السؤال :
أريد أن أكون مسلماً حقيقاً لذا أضع هذا السؤال: ما الداعي للإلتزام بالإسلام ؟ بعبارة أخرى ، هب أني كنت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يدعو إلى هذا الدين ، فما الذي يدفعني إلى تصديق رسالته وما جاء به من كتاب وسنة؟ كما أني لا أفهم التحدي القرآني " فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين.." ، فالذي أفهمه أن مَن أتى بكتاب ما في فنٍ ما فإنه يشبه كتاباً أخر في نفس الفن ، وإن خالفه في بعض الجزئيات ، فما وجه الإعجاز في القرآن ؟ قد يبدوا غريباً أن يصدر هذا السؤال من شخص مسلم ، ولكن الله أعلم بنيتي .
الجواب :
الحمد لله
إن الأدلة على صحة دين الإسلام ، وصدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة لا تكاد تنحصر ؛ وهذه الأدلة كافية لإقناع كل منصف عاقل باحث عن الحق بتجرد وإخلاص ، ويمكن إجمال بعض من هذه البراهين فيما يلي :
أولاً : دلالة الفطرة : فإن دعوة الإسلام هي الموافقة للفطرة السوية ، وإلى ذلك أشار قول الله عز وجل : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) الروم/30 .
وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ) .
أخرجه البخاري (1358) ، ومسلم (2658) .
وقوله ( تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ ) أي كما تولد البهيمة مجتمعة الأعضاء وسليمة من النقص ، وما يحدث لها من قطع الأذن أو غيرها فيكون بعد ولادتها .
وهكذا كل إنسان يولد مفطور على الإسلام ، وأي انحراف عن الإسلام فهو خروج عن الفطرة ولا شك ، ولذلك فإننا لا نجد شيئًا من تعاليم الإسلام يخالف الفطرة قط ، بل كل الأحكام العقدية والعملية موافقة للفطرة السليمة السوية ، أما ما سوى الإسلام من أديان واعتقادات فتشتمل على ما يخالف الفطرة ، وهذا أمر ظاهر بيّن عند التأمل والتدبر .
ثانيًا : البراهين العقلية :
أكثرت نصوص الشرع من مخاطبة العقل ، وتوجيهه إلى النظر في الحجج والبراهين العقلية ، ومن دعوة أصحاب العقول وأولي الألباب إلى تدبر الدلائل القطعية على صحة الإسلام .
قال الله تعالى : ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) ص/29 .
قال القاضي عياض في وجوه إعجاز القرآن : " جمع فيه من بيان علم الشرائع والتنبيه على طرق الحجاج العقليات ، والرد على فرق الأمم ببراهين قوية وأدلة بينة ، سهلة الألفاظ موجزة المقاصد ، رام المتحذلقون بعدُ أن ينصبوا أدلة مثلها ، فلم يقدروا عليها " انتهى من " الشفا " (1/390) .
فلم تشتمل نصوص الوحي على شيء تحيله العقول أو ترفضه ، ولم تأت بمسألة تخالف بداهة عقلية أو تناقض قياسًا عقليًا ؛ بل ما جاء أهل الباطل بقياس لباطلهم إلا رده بالحق والبيان العقلي الواضح .
قال الله تعالى: ( وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ) الفرقان /33.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " أخبر سبحانه أن الكفار لا يأتونه بقياس عقلي لباطلهم إلا جاءه الله بالحق ، وجاءه من البيان والدليل وضرب المثل بما هو أحسن تفسيرًا ، وكشفًا وإيضاحًا للحق من قياسهم " انتهى من مجموع الفتاوى (4/106) .
ومن الأمثلة على الأدلة العقلية في القرآن قوله تعالى : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) النساء /82 .
جاء في تفسير القرطبي : " إنه ليس من متكلم يتكلم كلامًا كثيرًا إلا وُجد في كلامه اختلاف كثير ، إما في الوصف واللفظ ؛ وإما في جودة المعنى ، وإما في التناقض ، وإما في الكذب ، فأنزل الله عز وجل القرآن وأمرهم بتدبره ؛ لأنهم لا يجدون فيه اختلافًا في وصف ولا ردًا له في معنى ، ولا تناقضًا ولا كذبًا فيما يخبرون به من الغيوب وما يُسرّون " انتهى من "الجامع لأحكام القرآن " (5/290) .
