بدأت تصريحات أطراف مختلفة حول التحضير للمرحلة الثانية من "الحملة" الأمريكية على سوريا، والحديث عن دور هذا الطرف أو ذاك.
الولايات المتحدة تتصرف كما لو كانت بمفردها في الساحة، فهي ترفض التعاون مع روسيا من جهة، وتقلل من شأن شركائها في التحالف من جهة أخرى، برسم دور هذه الدولة أو تلك، والتعامل بعنجهية لتهميش دور هذا الحليف أو ذاك، فوزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر أعلن أن معركة استعادة السيطرة على مدينة الرقة لن تكون سهلة، وفي الوقت نفسه، أعلنت "قوات سوريا الديموقراطية" عن إطلاق عملية عسكرية لتحرير المدينة، مع التوصل إلى "اتفاق نهائي مع التحالف الدولي على عدم وجود أي دور لتركيا أو للفصائل المسلحة المتعاونة معها في العملية".
ولكن تركيا، كما أشرنا في مقالات سابقة، تتصرف بحرية وانسيابية شديدتين في كل من سوريا والعراق، رغم الكثير من التصريحات المتناقضة تارة، والساخنة تارة أخرى. وأكدت أكثر من مرة معارضتها إشراك وحدات "قوات سوريا الديمقراطية" في تحرير الرقة، ومحذرة في الوقت نفسه السلطات الأمريكية من التحول إلى "دولة تدعم الإرهاب" عبر التعاون مع قوات كردية.
ولكن هناك تلميحات أمريكية بأن دور تركيا يمكن أن يكون هامشيا أو نقيدا، أو حتى مشروطا، بمعنى أن واشنطن يمكن أن تعطي ضمانات ما لتركيا بتحجيم دور الأكراد في حال عدم مشاركة القوات التركية في تحرير الرقة، غير أن المسألة أخطر من ما يظهر على السطح، إذ أن تركيا لا تقوم بما تقوم به من أجل أهداف آنية أو قصيرة النظر.
إن تركيا تعمل على المديين المتوسط والطويل، لأنها ببساطة وبصرف النظر عن مصالح الولايات المتحدة وحلف الناتو وأي دولة أخرى بعيدة أو قريبة من سوريا والعراق، تري أن من حقها خوض معارك متعددة في البلدين لا من أجل مكافحة داعش فقط، بل للقضاء على معارضيها وامتداداتهم في الدول المجاورة، وحماية فصائل معينة تم الاتفاق على دعمها وتدريبها وتمويلها من أجل القيام بمهمات مؤجلة، أو بأدوار لشرعنة تدخل الولايات المتحدة ودول التحالف الأمريكي.
لقد أجرى رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية جوزيف دانفورد لقاء مع نظيره التركي خلوصي أكار في العاصمة التركية أنقرة. ويبدو أن الحديث دار حول فرص مواصلة القوات التركية هجماتها على المدن والقرى السورية في الشمال، وكذلك حول دور تركيا في تحرير الرقة. لا شك أن واشنطن بحاجة إلى تعاون من جانب أنقرة في ما يتعلق بالغطاءات الجوية التي يجب أن توفرها لمسلحي "الجيش الحر" أيضا، والذي يمثل، إلى جانب فصائل وتنظيمات أخرى، أمل التحالف الأمريكي في القيام بدور رئيسي في ما بعد ضد دمشق نفسها.
التصريحات والإعلانات تتضارب حول من الذي سيدير مدينة الرقة في حال تحريرها. فقوات سوريا الديمقراطية قالت إنها ستحرر المدينة، وستغادرها على الفور!
هذا التصريح إما إنه عن جهل وعدم دراية بالتكتيكات العسكرية، أو باتفاق مع أطراف أخرى لأداء أدوار معينة بعد تحرير المدينة. ومن جهة أخرى، لا تتحدث الولايات المتحدة ولا دول تحالفها عن حماية المدينة وإدارتها بعد التحرير. بينما أوضح مساعد رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية لشؤون العلاقات العامة والإعلام النقيب غريغوري هيكس أن رئيسي الأركان الأمريكي والتركي تحدثا حول خطط التعاون بعيدة الأمد، واتفقا على القيام بتنسيق وثيق حول خطط التحالف بشأن تحرير الرقة والحفاظ على السيطرة عليها. هنا يظل السؤال يتكرر: من نصيب من ستكون مدينة الرقة؟ وهل ستنشأ تناقضات ما بين أطراف ما تقود إلى احتكاكات عسكرية بسبب السيطرة على الرقة وحمايتها وإدارتها؟
لا أحد يعرف بالضبط، هل نجحت واشنطن في إقناع أنقرة، أم ستبدأ بممارسة ضغوط عليها، أم ستجد حلا وسطا لكي لا تبتعد تركيا أكثر عن التحالف أو تتسبب في ظهور عوائق ما. وهل فعلا تراجعت تركيا عن تصريحاتها وتحذيراتها النارية بشأن الأكراد؟ فوزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو شدد أكثر من مرة على أن الجانب التركي لن يدعم مبادرة شن عمليات عسكرية واسعة النطاق من أجل تحرير الرقة إلا في حال تنفيذها من دون إشراك أية قوات كردية، بما فيها التابعة لحزب "الاتحاد الديمقراطي"، الذي يشكل عماد تحالف "قوات سوريا الديمقراطية". وإذا كانت أنقرة قد تراجعت، فمقابل أي شئ بالضبط، مع العلم بأن نائب رئيس الحكومة التركية أعلن بعد لقاء رئيسي الأركان الأمريكي والتركي بأن "سيطرة العناصر غير العربية على الرقة أمر غير مقبول"؟!
بصرف النظر عن التناقضات بين بعض أعضاء التحالف الأمريكي، وبصرف النظر عن التصريحات "الفارغة" حول وحدة أراضي سوريا، فإن أطرافا دولية وإقليمية بعينها لم يعد أمامها أي وسائل أخرى، إلا عملية التقسيم على الأرض من أجل إقرارها على الورق في ما بعد.