ذكر جل وعلا في كتابه أنه " الحكيم " اثنين وأربعين مرة ، وذكر أنه " حكيم " تسعا وثلاثين مرة .. هلا تأملت ؟!
" الحكيم " له معنيان : الحاكم وهو القاضي العدل – قاله ابن قتيبة – والمحكم للأمر والتدبير – قاله الخطابي – [ زاد المسير ] .
سبحانك إلهي .. أحكمت كل شيء خلقا .. كم لك في كل أمر من تدبير وحكمة .. الكون شاهد بعظمتك وحكمتك .. حارت الأذهان في حكمتك البالغة .. واعترفت بالعجز منقادة لك وخاضعة .. سبحانك إلهي .. أحاط علمك وحكمتك بالأشياء .. فلا معقب لحكمك ، ولا راد لقضائك .
قال تعالى : " أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ " ، أفظننتم أنكم مخلوقون عبثا بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حكمة لنا ، وأنكم لا ترجعون إلى الدار الآخرة ؟! تقدس الله أن يخلق شيئا عبثا ، وتعاظم عن هذا الظن الباطل الذي يرجع إلى القدح في حكمته ، فهو الحق المنزه عن أن يخلق الناس بدون حكمة أو غرض صحيح . قال تعالى : " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " ، وقال تعالى : " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ " ..
تدبر اقتران هذا الاسم مع غيره من الأسماء ، وما لهذا الاقتران من دلالة ..
" الحكيم العليم " العليم بكل شيء ، الحكيم في تدبيره .. قال ابن عاشور : وتعقيب الحكيم بالعليم من إتباع الوصف بأخص منه ، فإن مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم ؛ لأن الحكمة كمال في العلم . اهـ
" العزيز الحكيم " العزيز الذي لا يعجزه شيء ، العزيز في أقواله وأفعاله فيضع الأشياء في محالها .
" الحكيم الخبير " هو المحكم المتقن للمصنوعات ، العالم ببواطن الأمور كعلمه بظواهرها .
سبحان من سبحت الأكوان بحكمته .. وأذعنت له الموجودات منقادة لعظمته .. جرت الأقدار بمشيئته وتدبيره .. الحكيم في كل شيء ، تعالى في حكمته .. أحسن تدبير أمره ونهيه وشريعته .. اللطيف الرحيم في قضائه وتقديره ..
قال تعالى : " الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) " .
في المراد بهذه الحكمة أحد عشر قولاً . أحدها : أنها القرآن . والثاني : معرفة ناسخ القرآن ، ومنسوخه ، ومحكمه ، ومتشابهه ، ومقدمه ، ومؤخره ، ونحو ذلك . والثالث : النبوة. والرابع : الفهم في القرآن . والخامس : العلم والفقه . والسادس : الإصابة في القول . والسابع : الورع في دين الله . والثامن : الخشية لله . والتاسع : العقل في الدين . والعاشر : الفهم . والحادي عشر : العلم والعمل ، لا يسمى الرجل حكيماً إِلا إِذا جمعهما .. (1)
" يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ " ممن طلبها وتعرض لها راغباً فيها سائلا الله تعالى أن يعلمه (2) ، " وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا " أوتي القصد والاعتدال فلا يفحش ولا يتعدى الحدود؛ وأوتي إدراك العلل والغايات فلا يضل في تقدير الأمور؛ وأوتي البصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال . . وذلك خير كثير متنوع الألون . (3)
يقول سيد قطب : هذه الحكمة يؤتيها الله من يشاء من عباده ، فهي معقودة بمشيئة الله سبحانه . هذه هي القاعدة الأساسية في التصور الإسلامي : رد كل شيء إلى المشيئة المطلقة المختارة . . وفي الوقت ذاته يقرر القرآن حقيقة أخرى : أن من أراد الهداية وسعى لها سعيها وجاهد فيها فإن الله لا يحرمه منها ، بل يعينه عليها : " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ " ؛ ليطمئن كل من يتجه إلى هدى الله أن مشيئة الله ستقسم له الهدى وتؤتيه الحكمة ، وتمنحه ذلك الخير الكثير . ا.هـ
حري بك أن تطلب الحكمة من مؤتيها .. قال ابن عاشور : ومن يشاء الله تعالى إيتاءه الحكمة هو الذي يخلقه مستعداً إلى ذلك ، من سلامة عقله واعتدال قواه ، حتى يكون قابلاً لفهم الحقائق منقاداً إلى الحق إذا لاح له ، لا يصدّه عن ذلك هوى ولا عصبية ولا مكابرة ولا أنفة ، ثم ييسّر له أسباب ذلك من حضور الدعاة وسلامة البقعة من العُتاة ، فإذا انضمّ إلى ذلك توجّهه إلى الله بأن يزيد أسبابه تيسيراً ويمنع عنه ما يحجب الفهم فقد كمل له التيسير . وفسرت الحكمة بأنّها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة ، أي بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض ولا يغلط في العلل والأسباب . ا.هـ
لله در أولئك الحكماء ، الذين آتاهم الله الحكمة وزينهم ببهائها !!
رأس الحكمة أن تعرف الحكيم العليم ، حكيم حقا من عرف الحق سبحانه ، وغارق في ظلمات الليل من لم يعرف ربه تبارك وتعالى ..فيا طالبا وسام الحكمة ؛ عليك بوشاحها الأكرم وتاجها الأعظم : معرفة من عدل خلقك وأحكم أركانك ، جلّ في آياته وتنزه في صفاته .
-----------
(1) زاد المسير باختصار .
(2) أيسر التفاسير .
(3) الظلال .