وقال ابن كثير : " أي: لو كان مفتعلاً مختلقًا ، كما يقوله من يقوله من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم ( لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) أي : اضطرابًا وتضادًّا كثيرًا ؛ أي : وهذا سالم من الاختلاف ، فهو من عند الله " انتهى من " تفسير القرآن العظيم " (1/802) .
ثالثًا : المعجزات ودلائل النبوة :
إن الله تعالى قد أيد النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بالعديد من المعجزات والخوارق والآيات الحسية التي تدل على صدق نبوته وصحة رسالته كانشقاق القمر له ، وتسبيح الطعام والحصى بين يديه ، ونبوع الماء من بين أصابعه ، وتكثيره للطعام ونحو ذلك من معجزات وآيات رآها وعاينها جمع غفير ، ونقلت إلينا بالأسانيد الصحيحة التي وصلت إلى حد التواتر المعنوي الذي يفيد اليقين .
ومن ذلك ما صح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود أنه قال : " كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَقَلَّ الْمَاءُ ، فَقَالَ : ( اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ ) فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ ثُمَّ قَالَ : ( حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ وَالْبَرَكَةُ مِنْ اللَّهِ ) ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ ) .
أخرجه البخاري (3579) .
رابعًا : النبوءات :
ويُقصد بالنبوءات هنا : ما أخبر به الوحي من أمور وأحداث تقع في المستقبل سواء في حياته النبي محمد صلى الله عليه وسلم أو بعد مماته .
وما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من الأمور المستقبلية إلا وقع كما أخبر تمامًا ، وهذا دليل على أن الله عز وجل قد أوحى إليه وأطلعه على أشياء من علم الغيب الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي، ومن ذلك:
ما رواه أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الْإِبِلِ بِبُصْرَى ) .
أخرجه البخاري (7118) ، ومسلم (2902) .
وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر تمامًا في سنة 654هـ ، أي بعد وفاته بما يقرب من 644 سنة ، وقد ذكر ذلك المؤرخون ومنهم العلامة أبو شامة المقدسي في كتابه " ذيل الروضتين "، وهو من العلماء الذين عاصروا هذه الواقعة التاريخية ، وكذلك الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (13/219) حيث قال: " ثم دخلت سنة أربع وخمسين وستمائة فيها كان ظهور النار من أرض الحجاز التي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى ، كما نطق بذلك الحديث المتفق عليه ، وقد بسط القول في ذلك الشيخ الإمام العلامة الحافظ شهاب الدين أبو شامة المقدسي في كتابه الذيل وشرحه ، واستحضره من كتب كثيرة وردت متواترة إلى دمشق من الحجاز بصفة أمر هذه النار التي شوهدت معاينة، وكيفية خروجها وأمرها
وملخص ما أورده أبو شامة أنه قال : وجاء إلى دمشق كتب من المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، بخروج نار عندهم في خامس جمادى الآخرة من هذه السنة ، وكتبت الكتب في خامس رجب ، والنار بحالها ، ووصلت الكتب إلينا في عاشر شعبان ثم قال : بسم الله الرحمن الرحيم ، ورد إلى مدينة دمشق في أوائل شعبان من سنة أربع وخمسين وستمائة كتب من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيها شرح أمر عظيم حدث بها فيه تصديق لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى ) فأخبرني من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب .
قال : وكنا في بيوتنا تلك الليالي ، وكان في دار كل واحد منا سراج ، ولم يكن لها حر ولفح على عظمها ، إنما كانت آية من آيات الله عز وجل " انتهى .
خامسًا : الشمائل والصفات : من أكبر الأدلة على صدق نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو شخصيته نفسها ، وما تحلى به من مكارم الأخلاق وحسن الخصال وجميل الخلال وعظيم الصفات ، حيث بلغ النبي صلى الله عليه وسلم درجة من الكمال البشري في حسن الصفات والأخلاق لا يمكن أن تكون إلا لنبي مرسل من عند الله ، فما وُجد خلق حميد إلا دعا له وأمر به وحث عليه وعمل به ، وما من خلق ذميم إلا نهى عنه وحذر منه ، وكان أبعد الناس عنه ؛ حتى بلغ اعتناؤه بالخلق درجة تعليل رسالته وبعثته بتقويم الأخلاق وإشاعة مكارمها ، والعمل على إصلاح ما أفسدته الجاهلية منها ، فقد جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ ) .
