الحمد لله الذي خلّص قلوب عباده المتقين من ظُلْم الشهوات ، وأخلص عقولهم عن ظُلَم الشبهات
أحمده حمد من رأى آيات قدرته الباهرة ، وبراهين عظمته القاهرة ، وأشكره شكر من اعترف بمجده وكماله
واغترف من بحر جوده وأفضاله وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر الأرضين والسماوات ، شهادة تقود قائلها إلى الجنات
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، والمبعوث إلى كافة البريات ، بالآيات المعجزات
والمنعوت بأشرف الخلال الزاكيات صلى الله عليه وعلى آله الأئمة الهداة ، وأصحابه الفضلاء الثقات
وعلى أتباعهم بإحسان ، وسلم كثيرا
أما بعد :
فإن اصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هديمحمد صلى الله عليه وسلم ،وشر الأمور محدثاتها،
وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار
ــــ أعاذنا الله وإياكم من النار ـ
الوصية بالذكر.. نداء من العلياء
كتبه سعيد صابر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
يقول الله -جلَّ وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا . وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا . هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا . تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (الأحزاب:41-44).
- أعلى الذكر وأسماه حضور المذكور في قلب الذاكر، ثم التعبير عن ذلك باللسان، ودون ذلك أن نذكر الله بقلوبنا دون ألسنتنا، ودون ذلك أن نذكر بطرف الألسنة بينما القلوب ساهية لاهية، ودون الكل أن نهوي في براثن الغفلة، أو أن نبتدع أذكارًا وأورادًا، ونجعل لها من عندنا أعدادًا، ونحدد لها أوقاتـًا، ونجلس لها في حلقات تسمى ظلمًا وزورًا: "حلقات الذكر"، وما هي إلا: "حلقات الغفلة".
فإذا كانت هذه مراتب الذكر، وتبيَّن كيف أنه عمل قلبي بالدرجة الأولى؛ فكن -أخي- ذاكرًا الله بقلبك قبل لسانك وأنت تردِّد هذه الأذكار العظيمة؛ فإذا قلت: "الله أكبر"؛ فاستحضر عظمة الله وجلاله، وإذا قلت: "لا إله إلا الله"؛ فاشهد وحدانية الله وتفرده بالإلهية، وإذا قلت: "الحمد لله"؛ فتذكر منة الله، وسوالف الإحسان، وفلول الآلاء، وبحار النعم؛ فهذا هو الذكر الحقيقي الذي تحيا به القلوب، وتسمو به الأرواح.
- والذكر على يُسره وسهولته لـَمِن أشرف الأعمال وأجل القربات؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: (أحب الأعمال إلى الله أن تموتَ ولسانُك رَطْبٌ من ذِكْرِ الله) (رواه الطبراني وابن حبان، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ). قَالُوا: "وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟"، قَالَ: (الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ) (رواه مسلم)، وقال -تعالى-: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب:35)، وفي الحديث: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ) (رواه الترمذي والنسائي، وصححه الألباني).
قال سيد الذاكرين -صلى الله عليه وسلم-: (أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ)، قَالُوا: "بَلَى"، قَالَ: (ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
- الذكر من أعظم أسباب الثبات ورباطة الجأش، وهو قرين الفلاح وتوأمه، وظله الظليل الذي لا يفارقه، كل ذلك تجده في قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال:45).
- الذكر من غراس الجنة: يقول -صلى الله عليه وسلم-: (لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلاَمَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
- الذكر منجاة من الغيبة واللعنة والخسران؛ ففي الحديث: ( أَلاَ إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالاَهُ، وَعَالِمًا، أَوْ مُتَعَلِّمًا ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
- الذكر أمان من النفاق في الدنيا، وأمان من الحسرة يوم القيامة؛ وإلا فما جلس قوم مجلسًا لا يذكرون الله فيه إلا كان ذلك المجلس المشئوم عليهم حسرة يوم القيامة، وقد قال الله -تعالى- في معرض الكلام عن المنافقين: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } (النساء:142).
