الإيمان وأثره في النفوس
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أما بعد :
الإيمان وأثره في النفوس[1]
مقدمة:
أيها السادة، ليس من غرضنا في هذه المحاضرة أن نُفيض القولَ في حقيقة الإيمان وأقسامه، وهل هو يَقبَل الزيادة والنقص أو لا يَقْبلهما، وهل يُوافِق الإسلام أو يُخالِفه؛ فإن الكلام في هذا كله مُستفيض ومستوفى في كُتُب العقائد؛ وإنما الذي نَرمي إليه، ونسأل الله التوفيق له، هو بيان الإيمان الصادق الذي يملأ نفوسَ أهله ثِقَةً بالله ورغبة إليه، والذي يسير بهم سيرًا حثيثًا إلى مغفرته ورِضوانه والقربى منه والزُّلفى إليه، والذي يحيا به ذووه حياةً طيبة، ويعيشون به عيشة راضية في الدنيا والآخرة.
وإن كان لا بد من بيان حقيقة الإيمان ودرجاته؛ ليتبيَّن جليًّا ذلك الإيمان الكامل الذي نَقصِد إليه، ولنتعرَّف المؤمنين الكاملين بمزاياهم الخاصة بهم، ولنَصِل إلى ثمرة هذا الإيمان وغايته، فلنُقدِّم إليكم كلمة في ذلك مُجمَلة.
1- حقيقة الإيمان ودرجاته:
معنى الإيمان في اللغة: التصديق، ويستعمله الشرعُ في معنيين، أحدهما: تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به تصديقًا يقينيًّا لا تشوبه شائبة شكٍّ، وهذا هو الشرط الأول في تسمية مُحصِّله مؤمنًا، والأساس الذي لا بد منه في عدم تخليده في النار أبدًا، ويشهد له من الآيات قوله تعالى: ﴿ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ [البقرة: 25]، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ﴾ [الكهف: 107]، ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 - 3]؛ إذ جعل الله - سبحانه وتعالى - العمل الصالح مرتَّبًا على الإيمان شرطًا في البِشارة بالجنة والفوز بالنعيم المقيم، ويشهَد من الأحاديث ما أخرجه الشيخان والترمذي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أتاني جبريل عليه السلام فبشَّرني أن مَن مات من أمَّتِك لا يُشرِك بالله شيئًا دخل الجنة))، قلت: وإن زَنى وإن سرق؟ قال: ((وإن زَنى وإن سرق))، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: ((وإن زنى وإن سرق))، ثم قال في الرابعة: ((على رغم أنف أبي ذر)) وما أخرجه مسلم عن جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثنتان مُوجِبتان))، فقال رجل: يا رسول الله، ما الموجبتان؟ قال: ((مَن مات يشرك بالله شيئًا دخل النار، ومن مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة)).
وثاني المعنيين الشرعيين: تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به على النحو المتقدِّم، مع ضميمة الإقرار باللسان والعمل بالجوارح، وهذا كما قال بعضهم: الإيمان تصديق بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان، ويشهد لهذا المعنى من الكتاب قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [الأنفال: 2، 3]، وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾ [الطور: 21].
فإذًا لا يَستحِقُّ هذا الوصفَ الجميل، والثناءَ الحَسَن، والجزاءَ الكريم، إلا مَن كَمُل إيمانه، وتَمَّ يقينُه، ويشهد له من الأحاديث ما رواه الشيخان عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))، وما روياه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن))، قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جارُه بوائقه))، وما روياه عن أبي هريرة أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الإيمان بِضْع وستون شُعْبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعْبة من الإيمان)).
وما أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخياركم خياركم لأهله))، إلى أحاديث كثيرة تنفي الإيمانَ عمن اتَّصفوا بأوصاف ذميمة، وتُثبِته لمن تَجمَّلوا بشُعَب الأخلاق الكريمة، والمراد الإيمان الكامل قطعًا؛ توفيقًا بين النصوص، وجمعًا بين الأدلة.
