بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الفتوى في اللغة و الاصطلاح
إن الحمد للَّـه، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونستهدِيه، ونعوذُ باللَّـه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه اللَّـه فلا مضِلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا اللَّـه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى اللَّـه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فإن الفُتيا مَقامُها عظيمٌ، وخطرُها جسيمٌ، لذا اعتنى أئمَّة السلف وعلماؤهم من أصوليين وفقهاء بشأن الفتيا، حيث وضعوا لها القواعدَ، وبيَّنوا الشروط التي يلزم تحقُّقُها في المفتي والمستفتي.
قال الإمام النووي رحمه اللَّـه تعالى في كتابهآداب الفتوى:" قال العلماء:فإن المفتي موقع عن اللَّـه". وقال الإمام ابن القيم رحمه اللَّـه في كتابه إعلام الموقعين: "والمفتي هو المبلغ عن اللَّـه تعالى، والواسطة بين اللَّـه وخلقه في بيان الحلال والحرام لمن استفتاه، ومقامه عظيم، خصوصًا فيما يتعلَّق بالصدع بالحق، وبيان الحلال والحرام في المسائل التي تحتاجها الأمة ويكثر فيها الالتباس والخفاء، أو تكثر فيها الأهواء والباطل".
تعريف الفتوى لغة: اسم مصدر بمعنى الإفتاء، والجمع: الفتاوى والفتاوي، يقال: أفتيته فَتْوى وفُتْيا: إذا أجبته عن مسألته.
والفتيا: تبيين المشكل من الأحكام، وتفاتَوْا إلى فلان: تحاكموا إليه وارتفعوا إليه في الفُتيا.
تعريف الفتوى في الاصطلاح: أما تعريفُ الفتوى في الاصطلاح، فقد عرَّفها العلماء بتعريفات عديدة منها:
• قال القَرافي: "الفتوى إخبارٌ عن حكم الله تعالى في إلزام أو إباحة".
• وقال الجرجاني: "الإفتاء: بيان حكم المسألة".
• وقال ابن الصلاح: "قيل في الفتيا: إنها توقيع عن الله تبارك وتعالى".
• وعرفها ابن حمدان الحراني الحنبلي بقوله: "تبيين الحكم الشرعي عندليل لمن سأل عنه".
ومن خلال التعريفات السابقة وغيرها يمكن تعريف الفتوى بأنها: بيان الحكم الشرعي لمن سأل عنه على غير وجه الإلزام.
ولقد وردت كلمة الفتوى في كتاب الله تعالى في آيات، منها:قوله سبحانه وتعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} [الصافات:11]، يعني: فاسأَلْهم سؤال تقرير، وقال جل جلاله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء:176]، وقال سبحانه وتعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِن} [النساء:127]؛ أي:يسألونك سؤال تعلُّـم.
وقد لجأ المسلمون إلى الاستفتاء منذ الصدر الأول للإسلام، فصدرت فتاوى سيد المرسلين، وإمام المفتين، وخاتم النبيين، عبد اللهِ ورسوله، وأمينه على وحيهِ، وسفيره بينه وبين عباده، فكان يُفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: {قُلْ مَاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}، فكانت فتاويه صلى الله عليه وسلم جوامعَ الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب، وخَلَفَه في ذلك علماءُ الصحابة والتابعين، ومن سار على نهجهم منأئمة هذا الدين، وما ذلك إلا لأهمية الفتوى، وحاجة الأمة إليها، ولا سيما في هذه العصور التي قلَّ فيها الإقبال على العلم، واكتفى الكثير منهم بالسؤال عما يَعرضُ لهم، أو يُشكل عليهم من أمر دينهم.
ولئن كانت حاجةُ الأمةِ إلى الفتوى كبيرةً فيما مضى، فإن الحاجة إليها فيهذه الأيام أشدُّ وأبقى؛ فقد تمخض الزمان عن وقائعَ لا عهد للسابقين بها،وعرضت للأمة نوازلُ لم يخطر ببال العلماء الماضين وقوعُها، فكانت الحاجةُ إلىالإفتاء فيها شديدة لبيان حكم الله تعالى في هذه النوازل العديدة؛ إذ لا يعقل أنتقف شريعة الله العليمِ الحكيمِ عاجزةً عن تقديم الحلول الناجعة لمشكلاتهم المتسعةلكل ما يحدث لهم أو يُشكل عليهم، وهي الشريعة الصالحة لكل زمان، الجديرةُ بالتطبيق في كل مكان.