- الذكر حياة القلوب والأبدان والأرواح، والغفلة سم قاتل ووباء مدمِّر؛ يقول -عليه الصلاة والسلام-: (مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ) (متفق عليه)، ولما اشتكت إليه فاطمة -رضي الله عنها- ما تعانيه وتقاسيه من الطحن والسعي وخدمة البيت، وسألته خادمًا يعينها؛ أحالها إلى الذكر، وقال لها ولزوجها: ( أَلاَ أُعَلِّمُكُمَا خَيْرًا مِمَّا سَأَلْتُمَانِي؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا تُكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، وَتُسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَتَحْمَدَا ثَلاَثَةً وَثَلاَثِينَ، فَهْوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ) (متفق عليه).
- ذكر الناس داء، وذكر الله دواء:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحيانـًا فننتكس
قال بعض السلف: "ما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا الآخرة إلا بعفوه، ولا الجنة إلا برؤيته".
وقال غيره: "ما تلذَّذ المتلذذون بمثل ذكر الله"، ومن ثمَّ كان الذكر أنيسهم وجليسهم في حلهم وترحالهم، وكان شعارهم:
والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وذكـرك مـقـرون بأنفاسي
ولا جـلسـت إلـى قـوم أحـدثـهـم إلا وأنت حديثي بين جُلاسي
- يكفي الذاكرون شرفـًا: أن الله جلَّ في علاه يذكرهم: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } (البقرة:152).
- يكفي الذاكرون عزًّا ومنعة: أنهم في معية الله: (أَنَا مَعَ عَبْدِي حَيْثُمَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
- يكفي الذاكرون ربحًا ومغنمًا: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: "لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكُ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيُّ لا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ -أي مليونـًا من الحسنات، وليس ذلك فقط، بل- وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ -وليس ذلك فقط، بل- وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
فهلم إلى هذه الأرباح وحي على هذا الفلاح
- نعمة الأمن نعمة من أجلِّ النعم التي يمن الله بها على من يشاء من عباده؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
وهذا الأمن وتلك السكينة ليس لنا إليهما من سبيل إلا إذا كنـُّا مؤمنين بالله، ذاكرين له: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام:82)، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد:28)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) (رواه مسلم).
- هذا وإذا كان يوم القيامة يومًا عصيبًا رهيبًا فيه:{ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } (الحج:2)؛ فإن خير ما نتقي به شر هذا اليوم أن نكون في زمرة الذاكرين؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا عَمِلَ آدَميُّ عَمَلاً قَطُّ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
- وهذا لو كان هذا الذكر مصحوبًا بدمع الخشية؛ ففي الحديث: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ... )، سابعهم: (وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) (متفق عليه).
- هذا ومن أجلِّ أنواع الذكر أن تذكر الله بذكر نعمه وآلائه، وأجلها نعمة الإسلام، وبعثة محمد -صلى الله عليه وسلم-: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } (آل عمران:164).
- ومن الذكر: النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله -تعالى-.
- ومن الذكر: المراقبة، وهو أن تستحضر مراقبة الله، وقربه منك، ونظره إليك، وهذا من أعظم أسباب الاستقامة؛ قيل لبعض السلف: "بِمَ أستعين على غض البصر؟"، قال: "بعلمك أن نظر الله إليك يسبق نظرك لمن تنظر إليه".
فإذا ما خـلوت بـريـبة في ظلمة والنفس داعية إلى العصيانِ
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
الذكر.. الذكر أيها الأحبة؛ فإنه وظيفة العمر:
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إن الله لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدًّا معلومًا غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدًّا ينتهي إليه، يقول -تعالى-: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (آل عمران:190-191)"؛ ولذلك كان سيد الذاكرين يذكر الله على كل أحيانه، حتى كان يذكره وهو نائم: (إنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ، وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي) (متفق عليه).
اللهم إنا نعوذ بك من القسوة والغفلة، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، والحمد لله رب العالمين.