وكثير من الآثار شاهدة بأن الإيمان يبدو ضئيلاً، ثم يقوى ويَكمُل بالازدياد في الطاعات والإخلاص فيها، كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عدي بن عدي عاملِه على الجزيرة: "إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودًا وسننًا (يريد بالشرائع العقائد الدينية)، فمَن استكملها استكمل الإيمانَ، ومن لم يَستكمِلها لم يَستكمِل الإيمان، فإن أَعِش فسأبيِّنها لكم حتى تَعملوا بها، وإن أَمُت فما أنا على صحبتكم بحريص"، وقال عمَّار بن ياسر أحد السابقين الأولين: "ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسه، وبذْل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار"، وفي كلام يروى عن الإمام علي رضي الله عنه: "إن الإيمان يَبْدو لُمْظة في القلب، كلما ازداد الإيمان ازدادت"، النكتة واللمظة واحد، إلا أن اللُّمظة في البياض خاصة.
وفي الإحياء عنه رضي الله عنه: "إن الإيمان ليبدو لمعة بيضاء، فإذا عمل العبد الصالحات، نمَت فزادت حتى يبيضَّ القلب كله، وإن النفاق ليبدو نكتة سوداء، فإذا انتهك الحرمات، نَمْت وزادت حتى يسودَّ القلب كله فيطبع عليه، فذلك هو الختم، وتلا قوله تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]".
وقد ذكر الإمام الغزالي - رحمه الله - أن الإيمان ثلاث درجات: إيمانٌ على سبيل الاعتقاد والتقليد، وهو إيمان العامة والسواد، وقال: إنه عقدةٌ تارةً تَشتدُّ وأخرى تسترخي، والعمل يزيد هذا الإيمان ويُنمِّيه، وهذا مُشاهَد فيمن تُزعزِعه عن إيمانه الرغائب، ويُشاهِده مَن يُراقِب أحوال نفسه ويواظِب على عملٍ ما، والثاني: يراد به التصديق والعمل جميعًا كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان بضع وستون شعبة)) الحديث، والثالث: يُراد به التصديق اليقيني على سبيل الكشف وانشراح الصدر والمشاهدة بنور البصيرة، وهذا أبعد الأقسام عن قَبُول الزيادة، ومع ذلك فهو لا يَمتنِع أن يَقبَلها.
وقد خلص لنا في هذا المبحث الإجمالي أن الإيمان قد يُراد به في الشرع مجرد التصديق بالرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وهذا يضمَن لصاحبه ألا يُخلَّد في النار، مهما قصَّر في واجباته، وفرَّط في جَنْب ربه، كما ذهب إليه جمهور المحقِّقين، ما دام لم يأتِ بما يُصادِم هذا الاعتقاد من قول أو عمل، وإن كثيرًا ممن حُشروا في الإسلام حَشرًا، وحُسبوا عليه عدًّا، ليسوا منه في شيء، اللهم إلا في عدِّ الجغرافيِّين، وتخطيط الإحصائيين، وكيف يكون مؤمنًا بالله واليوم الآخر مَن يهزأ بفريضة دينيَّة، أو يتهكَّم بشعيرة إسلامية، أو يرى الخيرَ والسعادة والنعيم والهناءة في إثم يَقترِفه، أو فحش يَجترِحه؟! أمثال هؤلاء كثيرٌ - أيها السادة - في هذا العصر الذي يزعمون أنه عصر المدنية والحضارة، قد حُسِبوا على الإسلام والمسلمين فصلَّوا عليهم ودفنوهم في مقابرهم، وهم - يعلم الله، ويشهد رسوله - قد حَقَّت عليهم كلمة العذاب، وما هم من النار بمخرجين، أليس من هؤلاء من لا يستحي أن يقول: إن هذا الدين قد انقضى أمدُه وانتهت مدَّته، ونحن في حاجة إلى تشريع جديد، ومن لا يَخجل أن يؤول كتاب الله تَبَعًا لشهواته وإرضاء لهواه مُنتِهكًا حُرمات الإسلام والمسلمين، ومن يقول من وراء ستار التمويه والتضليل: إن الدين ليس إلا صِلة بين العبد وربه، والناسُ في معاملتهم وسياستهم أحرار؟ إنه ليس غاليًا مَن يحكم بأن هؤلاء أشد كفرًا وأضرُّ على الإسلام من أعداء الإسلام.