وقد يتهاون البعضُ في أمر الفتوى، فيتصدى لها مِن غير أن يكون على درايةٍ وعِلم بما يُفتي فيه، فيكون بذلك قد ضلَّ وأضلَّ؛ فالفتوى في الدينِ لا بد أن تكونَ صادرةً من أهلِ العلمِ والاختصاص الذين أمَرنا الله تعالى أن نرجعَ إليهم عند تعسُّرِ الوصولِ إلى المعرفة؛ قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، والمفتي موقِّع عن الله رب العالمين.
وقد ذكر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن العلماءَ ورثةُ الأنبياء، فهذا الفضلُ وتلك المنزلةُ لم تأتِ مِن فراغ، ولكن لِما يتحملُه العلماء من أمانةِ التبليغِ عنِ الله ورسوله، والفتوى ركنٌ ركين من هذا البلاغ؛ فقد ورَد في الصحيحين عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال:"أيها الناس، مَن سُئل عن علمٍ يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علمٌ فليقل:الله أعلم؛ فإنَّ مِن العلمِ أن يقول لِما لا يعلم:الله أعلم"، وقال الإمام محمد بن المنكدررحمه الله: "إنَّ العالمَ بينَ الله تعالى وبينَ خَلْقِهِ؛ فلينظُرْ كيف يَدخلُ بينهم".
وروى الدراميُّ في سننه عن أبي موسى رضي الله عنه أنه قال في خطبته: "مَن علم علمًا فليُعلِّمْه الناس، وإياه أنْ يقولَ ما لا عِلمَ لهُ به، فيمرُقَ مِن الدِّين، ويكونَ من المتكلفين".
فمن هنا تكمن خطورة الفتوى؛ لذلك هاب الفتوى أكابرُ العلماء على الرغم من علمِهِمُ الوفير، وعمَلِهِم بهذا العِلمِ، ولم تدفعهم شُهرَتُهم الواسعة إلى التجرُّؤ على الفتوى.
فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدُهم عن المسألة فيردها هذاإلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول".
وعن الشعبي والحسن وأبي حصين قالوا: "إن أحدكم ليُفتيفي المسألةِ لو وردت على عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه لجمعَ لها أهلَ بدرٍ".
وعن الهيثم بن جميل قال: "شهدت مالك بن أنس سُئل عن ثمانٍ وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها:لا أدري".
فكل هذه النصوص والآثار وغيرِها دالةٌ على خطرِ التَّهورِ والتَّسرُّعِ على الفتيا والقول على الله بغير علم؛ ذلك أن الفتوى بيانٌ لأحكام الله، والمفتي في ذلك موقِّعٌ عن الله، فإن القولعلى الله تعالى بغير علم من أعظم المحرمات؛ لما فيه من جرأة وافتراء على الله،وإغواء وإضلال للناس، وهو من كبائر الإثم؛ لقول الحق تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].
فقد قرن الله تعالى القول عليه بغير علم بالفواحشِ الظاهرة والباطنة، والإثم والبغي والشرك؛ للدلالة على عظم هذا الذنب، وقُبحِ هذا الفعل.
ومما يدلُّ أيضًا على حرمة القول على الله تعالى بغير علم: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ*مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل:116، 117].
تعريف الضوابط في اللغة: جمع ضابط، وهو مأخوذ من ضبط الشيء يضبطه ضبطًا: أي حفظه حفظًا بليغًا أو حازمًا، ومنه قيل:ضبطت البلاد، إذا قمت بأمرها قيامًا حازمًامحافظًا عليها. والضبط:لزوم الشيء وحبسه وحصره. والضبط: الإتقان والإحكام.
والضابطُ في الاصطلاح الفقهي استُعمِلَ في عدة معانٍ أقربها لموضوعنا هو: الضوابط الفقهية على الشروط والأسباب المتعلقة بأمر من الأمور، ومثاله: أنَّ الشافعية اشترطوا لانعقاد الجمعة أربعين، وذكر النووي ضابط انفساخ العقد بالأسباب التالية: خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار العيب، وخيار الخلف، بأن شرط في العبد كونه كاتبًا، فخرج غير كاتب،والإقالة، والتحالف، وتلف المبيع قبل القبض.
فضيلةالشيخ/ ذو الكفل محمد البكري
المفتي الفيدرالي لدولة ماليزيا