أخرجه أحمد (8739) وقال الهيثمي في " المجمع ": " رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ".
وصحح العجلوني سنده في " كشف الخفا "، وصححه الألباني في " صحيح الجامع " (2349) .
والمعجزة دليل على صدق الرسول ، فإنه يقول للناس إنه مرسل من الله تعالى ، فيتحداه بعضهم أن يبرهن على ذلك ، فيؤيده الله عز وجل بالمعجزة ، وهي الأمر الخارق للعادة ، وقد تحصل له المعجزة من غير أن يتحداه أحد أو يكذبه ، فتكون تثبيتاً لأتباعه.
سادسًا : جوهر الدعوة :
فأصل دعوة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم تتلخص في بناء معتقدات صحيحة على أسس شرعية وعقلية سليمة ، فهي دعوة إلى الإيمان بالله وتوحيده في إلهيته وربوبيته ، فلا يستحق العبادة إلا إله واحد وهو الله سبحانه ؛ لأنه رب هذا الكون وخالقه ومالكه ومدبّر شؤونه ومصرّف أموره والحاكم فيه بأمره ، والذي يملك الضرّ والنفع ، والذي يملك رزق كل المخلوقات ، ولا يشاركه في ذلك أحد ، ولا يكافئه أو يماثله أحد ، فهو منزه سبحانه عن الشركاء والأنداد والأقران والأكفاء .
قال الله تعالى: ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ.وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) الإخلاص/ 1-4 .
وقال سبحانه : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) الكهف/110.
فدعوة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم دعوة تهدم الشرك بكل أشكاله ، وتخلص الثقلين من كل ما عبد بالباطل ؛ فلا عبادة للأحجار والكواكب والقبور ، ولا للمال والشهوات والأهواء والسلاطين وطواغيت الأرض .
إنها دعوة جاءت لتحرّر البشرية من عبادة العباد ، وتخرجها من ذلّ الوثنيات وظلم الطواغيت ، وتخلصّها من أسر الشهوات والأهواء الجائرة .
إن هذه الدعوة المباركة تعد امتدادًا وتقريرًا لكل الرسالات الربانية السابقة الداعية للتوحيد ؛ ولذلك دعا الإسلام إلى الإيمان بالأنبياء والرسل جميعًا ، مع توقيرهم وتعظيمهم ، والإيمان بما أنزل عليهم من الكتب ، ودعوة كهذه لا ريب أنها الحق .
سابعًا : البشارات :
فقد جاءت كتب الأنبياء مبشرة بدين الإسلام وبالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن الكريم أخبرنا بوجود بشارات واضحة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل ، منها ما يصرّح باسمه ورسمه .
فقد قال الله تعالى: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) الأعراف/ 157 .
وقال سبحانه: ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) الصف/6 .
ولا يزال في كتب اليهود والنصارى ـ التوراة والإنجيل ـ بشارات تنبئ بقدومه وتبشّر برسالته وتعطي بعض أوصافه ، على الرغم من محاولات الطمس والتحريف المستمرة لهذه البشارات ، ومن ذلك ما جاء في جاء في سفر التثنية الإصحاح (33) العدد (2) :
" جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبال فاران.." .
جاء في "معجم البلدان" (3/301) : " فاران: بعد الألف راء وآخره نون كلمة عبرانية معربة ، وهي من أسماء مكة ذكرها في التوراة ، قيل : هو اسم لجبال مكة .
قال ابن ماكولا أبو بكر نصر بن القاسم بن قضاعة القضاعي الفاراني الإسكندراني : سمعت أن ذلك نسبته إلى جبال فاران وهي جبال الحجاز .
وفي التوراة : " جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من فاران ".
مجيئه من سيناء تكليمه لموسى عليه السلام ، وإشراقه من ساعير وهي جبال فلسطين هو إنزاله الإنجيل على عيسى عليه السلام ، واستعلانه من جبال فاران : إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم " انتهى .
