في غمرةِ احتدام معركة الموصل، وفي ذروة تحشيد كل طرفٍ لأوراقه في معركة حلب وشمالها، وما بينهما وفيهما من دور تركي مباشر، تخريباً وتشويشاً، كان الداخل التركي يشهدُ تطوراتٍ لافتة ومهمة. وكلا البُعدين، الخارجي والداخلي، من «المسألة التركية»، لا ينفصل أحدهما عن الآخر.
وعلى الرغم من سعيها للتدخّل العسكري المُباشر في سوريا تحديداً، من ثم في العراق خلال السنوات الماضية، فإن سلطة رجب طيب أردوغان لم تكن تُظهر تلك العزيمة حتى النهاية. فقد كان مجرد إبداء روسيا وإيران اعتراضهما، ورفض الولايات المتحدة لمثل هذا التدخّل، كافيَين لثني تركيا عن هذا السعي، من دون أن تطويه.
لكن المُفارقة هي في أن هذه الحماسة التركية المُستجدّة غير المعهودة وغير المسبوقة لترجمة طموحاتها، لم تحصل إلا بعد تعرّض تركيا لخضّات سياسية وأمنية داخلية كبيرة تمثّلت تحديداً في المحاولة الانقلابية العسكرية في 15 تموز الماضي من جهة، وتوتّر العلاقات التركية ـ الأميركية بعد اتهام أنقرة لواشنطن بأنها ضالعةٌ في المحاولة الانقلابية من جهة ثانية. أي إن الظروف الموضوعية، الداخلية والخارجية، لم تكن مؤاتية لقيام تركيا بتدخّل عسكري كبير على غرار عملية «درع الفرات»، ولا بالتهديد العالي السقف تجاه الموصل. على الرغم من ذلك، فقد كان فشل الانقلاب العسكري مفصلياً في تحديد بوصلة التطوّرات الداخلية والخارجية في اتجاهات لا يُمكن التنبؤ بنتائجها على مجمل الجغرافيا السياسية التركية.
تنحو التطوّرات الداخلية في هذه المرحلة في اتجاهات أكثر تطرّفاً مما كانت عليه قبل الانقلاب. وإذا كان اتهام جماعة فتح الله غولن بالوقوف وراء الانقلاب ذريعةً للانتقام من هؤلاء، فإن التدابير التي تشهدُها تركيا تتجاوز ردّة الفعل على انقلاب، لتطال عملياً كل خصوم رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان.
1- النظام الرئاسي والحريات
كان مفهوماً إلى حد ما، لا كُلياً، أن تُبادر سلطة حزب «العدالة والتنمية» إلى تصفية المؤسسات التابعة لفتح الله غولن، ومنها الصحف ومحطات التلفزيون الموالية له، ولا سيما صحيفة «زمان». لكن انتقال حملةِ التصفية إلى مؤسسات إعلامية لا علاقة لها البتة بغولن، بل معادية له، مثل صحيفة «اوزغور غونديم» الكردية، وصحيفة «جمهورييت»، العلمانية، يُعطي الحملةَ أبعاداً تتخطّى كل مُبرّراتها الأولى، لتطال النسيج الاجتماعي على مستوى تركيا وبنية النظام السياسي ككل. إذ إن تركيا بلا صحف مثل «زمان» و «أوزغور غونديم» و «جمهورييت»، مؤشر كبير جداً على أنها في طريقها للذهاب إلى موقع آخر، قد يفتح على احتمالات سلبية على وحدتها الداخلية من جهة، وعلى سلوكياتها الخارجية من جهة أخرى.
الذهنية التي تحكُم تركيا الآن، ولا سيما بعد الانقلاب العسكري، هي الاستئثار الكامل بكل مفاصل السلطة. ويُمكن لذلك أن يتأتى عبر الآليات الموجودة حالياً، ومنها النظام البرلماني، وقد نجح أردوغان، منذ أن أصبح رئيساً للجمهورية، في ذلك، عبر فرض أمر واقع يجعل بحكم القوة موقع رئيس الجمهورية هو الأقوى بل الأوحد في السلطة.
لكن أردوغان لا يريد الاكتفاء بذلك، وهو يسعى لتشريع ذلك عبر تغيير النظام إلى نظام رئاسي.
والنظام الرئاسي ليس صيغةً سيئة كما هو الحال في الولايات المتحدة، أو نصف الرئاسي كما هو الحال في فرنسا، لكن لكل من هذين النموذجين ضوابطه في مجلس النواب والشيوخ، وفي السلطة القضائية المستقلّة وحرية التعبير والصحافة واحترام الهويات الثقافية الإثنية والدينية والمذهبية.
وحين نُدقّق في الواقع التركي، نجد أن كل هذه الضوابط غائبة وغير متوفّرة، ولا يُمكن توفّرها في المدى المنظور، بما يعني أن نظاماً رئاسياً في ظلّ غياب هذه الضوابط ليس سوى عنوان صارخ للاستبداد بكل معنى الكلمة. وأردوغان نفسه، كان أشار السنة الماضية إلى أن النموذج الرئاسي الذي في ذهنه، هو ما كان سائداً في ألمانيا في عهد هتلر.