وقد يُراد من الإيمان في الشرعِ اسمه الكامل، الجامع إلى تمام التصديق صالحاتِ الأعمال ومحاسنَ الأخلاق، وهذا الذي نُبيِّن بحول الله شرائطه وأعلامه، وغايته وآثاره، من بعد بيان صفات المؤمنين الكاملين، الذين نسأل الله أن يُلحِقنا بهم، ويَمُنَّ علينا بانتهاج سبيلهم واقتفاء آثارهم[2].
2- صفات المؤمنين:
أيها السادة، المؤمنون حقًّا هم صَفْوة خَلْق الله، وخلاصة أولياء الله، قوم يُحبُّهم الله ويُحبُّونه، ويرضى عنهم ويرضَون عنه، أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون، المؤمنون حقًّا قوم صَفَتْ من الأكدار نفوسُهم، وخلَصت من الأدناس أرواحُهم، حتى صاروا زينةَ الكون، وكواكب الوجود، وبهجة العالم، لم يَحجُبهم عن النبوَّة إلا أنها قد خُتِمت بسيد المرسلين، وخاتم النبيين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهم مع رفيع درجاتهم، وعليِّ مكانتهم، يَفضُل بعضهم بعضًا، ويَختصُّ قوم منهم بخصائص لم توجد في قوم آخرين، مع تَسابُق الجميع في الخيرات، ومسارعتهم إلى الطاعات، ومنافستهم في فضل الله ورِضوانه، والله ذو فضل عظيم، وإنما جاء الاختلاف بين مراتبهم من أن الكمال لا يَتناهى ولا يقف عند حدٍّ، ولا ينبغي أن يتفرَّد به إلا ذو الجلال والإكرام، ولعل اختلاف الدرجات، وتفاوت الخصائص والميزات، هو السرُّ في أنه - جلَّت حكمته - وصفهم بأوصاف مختلفة في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز، ونَعَتهم تارة بالمتقين، وأخرى بالمؤمنين، وثالثة بعباد الرحمن الذين شرُفوا بالإضافة إليه والنِّسبة له، ولله دَرُّ القاضي عياض؛ إذ يقول:
ومما زادني شرفًا وتيهًا
وكِدْتُ بأَخْمَصي[3] أطأ الثُّريَّا
دخولي تحت قولك يا عبادي
وأنْ صيَّرتَ أحمد لي نبيَّا
والقرآن الكريم مليء بأوصافهم والثناء عليهم والبُشرى لهم؛ فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [آل عمران: 133 - 136]، وقوله تعالى: ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ[4] الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [التوبة: 112]، وقوله تعالى: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]، إلى غير هذه الآيات البيِّنات.
وكما أن القرآن الكريم مليء بأوصاف المؤمنين وعلاماتهم، فالسُّنة والآثار كذلك مُفيضة في بيانهم وتمييز أوصافهم؛ أخرج الشيخان وغيرهما عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث مَن كُنَّ فيه وجد حلاوةَ الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكُفْر كما يكره أن يُقذَف في النار))، وأخرج الشيخان عنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
وأخرج أبو داود عن أبي أُمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن أحبَّ لله وأَبغَض لله، وأعطى لله ومنَع لله، فقد استكمَل الإيمان))، ويُروى عن علي رضي الله عنه في وصف المؤمن: "بِشْرُه في وجهه، وحُزْنه في قلبه، أوسع شيء صدرًا، وأذلُّ شيء نفسًا، يكره الرفعةَ، ويَشْنَأ السمعة، طويلٌ غمُّه، بعيدٌ همُّه، كثيرٌ صمتُه، مشغول وقته، شكور صبور مغمور بفكرته، ضنين بخُلَّته، سهْل الخليقة، ليِّن العريكة، نفسُه أصلَب من الصَّلد، وهو أذلُّ من العبْد".