ثامنًا : القرآن الكريم :
وهو أعظم المعجزات وأجل الآيات وأظهر البينات ، وهو حجة الله البالغة على خلقه إلى يوم القيامة ، وقد اشتمل على وجوه متعددة من الإعجاز مثل : الإعجاز البياني ، والإعجاز العلمي ، والإعجاز التشريعي ، والإخبار بالأمور المستقبلية والغيبية .
أما عن المقصود بقوله تعالى : ( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ) الطور /34 ، فهو رد على من زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم تقوَّل القرآن من نفسه ، فتحداهم القرآن أن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين في زعمهم ؛ لأن لازم هذا الادعاء أن هذا في مقدور البشر ، فلو كان ذلك صحيحا ، فما الذي يمنعهم من الإتيان بمثله وهم أرباب الفصاحة وأساطين البلاغة ؟
وقد تحدى الله الكفار أن يأتوا بمثله فعجزوا، كما أخبر القرآن : ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الإسراء/88.
وتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين َ) هود/13.
وتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله فعجزوا : ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) البقرة/23 .
أما وجه الإعجاز الذي وقع به التحدي فقد اختلف فيه العلماء على أقوال أظهرها كما قال الألوسي : " أن القرآن بجملته وأبعاضه حتى أقصر سورة منه معجز بالنظر إلى نظمه وبلاغته ، وإخباره عن الغيب ، وموافقته لقضية العقل ودقيق المعنى ، وقد تظهر كلها في آية ، وقد يستتر البعض كالإخبار عن الغيب ، ولا ضير ولا عيب ، فما يبقى كاف وفي الغرض واف" .
انتهى من "روح المعاني " ( 1/29) .
ويندرج تحت كل من البراهين الإجمالية السابقة العديد من الأدلة التفصيلية ما لا يتسع المقام لسردها ، ويحسن أن تراجع في مظانها ، ويُنصح كل مسلم أن يطلب علم الكتاب والسنة ، وأن يدرس كتب العقيدة الصحيحة ، وأن يتعلم أمور دينه ليحسن إسلامه ويعبد ربه على بصيرة .
والله أعلم .
أريد أن أكون مسلماً حقيقاً لذا أضع هذا السؤال: ما الداعي للإلتزام بالإسلام ؟ بعبارة أخرى ، هب أني كنت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يدعو إلى هذا الدين ، فما الذي يدفعني إلى تصديق رسالته وما جاء به من كتاب وسنة؟ كما أني لا أفهم التحدي القرآني " فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين.." ، فالذي أفهمه أن مَن أتى بكتاب ما في فنٍ ما فإنه يشبه كتاباً أخر في نفس الفن ، وإن خالفه في بعض الجزئيات ، فما وجه الإعجاز في القرآن ؟ قد يبدوا غريباً أن يصدر هذا السؤال من شخص مسلم ، ولكن الله أعلم بنيتي .
الجواب :
الحمد لله
إن الأدلة على صحة دين الإسلام ، وصدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم كثيرة لا تكاد تنحصر ؛ وهذه الأدلة كافية لإقناع كل منصف عاقل باحث عن الحق بتجرد وإخلاص ، ويمكن إجمال بعض من هذه البراهين فيما يلي :
أولاً : دلالة الفطرة : فإن دعوة الإسلام هي الموافقة للفطرة السوية ، وإلى ذلك أشار قول الله عز وجل : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) الروم/30 .
وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ) .
أخرجه البخاري (1358) ، ومسلم (2658) .
وقوله ( تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ ) أي كما تولد البهيمة مجتمعة الأعضاء وسليمة من النقص ، وما يحدث لها من قطع الأذن أو غيرها فيكون بعد ولادتها .
وهكذا كل إنسان يولد مفطور على الإسلام ، وأي انحراف عن الإسلام فهو خروج عن الفطرة ولا شك ، ولذلك فإننا لا نجد شيئًا من تعاليم الإسلام يخالف الفطرة قط ، بل كل الأحكام العقدية والعملية موافقة للفطرة السليمة السوية ، أما ما سوى الإسلام من أديان واعتقادات فتشتمل على ما يخالف الفطرة ، وهذا أمر ظاهر بيّن عند التأمل والتدبر .
