سلامة الصدر
إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى
من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا،
من يهد الله تعالى، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أمّا بعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيّها المسلمون:
إنّ سعادةَ القلب وسرور النفس وطيبَ العيش وصفاء الحياة غايةٌ يسعى إليها الناس جميعًا، وهدفٌ ينشده الخلق كافة، وأملٌ يرجو بلوغَه العقلاء عامّة، فتراهم يعملون كلَّ وسيلة ويتَّخذون كلَّ سبب ويركبون كلَّ مركب يبلغون به هذه الغايةَ ويصلون به إلى هذا المراد. غيرَ أنّ من أنار الله بصيرتَه وألهمه رشده يعلم أن سلامةَ الصدر مِن الأحقاد وبراءَته من الضغائن وصيانته من الشحناء هو من أعظم ما يدرك به المرء حظَّه من السعادة، وينال به نصيبه من النجاح.
إنها سلامة الصدر التي تبدو واضحةً في حبه الخير للناس جميعًا وسروره بما يسوق الله إلى عباده من نِعم، وفي براءة نفسه من حمل الحقدِ على إخوانه وإضمار الضغينة لهم، وفي طهارة قلبه من الفرح بآلامهم والسرور بما ينزل بهم من مصائب. ولِمَ لا يكون هذا شأنَه وهو يتلو قول ربه الأعلى سبحانه في كتابه حكايةً عن دعاء المؤمنين الصادقين المخبتين في دعائهم الصادق المخبت: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10] ويقرأ قولَ النبي حين سأله عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أيّ الناس أفضل يا رسولَ الله؟ قال: ((كل مخموم القلب صدوق اللسان))، قيل: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التقيّ النقيّ، لا إثم فيه ولا بغيَ ولا غلَّ ولا حسد)) أخرجه ابن ماجه في سننه بإسناد صحيح.
وهذا لأنه يستيقن ـ كما قال بعض أهل العلم ـ أن الخصومةَ وما ينشأ عنها من أحقاد إذا نمت وغارت جذورها وتفرَّعت أشواكها شلَّت زهراتِ الإيمان الغضِّ وأذوَت ما يوحي به من حنانٍ وسلام، وعندئذ لا يكون في أداء العبادات المفروضة خير، ولا تستفيد منها النفس، فكثيرًا ما تطيش الخصومة بألبابِ ذويها، فتتدلى بهم إلى اقتراف الصغائر المسقِطة للمروءة والكبائر الموجِبة للَّعنة؛ ذلك أن الشر إذا تمكن من الأفئدة فتنافر ودُّها وانكسرت زجاجتها ارتد الناس إلى حال من القسوة والعناد يقطعون فيها ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض، انتهى كلامه -رحمه الله-.
عباد الله، إنه لما كان فساد القلب بالأحقاد ناشئا عن طبيعة فردية طاغية وأنانية مستحكِمة فلا عجب أن يغدوَ معولَ هدم في بنيان المجتمع المسلم القائم على قواعد الإيمان ووشائج الحبّ المشترَك والودّ المشاع والتعاون الوثيق. ومن المعروف أن الناس متفاوِتون في أفهامهم متبايِنون في مشاربهم مختلِفون في صفاتهم، وأن التقاءهم في دروب الحياة ومشيَهم في مناكب الأرض قد ينشأ عنه ضيقٌ وانحراف بل صِدام وتنافر؛ ولذا كان درء بوادر الخصومات قبل أن يستفحلَ أمرها وإهالة التراب على أسباب العداوات قبل أن تضطرم نيرانها، كان هذا مقصدا شرعيًّا عظيما ومنهجا إسلامِيّا قويما، شرعَ الله فيه لعباده من المبادئ والمسالك ما يدفع عنهم عوادي الفرقة وبواعث الشحناء.
فمن ذلك النهيُ عن التحاسد والتدابر الذي جاء فيه ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما -واللفظ للبخاري- عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: ((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحلّ لمسلم أن يهجرَ أخاه فوق ثلاثة أيام)) وهذا التوقيت -كما قال أهل العلم- مدةٌ تهدأ فيها الحدّة ويسكت الغضبُ فيها عن المتغاضِبَين، ثم يكون لِزامًا على المسلم بعدَها أن يصِلَ إخوانه وأن يعودَ معهم سيرتَه الأولى من الألفةِ والمحبة في الله، كأنّ القطيعة العابرة غمامة ما إن تجمَّعت حتى هبَّت عليها الرياح فبدَّدتها وصفَا الجوّ بعد عبوس.
وكلّ نزاع يكون فالمرء فيه أحد اثنين: إما أن يكون ظالما، وإما أن يكون مظلومًا، فإن كان ظالما متعدِّيًا على أخيه في نفسه أو أهله أو ماله وجب عليه الإقلاع عن ظلمه والتجافي عن عدوانه، وأن يستلَّ مِن قلب من ظلمه الضّغن بأن يعودَ عليه بما يرضيه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله : ((من كانت له مظلمةٌ لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلَّله منه اليوم قبل أن لا يكونَ دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدرِ مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) وإن كان مظلومًا فقد رُغِّب في اللين والسماحة وغفران الزلَّة والتجاوز عن الهفوة وقَبول المعذرة وعَدم ردِّها؛ لأن ردَّها وعدمَ قبولها رذيلة خُلُقيَّة وعِلّة نفسية دالّة على صَغار وفسادِ طبع وسوء طويّة وإصرارٍ على حبس النفس في سجن الأحقاد وأغلال الضغائن.