وأوصاف المؤمنين - أيها السادة - لا تقف عند حد؛ لأنهم إلى الخيرات يُسارِعون، وإلى الكمال يُسابِقون، والخيرات لا نهاية لها، كما أن الكمالَ لا غاية له، غير أن الذي يعنينا كثيرًا هو أن نَذكُر جملةً من أوصافهم البارزة، ومزاياهم الظاهرة، التي يمكن أن تكون مصدرًا للفضائل كافَّة، والتي تُعِد مَن يتحلَّى بها للَّحاق بهؤلاء السابقين.
فأول تلك العلامات وثانيها الصبر والشكر، وهما وصفان جليلان، ونعتان مُتلازِمان، قلما يَنفصِل أحدهما عن صاحبه، فالمؤمن الصادق تراه صابرًا في البلاء، شاكرًا عند العطاء، وحال المرء في دنياه بين مِنْحة ومحنة، ونعمة ونقمة؛ وهو كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾ [المعارج: 19 - 21]، وكما قال - عز من قائل -: ﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ﴾ [فصلت: 51]، وهؤلاء الصادقون في إيمانهم لا تُزلزِلهم البلايا والنَّكبات, ولا تُبطِرهم العطايا والهبات، وكيف يَمَسُّهم الجزع، أو يَستولي عليهم سلطان البَطَر، وهم يعلمون عِلْم اليقين أن كلَّ مصاب أخطأ الإيمانَ هيِّن، وكلَّ عطيَّة مهما جَلَّت فهي دون الإيمان؟ أم كيف لا يصبرون ويشكرون، وقد رضوا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً؟ وعلِموا أن ما أصابهم من خير فهو مِن فضل الله فيَبتهِلون إليه شاكرين، وأن ما أصابهم من شرٍّ فبما كسبت أيديهم فيَضرعون إليه باكين تائبين، ويرجعون إليه مُخْبِتين مُنيبين، يعلمون أنهم وكلاء الله فيما آتاهم، فيُنفِقون مما جعلهم مستخلفين فيه، فإذا استردَّ ما أعطى فمالِكٌ أخذ ما ملَّك، ومُودِع أخذ ما استودع.
علِموا أن المصائب تُخلِّص النفوسَ من أدرانها، وأن الفتن تُطهِّرها من أرجاسها، وأن الصبر عليها يُقرِّبهم إلى الله زُلْفى، فاستعذَبوا في سبيل الله كلَّ عذاب، وتَجرَّعوا ابتغاءَ رِضوانه كلَّ علْقم وصاب، فكان جزاؤهم أن وفَّاهم الله أجرهم بغير حساب؛ ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 2، 3]، رُوي أن هذه الآية نزلت في ناس من الصحابة رِضوان الله عليهم أجمعين، جزعوا من شدة إيذاء المشركين لهم، وقوة اضطهادهم إيَّاهم، أخرج البخاري وأبو داود والنَّسائي عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُتوسِّد بُرْدة في ظلِّ الكعبة، فقلنا: ألا تَستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال قد كان من قبلكم..
وما أحوجنا إلى الصبر في هذا الزمن الذي عَصفتْ أعاصير فِتَنه، وارتطمت أمواج بلاياه! وكأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عناه إذ يقول فيما أخرجه البخاري وغيره، عن أبي سعيد رضي الله عنه: ((يُوشِك أن يكون خير مال المسلم غنم يَتْبَع بها شَعَفَ الجبال ومواقع القَطْر؛ يَفِر بدينه من الفتن))، وينطق هذا الحديث الصحيح بأن الفرار بالدِّين وعُزْلة الناس اتقاء فتنهم خيرٌ من مُخالَطتهم، وعلى ذلك جَمْعٌ من العلماء، إلا أن ما عليه أهل التحقيق أن الخُلْطة مع التصوُّن والنفع بقدر المستطاع أفضل وأجمل، وقد روى الترمذي عن يحيى بن وثَّاب عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم الذي يُخالِط الناسَ ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يُخالِطهم ولا يصبر على أذاهم))، ولا ريب أن الصبر على هذه الفتن، والعمل على السلامة منها - جهادٌ كبير من ورائه فوز عظيم، وقرين الصبر على البلاء - كما قدَّمنا - هو الشكر عند العطاء، فلا يَكمُل إيمان المرء حتى يسخو بالبذل في وجوه البِرِّ وشُعُب الخير طيبةً نفسُه، مُحتسبًا عند الله أجره، وعند الله أجر كريم.