ثانيًا : البراهين العقلية :
أكثرت نصوص الشرع من مخاطبة العقل ، وتوجيهه إلى النظر في الحجج والبراهين العقلية ، ومن دعوة أصحاب العقول وأولي الألباب إلى تدبر الدلائل القطعية على صحة الإسلام .
قال الله تعالى : ( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ) ص/29 .
قال القاضي عياض في وجوه إعجاز القرآن : " جمع فيه من بيان علم الشرائع والتنبيه على طرق الحجاج العقليات ، والرد على فرق الأمم ببراهين قوية وأدلة بينة ، سهلة الألفاظ موجزة المقاصد ، رام المتحذلقون بعدُ أن ينصبوا أدلة مثلها ، فلم يقدروا عليها " انتهى من " الشفا " (1/390) .
فلم تشتمل نصوص الوحي على شيء تحيله العقول أو ترفضه ، ولم تأت بمسألة تخالف بداهة عقلية أو تناقض قياسًا عقليًا ؛ بل ما جاء أهل الباطل بقياس لباطلهم إلا رده بالحق والبيان العقلي الواضح .
قال الله تعالى: ( وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ) الفرقان /33.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " أخبر سبحانه أن الكفار لا يأتونه بقياس عقلي لباطلهم إلا جاءه الله بالحق ، وجاءه من البيان والدليل وضرب المثل بما هو أحسن تفسيرًا ، وكشفًا وإيضاحًا للحق من قياسهم " انتهى من مجموع الفتاوى (4/106) .
ومن الأمثلة على الأدلة العقلية في القرآن قوله تعالى : ( أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ) النساء /82 .
جاء في تفسير القرطبي : " إنه ليس من متكلم يتكلم كلامًا كثيرًا إلا وُجد في كلامه اختلاف كثير ، إما في الوصف واللفظ ؛ وإما في جودة المعنى ، وإما في التناقض ، وإما في الكذب ، فأنزل الله عز وجل القرآن وأمرهم بتدبره ؛ لأنهم لا يجدون فيه اختلافًا في وصف ولا ردًا له في معنى ، ولا تناقضًا ولا كذبًا فيما يخبرون به من الغيوب وما يُسرّون " انتهى من "الجامع لأحكام القرآن " (5/290) .
وقال ابن كثير : " أي: لو كان مفتعلاً مختلقًا ، كما يقوله من يقوله من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم ( لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) أي : اضطرابًا وتضادًّا كثيرًا ؛ أي : وهذا سالم من الاختلاف ، فهو من عند الله " انتهى من " تفسير القرآن العظيم " (1/802) .
ثالثًا : المعجزات ودلائل النبوة :
إن الله تعالى قد أيد النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بالعديد من المعجزات والخوارق والآيات الحسية التي تدل على صدق نبوته وصحة رسالته كانشقاق القمر له ، وتسبيح الطعام والحصى بين يديه ، ونبوع الماء من بين أصابعه ، وتكثيره للطعام ونحو ذلك من معجزات وآيات رآها وعاينها جمع غفير ، ونقلت إلينا بالأسانيد الصحيحة التي وصلت إلى حد التواتر المعنوي الذي يفيد اليقين .
ومن ذلك ما صح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود أنه قال : " كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَقَلَّ الْمَاءُ ، فَقَالَ : ( اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ ) فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ ثُمَّ قَالَ : ( حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ وَالْبَرَكَةُ مِنْ اللَّهِ ) ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ ) .
أخرجه البخاري (3579) .
رابعًا : النبوءات :
ويُقصد بالنبوءات هنا : ما أخبر به الوحي من أمور وأحداث تقع في المستقبل سواء في حياته النبي محمد صلى الله عليه وسلم أو بعد مماته .
وما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من الأمور المستقبلية إلا وقع كما أخبر تمامًا ، وهذا دليل على أن الله عز وجل قد أوحى إليه وأطلعه على أشياء من علم الغيب الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي، ومن ذلك:
ما رواه أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَخْرُجَ نَارٌ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ تُضِيءُ أَعْنَاقَ الْإِبِلِ بِبُصْرَى ) .
أخرجه البخاري (7118) ، ومسلم (2902) .
وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم كما أخبر تمامًا في سنة 654هـ ، أي بعد وفاته بما يقرب من 644 سنة ، وقد ذكر ذلك المؤرخون ومنهم العلامة أبو شامة المقدسي في كتابه " ذيل الروضتين "، وهو من العلماء الذين عاصروا هذه الواقعة التاريخية ، وكذلك الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (13/219) حيث قال: " ثم دخلت سنة أربع وخمسين وستمائة فيها كان ظهور النار من أرض الحجاز التي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى ، كما نطق بذلك الحديث المتفق عليه ، وقد بسط القول في ذلك الشيخ الإمام العلامة الحافظ شهاب الدين أبو شامة المقدسي في كتابه الذيل وشرحه ، واستحضره من كتب كثيرة وردت متواترة إلى دمشق من الحجاز بصفة أمر هذه النار التي شوهدت معاينة، وكيفية خروجها وأمرها
وملخص ما أورده أبو شامة أنه قال : وجاء إلى دمشق كتب من المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، بخروج نار عندهم في خامس جمادى الآخرة من هذه السنة ، وكتبت الكتب في خامس رجب ، والنار بحالها ، ووصلت الكتب إلينا في عاشر شعبان ثم قال : بسم الله الرحمن الرحيم ، ورد إلى مدينة دمشق في أوائل شعبان من سنة أربع وخمسين وستمائة كتب من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيها شرح أمر عظيم حدث بها فيه تصديق لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى ) فأخبرني من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب .
قال : وكنا في بيوتنا تلك الليالي ، وكان في دار كل واحد منا سراج ، ولم يكن لها حر ولفح على عظمها ، إنما كانت آية من آيات الله عز وجل " انتهى .
خامسًا : الشمائل والصفات : من أكبر الأدلة على صدق نبوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو شخصيته نفسها ، وما تحلى به من مكارم الأخلاق وحسن الخصال وجميل الخلال وعظيم الصفات ، حيث بلغ النبي صلى الله عليه وسلم درجة من الكمال البشري في حسن الصفات والأخلاق لا يمكن أن تكون إلا لنبي مرسل من عند الله ، فما وُجد خلق حميد إلا دعا له وأمر به وحث عليه وعمل به ، وما من خلق ذميم إلا نهى عنه وحذر منه ، وكان أبعد الناس عنه ؛ حتى بلغ اعتناؤه بالخلق درجة تعليل رسالته وبعثته بتقويم الأخلاق وإشاعة مكارمها ، والعمل على إصلاح ما أفسدته الجاهلية منها ، فقد جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ ) .
أخرجه أحمد (8739) وقال الهيثمي في " المجمع ": " رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ".
وصحح العجلوني سنده في " كشف الخفا "، وصححه الألباني في " صحيح الجامع " (2349) .
والمعجزة دليل على صدق الرسول ، فإنه يقول للناس إنه مرسل من الله تعالى ، فيتحداه بعضهم أن يبرهن على ذلك ، فيؤيده الله عز وجل بالمعجزة ، وهي الأمر الخارق للعادة ، وقد تحصل له المعجزة من غير أن يتحداه أحد أو يكذبه ، فتكون تثبيتاً لأتباعه.
سادسًا : جوهر الدعوة :
فأصل دعوة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم تتلخص في بناء معتقدات صحيحة على أسس شرعية وعقلية سليمة ، فهي دعوة إلى الإيمان بالله وتوحيده في إلهيته وربوبيته ، فلا يستحق العبادة إلا إله واحد وهو الله سبحانه ؛ لأنه رب هذا الكون وخالقه ومالكه ومدبّر شؤونه ومصرّف أموره والحاكم فيه بأمره ، والذي يملك الضرّ والنفع ، والذي يملك رزق كل المخلوقات ، ولا يشاركه في ذلك أحد ، ولا يكافئه أو يماثله أحد ، فهو منزه سبحانه عن الشركاء والأنداد والأقران والأكفاء .
قال الله تعالى: ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ.اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ.وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) الإخلاص/ 1-4 .
وقال سبحانه : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ) الكهف/110.
فدعوة النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم دعوة تهدم الشرك بكل أشكاله ، وتخلص الثقلين من كل ما عبد بالباطل ؛ فلا عبادة للأحجار والكواكب والقبور ، ولا للمال والشهوات والأهواء والسلاطين وطواغيت الأرض .