ومن ذلك تحريم الغيبة التي أوضح رسول الله حقيقتَها بقوله: ((ذكرك أخاك بما يكره)) قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟! قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه)) أخرجه مسلم في صحيحه.
ومما جاء تحريمه لكونه ذريعةً إلى تكدير صفوِ النفوس وتغيير القلوب النميمةُ، فقد قال رسول الله : ((لا يدخل الجنة نمام)) أخرجه البخاري في صحيحه، وهو الذي ينقل الحديثَ بين الناس لقصد إفساد وقطع حبل الود بينهم؛ ولذا نهى -صلوات الله وسلامه عليه- أن يبلَّغ عن أصحابه بما يسوؤه فقال: ((لا يبلغني أحد منكم عن أحد من أصحابي شيئا؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر)) أخرجه أبو داود بإسناد صحيح.
عباد الله، إن سلامةَ الصدر من الأحقاد باعث للمسلم على الفصل بين حظوظه التي نالها من الحياة وبين مشاعره تجاه إخوانه، فلا يجعل فشلَه فيما نجح فيه غيره سببًا لتمنّي الفشل والخسران للنّاس جميعًا؛ إذ هو أزكى نفسًا وأرقى فِكرًا مِن أن ينظرَ إلى الأمور نظرةً شخصيّة خاصّة، لكنه ينظر إلى الصالح العامّ مهما فاته من حظوظِ الدنيا؛ لأنّه يعلم أن الحسدَ داء عُضال وخصم لا يجتمع مع الإيمان في قلب مؤمن، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي في سننهما عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله : ((لا يجتمع في قلب عبدٍ الإيمان والحسد)) ولذا حذر منه صلوات الله وسلامه عليه أشدَّ تحذير بقوله: ((إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)) أخرجه أبو داود بإسناد صحيح.
ومن تردى في حمأة هذا الخلق الذميم والخصلة المقبوحة أدخل النقص على نفسه من جهتين: الأولى: أنه جعل الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، لها يقاتل ولأجلها يخاصم، والثانية: أنه ساقط الهمة حيث قعد عن طلب المعالي واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، وكان حقه أن يلجأ إلى ربه فيسأله من فضله، ثم يجتهد في إدراك ما قدّر له ويسعى في نيل ما كتب له مما يماثل ما حظِيَ به غيره، فإنَّ هذه هي الغبطة التي بينها رسول الله بقوله: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلَّطه على هَلَكتِه بالحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها)) أخرجه البخاري في صحيحه، فهو تمني مثيل النعمة، وليس تمني زوالها.
والمقصود -يا عباد الله- أن يكون المثَل الأعلى الذي يقصِده الإنسان ساميًا والهدف جليلاً.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على سلامة الصدور أن تفسدها الأحقاد وتعكِّرَ صفوَها الضغائن التي يتنغّص بها العيشَ وتتكدَّر بها الحياة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النساء:32].
نَفَعني الله وإيّاكُم بهديِ كتابِه وبِسنّةِ نبيِّه ، أَقولُ قَولي هَذَا، وَأستَغفِر اللهَ العَظيمَ الجَليلَ لِي وَلَكم ولسائِرِ المسلِمين من كلِّ ذنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحَمدُ للهِ الولي الحميد، الفعّال لما يريد، أحمدُه سبحانَه، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وَحدَه لا شَريكَ لَه المبدئ المعيد، وأَشهَد أنّ سيِّدَنا ونَبيَّنا محمّدًا عَبد الله ورَسولُه صاحب الخلق الرشيد والنهج السديد، اللَّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورَسولك محمّد وعلى آلهِ وصَحبه.
أما بعد:
فيا عبادَ الله، إن البغضاءَ التي حرَّمها الله ورسوله هي تلك التي تكون لأجل الدنيا والتزاحم عليها والتنافس في متاعها، أما الغضب لله والبغض لأجل الحقِّ فهذا ليس من ذلك، بل هو مأمور به لأنه من دلائل صحَّة الإيمان وأمارات الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله ، فقد أمر الله بمجافاة أعدائه حتى لو كانوا أقربَ الخلق فقال عزّ اسمه: (لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) [التوبة:23] إلى غير ذلك من الآيات الدالَّةِ على هذا.
فاتقوا الله عبادَ الله، واعملوا على كلِّ ما تبلغون به رضوانَ الله.
وصلُّوا وسلِّموا على خاتَمِ رسلِ الله محمّدِ بن عبد الله، فقَد أمِرتم بذلِك في كتابِ الله حيث قال الله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم علَى عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الأربعة.