أحمده حمد من رأى آيات قدرته الباهرة ، وبراهين عظمته القاهرة ، وأشكره شكر من اعترف بمجده وكماله
واغترف من بحر جوده وأفضاله وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر الأرضين والسماوات ، شهادة تقود قائلها إلى الجنات
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ، والمبعوث إلى كافة البريات ، بالآيات المعجزات
والمنعوت بأشرف الخلال الزاكيات صلى الله عليه وعلى آله الأئمة الهداة ، وأصحابه الفضلاء الثقات
وعلى أتباعهم بإحسان ، وسلم كثيرا
أما بعد :
فإن اصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هديمحمد صلى الله عليه وسلم ،وشر الأمور محدثاتها،
وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار
ــــ أعاذنا الله وإياكم من النار ـ
الوصية بالذكر.. نداء من العلياء
كتبه سعيد صابر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
يقول الله -جلَّ وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا . وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا . هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا . تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (الأحزاب:41-44).
- أعلى الذكر وأسماه حضور المذكور في قلب الذاكر، ثم التعبير عن ذلك باللسان، ودون ذلك أن نذكر الله بقلوبنا دون ألسنتنا، ودون ذلك أن نذكر بطرف الألسنة بينما القلوب ساهية لاهية، ودون الكل أن نهوي في براثن الغفلة، أو أن نبتدع أذكارًا وأورادًا، ونجعل لها من عندنا أعدادًا، ونحدد لها أوقاتـًا، ونجلس لها في حلقات تسمى ظلمًا وزورًا: "حلقات الذكر"، وما هي إلا: "حلقات الغفلة".
فإذا كانت هذه مراتب الذكر، وتبيَّن كيف أنه عمل قلبي بالدرجة الأولى؛ فكن -أخي- ذاكرًا الله بقلبك قبل لسانك وأنت تردِّد هذه الأذكار العظيمة؛ فإذا قلت: "الله أكبر"؛ فاستحضر عظمة الله وجلاله، وإذا قلت: "لا إله إلا الله"؛ فاشهد وحدانية الله وتفرده بالإلهية، وإذا قلت: "الحمد لله"؛ فتذكر منة الله، وسوالف الإحسان، وفلول الآلاء، وبحار النعم؛ فهذا هو الذكر الحقيقي الذي تحيا به القلوب، وتسمو به الأرواح.
- والذكر على يُسره وسهولته لـَمِن أشرف الأعمال وأجل القربات؛ يقول -صلى الله عليه وسلم-: (أحب الأعمال إلى الله أن تموتَ ولسانُك رَطْبٌ من ذِكْرِ الله) (رواه الطبراني وابن حبان، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ). قَالُوا: "وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟"، قَالَ: (الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ) (رواه مسلم)، وقال -تعالى-: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب:35)، وفي الحديث: (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ) (رواه الترمذي والنسائي، وصححه الألباني).
قال سيد الذاكرين -صلى الله عليه وسلم-: (أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ)، قَالُوا: "بَلَى"، قَالَ: (ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
- الذكر من أعظم أسباب الثبات ورباطة الجأش، وهو قرين الفلاح وتوأمه، وظله الظليل الذي لا يفارقه، كل ذلك تجده في قوله -تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال:45).
- الذكر من غراس الجنة: يقول -صلى الله عليه وسلم-: (لَقِيتُ إِبْرَاهِيمَ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِي، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَقْرِئْ أُمَّتَكَ مِنِّي السَّلاَمَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ الْجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ الْمَاءِ، وَأَنَّهَا قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
- الذكر منجاة من الغيبة واللعنة والخسران؛ ففي الحديث: ( أَلاَ إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلاَّ ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا وَالاَهُ، وَعَالِمًا، أَوْ مُتَعَلِّمًا ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
- الذكر أمان من النفاق في الدنيا، وأمان من الحسرة يوم القيامة؛ وإلا فما جلس قوم مجلسًا لا يذكرون الله فيه إلا كان ذلك المجلس المشئوم عليهم حسرة يوم القيامة، وقد قال الله -تعالى- في معرض الكلام عن المنافقين: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } (النساء:142).