يوم الثلاثاء الماضي، قال رئيس حزب «الشعب الجمهوري» كمال كيليتشدار اوغلو إن نظام أردوغان هو نسخةُ القرن الحادي والعشرين من نموذج هتلر. وأضاف أنه «لا يُوجد اليوم نظام كهذا في العالم: أردوغان يريد تعيين المُحافظين، ويريد تعيين القضاة، ويريد أن يقول الأمر لي وحدي، ويريد أن يتفرّد بكل شيء. هذا ليس موجوداً في كل العالم إلا في النظام الهتلري الذي أغرق العالم بالدماء».
تُختصر حقبة حزب «العدالة والتنمية» في الآونة الأخيرة، بأنها الأكثر قمعاً للحريات والأكثر بطشاً بالهويات الأقلوية، والأكثر مذهبية في الداخل والخارج، والأكثر عدوانية في الخارج. حقبةٌ غير مسبوقة من كل النواحي.
كان يُعتقد في تركيا أن أردوغان يُمكن أن يُغلق كل المؤسسات الإعلامية، لكنه لن يجرؤ على المسّ بـ «جمهورييت». صحيح أنها لم تُغلق بعد، ولكنها بحكم المُعطّلة والمسلّط عليها سيف قطع الرقاب. كان يُعتقد أن صحيفة «جمهورييت» يحميها أنها كانت دائماً صوت العلمانية الأقوى، وبالتالي صوت المؤسسة العسكرية. لكن بعد انقلاب تموز، انكسر «الفيتو» العسكري في كل المجالات. لكن هذا لا يعني أن هذا «الفيتو» طُوي إلى الأبد، ومحاولة انقلاب 15 تموز مثال على ذلك. مع ذلك، فإن الأتراك مُطالبون بالبحث عن وسائل أخرى أكثر نجاعة وتأثيراً في تغيير التوازنات الداخلية المُختلّة والمُعتلة وتخرجهم من المرحلة الظلامية الأسوأ في تاريخهم.
قبل انتخابات الأول من تشرين الثاني الماضية، التي أعادت «العدالة والتنمية» إلى السلطة بقوّة القتل والترويع لا بقوة صناديق الاقتراع، وجّه قادة هذا الحزب تهديدات واضحة بأنه بعد الانتخابات سوف تنال صحف «زمان» و «حرييت» و «جمهورييت» وغيرها عقابها.
فاز الحزب، ونالت صحيفة «زمان» عقابها بتأميمها، ومن بعد الانقلاب إغلاقها نهائياً. أما صحيفة «حرييت»، فقد خضعت، وأصبحت تابعة لأردوغان، وقد استقال قبل فترة وجيزة رئيس مجلس إدارتها الذي تبيّن أنه كان يكتب تقارير سريّة إلى المحيطين برئيس الجمهورية. فيما صحيفة «أوزغور غونديم» المؤيدة لـ «حزب العمال الكردستاني» نالت نصيبها بعد الانقلاب، واعتقل كُتّابها، ومنهم الروائية المعروفة أصلي آيدوغان، وأغلقت. أما صحيفة «جمهورييت»، فقد كانت تنتظر الظرف المُناسب لتطالها يد العقاب الأردوغانية، وهي قد جاءت اليوم. «جمهورييت» ليست مع فتح الله غولن، وهي ليست مع «العمال الكردستاني». ومن لم يكن قد اعتُقل بعد الانقلاب مُباشرة، ها هو يعتقل اليوم. بعد اعتقال كبار الكتاب، مثل علي بولاتش وأصلي آيدوغان وممتازير توركينيه وشاهين ألباي والأخوين محمد وأحمد ألتان ونازلي إيليجاق، ها هو الدور يصل إلى الكاتب المعروف قدري غورسيل و13 كاتباً آخر في «جمهورييت».
الكلّ ينتظر دوره. الأبواب سُدّت كلّها. العشرات من كبار الكُتّاب في السجن أو في المنفى. ومن لا يزال يكتب متحدّياً، فليس سوى مشروع اغتيال أو سجن أو نفي أو كتم للصوت أو شراء للضمير. لذا لم تتردّد الروائية أصلي آيدوغان في أن تكتب من زنزانتها في سجن باقر كوي في اسطنبول «نداءً عاجلاً جداً»، تُحذّر فيه من أن الوضع في تركيا «خطير جداً ومخيف جداً ومقلق إلى أقصى درجة»، مضيفة أنني «واثقة من أن النظام التوتاليتاري في تركيا، سيطال بارتداداته أوروبا. نحن الآن من صحافيين وكتاب وعلويين وكرد وديموقراطيين ندفع الثمن، وعلى أوروبا التي دفعت دماً من أجل قيم الحرية والديموقراطية أن تتحمّل مسؤوليتها تجاه ما يجري في تركيا».