إنها دعوة جاءت لتحرّر البشرية من عبادة العباد ، وتخرجها من ذلّ الوثنيات وظلم الطواغيت ، وتخلصّها من أسر الشهوات والأهواء الجائرة .
إن هذه الدعوة المباركة تعد امتدادًا وتقريرًا لكل الرسالات الربانية السابقة الداعية للتوحيد ؛ ولذلك دعا الإسلام إلى الإيمان بالأنبياء والرسل جميعًا ، مع توقيرهم وتعظيمهم ، والإيمان بما أنزل عليهم من الكتب ، ودعوة كهذه لا ريب أنها الحق .
سابعًا : البشارات :
فقد جاءت كتب الأنبياء مبشرة بدين الإسلام وبالنبي محمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن الكريم أخبرنا بوجود بشارات واضحة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل ، منها ما يصرّح باسمه ورسمه .
فقد قال الله تعالى: ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) الأعراف/ 157 .
وقال سبحانه: ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ) الصف/6 .
ولا يزال في كتب اليهود والنصارى ـ التوراة والإنجيل ـ بشارات تنبئ بقدومه وتبشّر برسالته وتعطي بعض أوصافه ، على الرغم من محاولات الطمس والتحريف المستمرة لهذه البشارات ، ومن ذلك ما جاء في جاء في سفر التثنية الإصحاح (33) العدد (2) :
" جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبال فاران.." .
جاء في "معجم البلدان" (3/301) : " فاران: بعد الألف راء وآخره نون كلمة عبرانية معربة ، وهي من أسماء مكة ذكرها في التوراة ، قيل : هو اسم لجبال مكة .
قال ابن ماكولا أبو بكر نصر بن القاسم بن قضاعة القضاعي الفاراني الإسكندراني : سمعت أن ذلك نسبته إلى جبال فاران وهي جبال الحجاز .
وفي التوراة : " جاء الله من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من فاران ".
مجيئه من سيناء تكليمه لموسى عليه السلام ، وإشراقه من ساعير وهي جبال فلسطين هو إنزاله الإنجيل على عيسى عليه السلام ، واستعلانه من جبال فاران : إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم " انتهى .
ثامنًا : القرآن الكريم :
وهو أعظم المعجزات وأجل الآيات وأظهر البينات ، وهو حجة الله البالغة على خلقه إلى يوم القيامة ، وقد اشتمل على وجوه متعددة من الإعجاز مثل : الإعجاز البياني ، والإعجاز العلمي ، والإعجاز التشريعي ، والإخبار بالأمور المستقبلية والغيبية .
أما عن المقصود بقوله تعالى : ( فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ) الطور /34 ، فهو رد على من زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم تقوَّل القرآن من نفسه ، فتحداهم القرآن أن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين في زعمهم ؛ لأن لازم هذا الادعاء أن هذا في مقدور البشر ، فلو كان ذلك صحيحا ، فما الذي يمنعهم من الإتيان بمثله وهم أرباب الفصاحة وأساطين البلاغة ؟
وقد تحدى الله الكفار أن يأتوا بمثله فعجزوا، كما أخبر القرآن : ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ) الإسراء/88.
وتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا : ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين َ) هود/13.
وتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله فعجزوا : ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) البقرة/23 .
أما وجه الإعجاز الذي وقع به التحدي فقد اختلف فيه العلماء على أقوال أظهرها كما قال الألوسي : " أن القرآن بجملته وأبعاضه حتى أقصر سورة منه معجز بالنظر إلى نظمه وبلاغته ، وإخباره عن الغيب ، وموافقته لقضية العقل ودقيق المعنى ، وقد تظهر كلها في آية ، وقد يستتر البعض كالإخبار عن الغيب ، ولا ضير ولا عيب ، فما يبقى كاف وفي الغرض واف" .
انتهى من "روح المعاني " ( 1/29) .
ويندرج تحت كل من البراهين الإجمالية السابقة العديد من الأدلة التفصيلية ما لا يتسع المقام لسردها ، ويحسن أن تراجع في مظانها ، ويُنصح كل مسلم أن يطلب علم الكتاب والسنة ، وأن يدرس كتب العقيدة الصحيحة ، وأن يتعلم أمور دينه ليحسن إسلامه ويعبد ربه على بصيرة .
والله أعلم .