ولم يبتلِ الله عبادَه بمِثْل ما ابتلاهم في الحضِّ على الإنفاق من أموالهم؛ حتى إنه - جل شأنه - جعله جهادًا عظيمًا يَقترِن ببذل الرُّوح في سبيل الله، ولعلَّه قدَّمه على البنين والأنفس؛ فقال تعالى: ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 46]، وقال - عزَّ اسمه -: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [التوبة: 20]؛ إشارة إلى أنه بلَغ من النَّفْس منزلةً قد تذهب ضحية في سبيله، وتفتديه ببنيها وأعز عزيز لديها، وهذا مُشاهَد في دفاع الإنسان عن ماله أن يُسْلَبه ظلمًا وعدوانًا، فما خرج المال بسخاء وطيب نَفْس إلا ممَّن آثر ما عند الله، وارتجى منه الجزاء الأوفى، وإنَّا لنرى الرجلَ يقوم الليل ويصوم النهار، فإذا ما دُعي إلى إنفاق درهم في خير، أعرض ونأى بجانبه، وكأنه كُلِّف عبئًا ثقيلاً، وأمرًا وبيلاً, وإذا نظرنا إلى تاريخ السابقين الأولين، وجدناهم لم ينالوا ما نالوا إلا بفضل المسابقة إلى الإنفاق في الخير، حتى إن عمر رضي الله عنه جاء في غزوة تبوك بنصف ماله، وأنفق عثمان بن عفان عشرة آلاف دينار وثلاثمائة بعيرٍ بأحلاسها وخمسين فرسًا، ولقد كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم له إذ يقول: ((اللهم ارضَ عن عثمان؛ فإني راضٍ عنه)) خيرًا عنده من هذا كله وعشرة أمثاله، وجاء أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله، وكان إذ ذاك أربعة آلاف درهم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ماذا تركتَ لأهلك يا أبا بكر؟))، فقال: تركتُ لهم الله ورسوله، ولا تنسوا مواقفَ أبي بكر المشهورة في نُصْرة الدِّين بنفسه وماله، وحسْبُه رضي الله عنه شرفًا ما أنزل الله فيه، لَمَّا اشترى بلالاً من أُميَّة بن خلَف وأَعتَقه، فقال الكفار: ما أعتقه إلا ليدٍ كانت له عنده، فكذَّب الله قولَهم، وأبان أنه ما أعتقه إلا ابتغاء وجه ربه؛ فيقول تعالى: ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى ﴾ [الليل: 17 - 21].
وخلاصة المقال في هاتين العلامتين: أن كامِل الإيمان مُطمئنٌّ في حال بؤسه وفقره، لا يَجزَع ولا يَضْجَر، ولا يشكو ولا يَسخَط، بل ربما فضَّل الفقرَ على الغنى، والشدةَ على الرخاء؛ لأنه يرى أن مِن سوء الأدب، وزَلَّة العبودية ألا يرضى ما رضيَه ربُّه واختاره له، وهو شاكر مُنفِق في حال غناه ويُسْره، يؤتي المال على حبِّه قائلاً بيديه هكذا وهكذا؛ ابتغاء مرضاة ربه، فعجبًا لأمره في عسرِه ويُسرِه؛ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم عن أبي يحيى صهيب بن سنان رضي الله عنه: ((عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابتْه سراء شكَر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له)).