2- المسألة الكردية
ومن الحريّات إلى المسألة الكردية التي تتعرّض داخل تركيا، ومن دون مبالغة، إلى إبادة واسعة. النواب الكرد في حزب «الشعوب الديموقراطي» قيد المُساءلة القضائية ورفع الحصانة والتحقيق والطلب لهم بالسجن. أحد عشر نائباً اقتيدوا، فجر أمس، من منازلهم للتحقيق بتهمة دعم الإرهاب، ومن بينهم رئيسا الحزب صلاح الدين ديميرطاش وفيغين يوكسيك داغ ورئيس كتلة الحزب في البرلمان ادريس بالوقين. أما رؤساء البلديات، فقيد التسريح والاعتقال، آخرهم رئيسة بلدية المدينة الكردية الأكبر ديار بكر غولتان قيشاناق. انقلاب كامل على صندوقة الاقتراع التي طالما اعتبرها أردوغان معياراً للديموقراطية.
وعلى الأرض، فقد شهدت كردستان تركيا حملة تدمير مُمنهجة للمدن والأحياء لم تعرفها حتى في أحلك تاريخها. وهذا، للأسف الشديد، في ظلّ سلطة تقول إنها إسلامية وإصلاحية! لم تبق عائلة لم يُعتقل منها فرد أو لم يسقط منها شهيد على يد قوات النظام. لم يبق منزل لم تُصبه شظايا القذائف، هذا فيما دُمّرت أحياء بكاملها في أكثر من مدينة.
هذه هي الطريق الأقصر للنظام الرئاسي، وهي الطريق الأقصر إلى تشديد واستقطاب النزعة القومية. وهو ما يدفع برئيس الحركة القومية دولت باهتشلي لتأييد النظام الرئاسي، وليكون كالعادة المُنقذ لأردوغان في كل محطاته. أما حزب «الشعب الجمهوري» فلا يزال غارقاً في جموده وعجزه عن المواجهة التي تضيق فرصها أمامه، فينخدع حيناً وينخرط في المؤامرة على الكرد حيناً آخر. فهو أساساً لم يُقدّم أي مشروع لحلّ المشكلة الكردية ولا يعرف أحد، حتى آينشتاين، ما الذي يُريده سوى أن موقفه المُتفرّج يُسهّل تمرير مشروع تصفية الهوية الكردية.
كل الدروب تؤدي إلى طاحونة النظام الرئاسي، وعلى الطريقة التركية. وما هو متوقّع أن يمرّ مشروع النظام الرئاسي في البرلمان بتأييد نواب حزب «الحركة القومية»، إضافة إلى حزب «العدالة والتنمية»، ليُطرح المشروع على استفتاءٍ شعبي في الربيع المُقبل. وإذا لم يصحّ هذا السيناريو، فإن البلاد ذاهبة إلى انتخابات نيابية مُبكّرة.
يقول نائب رئيس الحكومة نعمان قورتولموش إن «سلطة قوية وإدارة قوية تتطلّب نظاماً رئاسياً». وفي ظلّ إنكار الحرّيات واستقلالية القضاء وقمع الهويات، فإن نظاماً رئاسياً ليس سوى تشريعٍ لانقلاب يُكرّس سلطة الاستبداد للزعيم الأوحد. ولا يقع التلويح بإعادة عقوبة الإعدام وشمولها عبد الله أوجلان، سوى في خانة المزيد من الترويع والترهيب.
لقد انتهت الجمهورية العلمانية السابقة، وانطفأت أحلام أن تقترب تركيا من المعايير الأوروبية ولو بحدّها الأدنى، وجاءت جمهورية الاستبداد التي تتفوّق حتى على سلطنة الاستبداد العثماني. ولم تكن تُهمة الانتماء إلى فتح الله غولن سوى الذريعة التي تستهدف تصفية كل المُكوّنات الكردية والعلوية والقوى الديموقراطية والعلمانية.
حتى المُغامرات الخارجية في سوريا والعراق لـ «قبضاي قاسم باشا»، كما يُطلق على أردوغان الذي وُلد في حي قاسم باشا المُعروف بقبضاياته في الستينيات والسبعينيات، فإن أحد أهدافها الرئيسية، خلا الأطماع التاريخية، إعطاء المزيد من الزخم لمأسسة الاستبداد السلطوي الذي ربما يؤدي إلى عكس ما يصبو إليه، سواء في الداخل أو في الخارج. فالعراقيون يكسرون اليوم بلطجة القبضاي في الموصل وتلعفر، والسوريون يُكسّرون موجات إرهابيي «القبضاي» على أبواب حلب. أما الصراخ والتهديدات، فليس دليل قوة وفقاً للقيادية في «الكردستاني» هوزات بوسيه التي تقول إن «أردوغان ليس قوياً بمقدار ما يصرخ. إنه يصرخ من ضعفه. وعندما تنزل الملايين إلى الشوارع، فسيبحث عن مكان يهرب إليه».