- الذكر حياة القلوب والأبدان والأرواح، والغفلة سم قاتل ووباء مدمِّر؛ يقول -عليه الصلاة والسلام-: (مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ) (متفق عليه)، ولما اشتكت إليه فاطمة -رضي الله عنها- ما تعانيه وتقاسيه من الطحن والسعي وخدمة البيت، وسألته خادمًا يعينها؛ أحالها إلى الذكر، وقال لها ولزوجها: ( أَلاَ أُعَلِّمُكُمَا خَيْرًا مِمَّا سَأَلْتُمَانِي؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا تُكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، وَتُسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَتَحْمَدَا ثَلاَثَةً وَثَلاَثِينَ، فَهْوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ) (متفق عليه).
- ذكر الناس داء، وذكر الله دواء:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحيانـًا فننتكس
قال بعض السلف: "ما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا الآخرة إلا بعفوه، ولا الجنة إلا برؤيته".
وقال غيره: "ما تلذَّذ المتلذذون بمثل ذكر الله"، ومن ثمَّ كان الذكر أنيسهم وجليسهم في حلهم وترحالهم، وكان شعارهم:
والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وذكـرك مـقـرون بأنفاسي
ولا جـلسـت إلـى قـوم أحـدثـهـم إلا وأنت حديثي بين جُلاسي
- يكفي الذاكرون شرفـًا: أن الله جلَّ في علاه يذكرهم: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } (البقرة:152).
- يكفي الذاكرون عزًّا ومنعة: أنهم في معية الله: (أَنَا مَعَ عَبْدِي حَيْثُمَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
- يكفي الذاكرون ربحًا ومغنمًا: قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ: "لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَحْدَهُ لا شَرِيكُ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيُّ لا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ -أي مليونـًا من الحسنات، وليس ذلك فقط، بل- وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ -وليس ذلك فقط، بل- وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
فهلم إلى هذه الأرباح وحي على هذا الفلاح
- نعمة الأمن نعمة من أجلِّ النعم التي يمن الله بها على من يشاء من عباده؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
وهذا الأمن وتلك السكينة ليس لنا إليهما من سبيل إلا إذا كنـُّا مؤمنين بالله، ذاكرين له: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام:82)، {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد:28)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ) (رواه مسلم).
- هذا وإذا كان يوم القيامة يومًا عصيبًا رهيبًا فيه:{ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } (الحج:2)؛ فإن خير ما نتقي به شر هذا اليوم أن نكون في زمرة الذاكرين؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا عَمِلَ آدَميُّ عَمَلاً قَطُّ أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
- وهذا لو كان هذا الذكر مصحوبًا بدمع الخشية؛ ففي الحديث: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ... )، سابعهم: (وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) (متفق عليه).
- هذا ومن أجلِّ أنواع الذكر أن تذكر الله بذكر نعمه وآلائه، وأجلها نعمة الإسلام، وبعثة محمد -صلى الله عليه وسلم-: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ } (آل عمران:164).
- ومن الذكر: النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله -تعالى-.
- ومن الذكر: المراقبة، وهو أن تستحضر مراقبة الله، وقربه منك، ونظره إليك، وهذا من أعظم أسباب الاستقامة؛ قيل لبعض السلف: "بِمَ أستعين على غض البصر؟"، قال: "بعلمك أن نظر الله إليك يسبق نظرك لمن تنظر إليه".
فإذا ما خـلوت بـريـبة في ظلمة والنفس داعية إلى العصيانِ
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
الذكر.. الذكر أيها الأحبة؛ فإنه وظيفة العمر:
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إن الله لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدًّا معلومًا غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدًّا ينتهي إليه، يقول -تعالى-: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } (آل عمران:190-191)"؛ ولذلك كان سيد الذاكرين يذكر الله على كل أحيانه، حتى كان يذكره وهو نائم: (إنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ، وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي) (متفق عليه).
اللهم إنا نعوذ بك من القسوة والغفلة، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، والحمد لله رب العالمين.