والعلامة الثالثة والرابعة: الصدق والمراقبة، وإن شئتم فقولوا: (الإخلاص والمحاسبة)، ترون المؤمن صادق القول وصادق الفعل؛ لا يَكذِب إذا حدَّث، ولا يُخلِف إذا وعد، ولا يخون إذا اؤتمن، ولا يَغدِر إذا عاهَد، يُعطي لله ويَمنع لله، ويحبُّ لله، ويُبغِض لله، قد أحبَّ الله وأحبَّه الله؛ كما أخرج أحمد والطبراني والبيهقي في شُعَب الإيمان عن معاذ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: وجبتْ محبَّتي للمتحابين فيَّ، والمتجالسين فيَّ، والمتباذلين فيَّ، والمتزاورين فيَّ))، ترون المؤمن صادق النية، طاهر السريرة، لا يأتي باطنًا ما لا يرضاه ظاهرًا، ولا يفعل سرًّا ما يَستنكِره جَهْرًا، لا يُشرِك بعبادة ربه أحدًا؛ لأنه علِم أن ربه أغنى الأغنياء عن الشرك، فخاف الرياء خوف العبد الذليل، لربه العَلِي الجليل, أن يُحبِط عملَه ويَكِله إلى مَن سواه، فهو يُخلِص لربه سرًّا وجهرًا، وليتَّهمْ على إخلاص نفسه، ويرى أنه لو رأى الإخلاص منها لراءى، ولو راءى لذهب عملُه هباءً، وما أحوجنا إلى الإخلاص - أيها السادة - في زمن كَثُرت فيه المظاهر، واجتمعت الناس فيه على الظواهر، واغتروا بأنفسهم لما خدعتهم، وغرُّوا غيرهم بزينتهم لما فتَنتهم، وظنُّوا أنهم يُعجِزون العليم الخبير الذي: ﴿ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [المجادلة: 7]، وهو سبحانه في الدنيا فاضحهم ومُخزيهم ومُطلِع هؤلاء الذين غرُّوهم على خبْث نواياهم، وقُبْح طواياهم.
ما أحوجنا إلى الإخلاص - أيها السادة - في زمن تتابعت فيه الفتنُ، وتوالت فيه المحن، وعاد فيه الدِّين غريبًا كما بدأ، وكأنه الذي عناه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ إذ يقول فيما أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي ثَعْلبة: ((ائتمروا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شُحًّا مُطاعًا، وهوًى مُتَّبعًا، ودنيا مؤثَرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك أمرَ العوام، فإن مِن ورائكم أيامًا، الصبرُ فيهنَّ كالقبض على الجمر، للعامل فيهنَّ مِثْل أجر خمسين رجلاً يعملون مِثل عملكم))، وكأن ما نحن فيه من الفتن هو ما عناه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ يقول فيما أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((بادِروا بالأعمال فِتنًا كقِطَع الليل المُظلِم، يُصبح الرجل مؤمنًا ويُمْسي كافرًا، ويُمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا)).
المؤمن يتَّقي الله ويخشاه، ويعلم أن مَن صدَق الله صدقه، ومَن حفِظ الله حفظه، ومن تعرَّف إليه في الرخاء عرَفه في الشدة، وأن مَن توكَّل عليه كان حسْبه ووكيله، وكفى بالله وكيلاً وكفى بالله حسيبًا، يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإنه يعلم سرَّه ونجواه، فيستحي منه حق الحياء، ويتأدَّب معه حقَّ الأدب، ثم هو بعد هذا كله يخاف عقابه، ويرجو ثوابه، ولا يأمن مكره؛ لأنه لا يأمن مكرَ الله إلا القوم الخاسرون، وكيف يأمن مكْر الله وهو لا يدري أتفضَّل الله عليه فقَبِل عملَه، أم سبق في عِلْمه أن يردَّه عليه، وإذا كان إمام المتقين وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم يقول فيما أخرجه البخاري: ((لن يُدخِل أحدَكم عملُه الجنةَ))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمَّدني الله برحمته)).
وإذا كان أبو بكر رضي الله عنه على جلالة قَدْره وعُلوِّ مكانته يقول: "لو وضعتُ إحدى قدميَّ في الجنة والأخرى خارجها، ما أَمِنتُ مكرَ الله ألا أدخلها"، فكيف يرى المؤمن الصادق لنفسه عملاً يضمن عليه جزاءً؟ يؤمن بقول الله: ﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ﴾ [الكهف: 30] إيمانًا حقًّا، ويَعتقِد أن الله أرحم بعبده من الأم الحنون بولدها، ولكن لا يرى نفسه قد أحسنت عملاً وتَستحِق عليه أجرًا.
وربما يَخطُر على بال الكثيرين منكم أن هذه الصفات لا تتحقَّق إلا فيمن انقطع عن الدنيا وتفرَّغ للآخرة، فكيف يَعزُب عنكم أن الدنيا مطيَّة الآخرة والوسيلة إليها؟ وكيف يكون العبد صبورًا شكورًا إلا إذا تقلَّب بين نوائبها فصبر، وأصيب من هناءة عيشها فشكر؟ والدنيا التي تَصلُح للمؤمن ويَصلُح المؤمن لها، هي التي يستعين بها على الآخرة، ويتوسَّل بها إلى السعادة الحقة، فأما التي يتكالب عليها الناس لقضاء مآربهم وإشباع شهواتهم، فالمؤمنون برآء منها وأعداء لها.
وكم من هؤلاء الصادقين مَن أقبلت عليه الدنيا بخيلها ورَجِلها، فلم تُلْهه عن آخرته، ولم تَشغَله عن طاعته، بل كانت له عونًا عليها وخادمًا، وحسبنا بالسابقين الأولين ومَن اهتدى بهديهم شاهدًا، ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النور: 37].
وخاتمة القول في علامات المؤمنين الصادقين: أنهم لا يحزنهم المنعُ، ولا يبطرهم العطاء، ولا تَشغَلهم النعمة عن المُنعم، ولا يَمنعهم ثناء الناس عليهم أن يَستزيدوا من أعمال البِرِّ ويُسارِعوا إليها، وأعمالُهم - على إخلاصهم فيها - لا تحول بينهم وبين أنفسهم أن يتَّهِموها ويستقصروها، وبين الله - جل وعلا - أن يخافوه ولا يأمنوا مكْره، إلا أنهم إذا دنا الأجلُ، وانقطع الأمل، وظنُّوا أنهم ملاقو ربهم، تهلَّلوا واستبشروا، وأحبُّوا لقاءَ الله وظنُّوا به خيرًا، وأيقنوا أنه عند ظنهم به، وقد أحب اللهُ لقاءهم، وكان عند ظنِّهم؛ فأمَّن خوفهم، وحقَّق رجاءهم، وأقرَّ بالبِشارة عيونهم وأمتع قلوبَهم ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾ [فصلت: 30 - 32].
3- أثر الإيمان وآثار المؤمنين:
قدَّمنا أن الإيمان يبدو لمعة بيضاء، فإذا عمِل العبدُ الصالحاتِ، نَمَت فزادت حتى يبيضَّ القلبُ كلُّه، فإذا ابيضَّ القلبُ دخل العبدُ في عِداد المؤمنين الكاملين، وماذا تنتظرون ممَّن شرحوا بالإسلام صدرًا، وامتلؤوا به يقينًا، وكانوا على نور من ربهم، ورُشْد من أمرهم؟
ألستم تَرجون منهم طهارةَ القلب، وسلامة الصدر، وحبَّ الخير وأهله؟ فلا حقد ولا حسد، ولا بُغْض ولا عداوة، ولا فُحْش في القول، ولا رياء في العمل، ولا تعاون إلا على البِرِّ والتقوى لا الإثم والعدوان.
تلك بعض آثار الإيمان بين المؤمنين الكاملين، بل قولوا إن شئتم: إنها بعض شُعَب الإيمان الذي يصدق صاحبه ويدخل في الصَّالحين.
غير أن هناك آثارًا لهؤلاء المؤمنين يَعُم خيرها البلادَ، وتَسعَد بها العباد، ويَنعَم العيش في الدنيا، وتتم السعادة في الآخرة.
ذلك أنهم أحبُّوا الله فجاهدوا فيه حقَّ جهاده، فنشروا الدِّين وآدابه، بأفعالهم قبل أقوالهم، وكانوا كالبنيان يَشُد بعضه بعضًا، فلم يجد أعداء الدين فيهم منفذًا يَصِل منه إليهم، بل بسطوا سلطانهم على أعدائهم، وكانت لهم السيادة العُليا عليهم، كانت الدنيا في قبضة أيديهم، والسعادة تحت أقدامهم، والخير والعدل معهم أينما كانوا وحيثما حَلُّوا، سبيلهم قويمة، وخُطَّتهم حكيمة، وسماؤهم مُغدِقة، وأرضهم مباركة، للفقير حق معلوم، وعلى الغنيِّ سَهْم محتوم، إن مَسَّ أحدَهم ضرٌّ مسَّ الجميعَ؛ لأنه عضو من جسم واحد، وإن أصابه خير أصاب الجميع؛ لأنه فرد من أسرة واحدة، فهل ترون سعادة أتمَّ من هذه السعادة؟ ونِعمة أوفى من تلك النعمة؟ ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].
