منذ بداية بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمشركون يسعون للحيلولة دون وصول دعوته إلى الناس بأساليب مختلفة، منها: السخرية والتكذيب، والاستهزاء به - صلى الله عليه وسلم - ورسالته، وتحذير الناس منه، ورميه بشتى التهم والأوصاف، ومنها: مطالبته بالإتيان بمعجزة تثبت صدقه وتشهد بنبوته، مظهرين له استعدادهم أن يتبعوه ويؤمنوا به إذا جاءهم بها، وهم يريدون في الحقيقة من وراء طلبهم تعجيزه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإيقاعه في الحرج، قال الله تعالى: { بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ * مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ }(الأنبياء الآية 5 : 6)، وقال تعالى: { وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }(العنكبوت الآية 50 : 51)، وقال تعالى: { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ }(الإسراء من الآية 90: 92)، فأمر الله ـ عز وجل ـ رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقول لهم: { سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا }(الإسراء الآية: 93) . وأمام طلب المشركين وكثرة سؤالهم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يريهم آية، استجاب الله ـ عز وجل ـ لهم فأراهم القمر شقين، حتى رأوا جبل حراء بينهما، والأحاديث في ذلك كثيرة، منها : ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( سأل أهل مكة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ آيةً فأراهم انشقاق القمر، فنزلت: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ }(القمر الآية 1: 2 ) . وعن جبير بن مطعم ـ رضي الله عنه ـ قال: ( انشق القمر على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى صار فرقتين: فرقة على هذا الجبل، وفرقة على هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمَّد، فقال بعضهم: لئن كان سحرنا فما يستطيع أن يسحر الناس كلهم ) رواه الترمذي . وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: ( انشق القمر على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شقتين، فقال لنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: اشهدوا ) رواه الترمذي . وعن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال: ( قالت قريش للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ادع لنا ربك يصبح لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك، قال: وتفعلوا، قالوا: نعم، قال: فدعا، فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح الصفا لهم ذهباً، فمن كفر منهم بعد ذلك أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحت لهم باب الرحمة والتوبة قال: بل باب التوبة والرحمة )، قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ: " فأنزل الله ـ عز وجل ـ هذه الآية: { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً }(الإسراء الآية: 59) ) رواه أحمد . لم ينشق القمر لأحد غير نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ورغم عِظم هذه المعجزة إلا أن قلوب المشركين المريضة وعقولهم العنيدة جعلتهم لا يؤمنون، بل واتهموا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالسحر، وهو جهل منهم بقدرة الله ـ عز وجل ـ في هذا الكون، ومطلق تصرفه في مخلوقاته . قال ابن حجر في فتح الباري: " قال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن: أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر، ولا إنكار للعقل فيه، لأن القمر مخلوق لله يفعل فيه ما يشاء، كما يكوره يوم البعث ويفنيه " . وقال القاضي عياض : " أما انشقاق القمر فالقرآن نص بوقوعه، و أخبر عن و جوده، ولا يعدل عن ظاهر إلا بدليل، وجاء برفع احتماله صحيح الأخبار من طرق كثيرة، ولا يوهن عزمنا خِلافُ أخْرقٍ منحل عرى الدين، ولا يلتفت إلى سخافة مبتدع يلقي الشك على قلوب ضعفاء المؤمنين، بل نرغم بهذا أنفه، وننبذ بالعراء سخفه ". إن في معجزة انشقاق القمر ومشاهدة المشركين ذلك بأعينهم ثم عدم إيمانهم، واتهامهم للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالسحر، أكبر دليل على عنادهم واستكبارهم، وأنهم حين طلبوا منه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أن يريهم آية تدل على نبوته، لم يفعلوا ذلك لكي يؤمنوا، وإنما فعلوا ذلك خديعة وحيلة، وهذه سنة المعرضين عن دين الله قديما وحديثا، لا يتورعون عن محاولة الكيد له، والوقوف في وجهه بالافتراء والتشويه وقلب الحقائق، وكيف يُرجى الخير ممن قالوا: { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }(الأنفال الآية: 32)، وهو دعاء غريب يصور حالةً من العناد والاستكبار الشديد الذي يؤثر الهلاك على الإذعان للحق, فلو كانوا يريدون الهداية والحق بصدق لقالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه . قال ابن كثير: " فيما اعترض به المشركون على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وما تعنتوا له في أسئلتهم إياه أنواعا من الآيات وخرق العادات على وجه العناد لا على وجه طلب الهدى والرشاد " . وقال الشنقيطي: " بيَّن ـ جلَّ وعلا ـ في هذه الآيات الكريمة شدة عناد الكفار وتعنتهم، وكثرة اقتراحاتهم لأجل التعنت لا لطلب الحق " . لقد خلّد القرآن الكريم معجزة انشقاق القمر للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال تعالى: { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ }(القمر الآية 3:1 )، وقال الخطابي: " انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء ".