا " .
وكان سهل بن حنيف ـ رضي الله عنه ـ يقول: " اتهموا رأيكم،رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لرددته " .
لقد كان صلح الحديبية مفتاحا لفتح مكة وإن لم ينتبه المسلمون لهذا في حينه، إذْ لما تم الصلح والهدنة ووضعت الحرب، وأمِنَ المسلمون واختلطوا بالكفار من غير استنكار، دعوهم إلى الإسلام وأسمعوهم القرآن، وقد أسلم في خلال سنتين ـ بعد هذا الصلح ـ مثل من كان في الإسلام قبل ذلك بل أكثر، ومن ثم كان صلح الحديبية ـ مع ما فيه من الدروس والحكم ـ فتحا مبينا .
قال عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: " إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية " .
وقال الزهري: " فما فُتِحَ في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم منه " .
وقال ابن هشام: " والدليل على قول الزهري: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج إلى الحديبية في ألف وأربع مائة في قول جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ، ثم خرج عام فتح مكة بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف " .
لقد تعلم الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ من سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عامة، ومن صلح الحديبية ـ خاصة ـ وجوب طاعة أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتسليم لحكمه، وإن خالف ذلك النفس، ولم يدرك غايته العقل، حتى قال عمر ـ رضي الله عنه ـ بعد ذلك وهو يقبل الحجر الأسود: ( إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلك ما قبَّلْتُك ) رواه البخاري .