أيها السادة:
ما بالنا قد ضللْنا الطريقَ وهي واضحة، وأخطأنا السعادة وهي قريبة، وأصبحنا وأمسينا في لغوٍ من القول وبُعْد عن العمل، وكأن بيننا وبين الإخلاص سدًّا منيعًا، وحجابًا كثيفًا؟!
أحبتنا، إن السعادة تُثمِرها ألفاظ تُردِّدها الألسنة، وتخلو من معناها الضمائر، أم غفلنا عن أولئك الذين نصروا الله فنصرهم، وعمَّا أبلَوا في دين الله من البلاء الحسن، وما أوذوا فيه من الإيذاء البليغ؟!
نعم، نسينا كلَّ ذلك، ونسينا أنهم بذلوا المهجَ وأنفقوا النفوسَ، وفارقوا الديار والأوطان والأموال والأولاد، وتحمَّلوا مرارة النَّوى، والبيات على الطوى؛ غَيرةً على دينهم أن يُهان، وحبًّا في إعلاء شأن الإسلام، بل نسينا أننا أُسَراء إحسانهم، وصنائع معروفهم، ووُرَّاث ما خلَّفوا من مجدٍ بَنَوْه، وفضْل نشروه، على بُعْد ما بين السَّلف والخلف، وتَبايُن الوارث والموروث.
ولو أننا ذكرنا من ذلك شيئًا، ما أشقينا أنفسنا بأيدينا، وأضعنا بناء قام على كواهلهم، وشرفًا أُريقت فيه دماؤهم.
وهل تقوم لنا قائمة أو يصلح لنا شأن إلا إذا نبذْنا الرياءَ جانبًا، وأقبلْنا على شؤوننا بعزيمة وقوة، ورددنا تاريخ مجدِنا ومَن أسَّسه، فاقتفينا آثارهم وانتهجنا سبيلَهم، ورعينا الدين رعايتهم، وجاهدنا فيه جهادَهم؟ هنالك نُهدَى الطريق، ونَصِل إلى الغاية، ونفوز بالسعادة، ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69].
[1] أُلقِيت في مساء الاثنين 20 من رجب سنة 1350، 30 من نوفمبر سنة 1931.
[2] اغترَّ بعض الغافلين بأناس طأطؤوا رؤوسهم، وخَفَتوا أصواتهم، وتكلَّفوا مظهر الصلاح والورع، وهم في الحقيقة مَن عثوا في الأرض فسادًا، وأضرُّوا أنفسهم ومَن اغتروا بهم بستار التمويه والتضليل والخداع والرياء، ذلك الستار الذي جعلوه حجابًا بينهم وبين الناس أن يَطَّلِعوا على خبثهم فيَفضحوهم ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 9]، هؤلاء ليسوا مؤمنين إلا في نظر السَّذَجة المفتونين، والبُله الغافلين؛ إذ ليس الإيمان ظواهرَ مصطنعة، ولا أعمالاً مُتكلَّفة، ولا أثوابًا نُسِجت على منوال الرياء والخداع؛ وإنما الإيمان استواء السرِّ والعَلَن، وسلامة الصدر، وطهارة القلب، والحياء من الله في كل مكان، والخشية منه في كل آن ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 2 - 4].
[3] ما دخَل مِن باطن القدم فلم يصب الأرض.
[4] قال أبو السعود: الصائمون؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((سياحة أمتي الصوم))، شبِّه بها لأنه عائق عن الشهوات، أو لأنه رياضة نفسانية يتوسل بها إلى العثور على خفايا الملك والملكوت، وقيل: هم السائحون في الجهاد وطلب العلم ا. هـ.
الشيخ طه محمد الساكت