قال تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إليه مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾ [البقرة: 285].
وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 136].
وقال الله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ﴾ [البقرة: 177].
قال ابن كثير: "إنما البر هو طاعة الله عز وجل، وامتثال أوامره.
الإيمان: التصديق، والله تعالى المؤمن؛ لأنه آمن عباده من أن يظلمهم، وأصل آمن أأمن بهمزتين، لينت الثانية، والأمن: ضد الخوف، والأَمَنة بالتحريك: الأمن، ومنه قوله - عز وجل -: ﴿أَمَنَةً نُعَاسًا ﴾ [آل عمران: 154]، والأَمَنة أيضًا: الذي يثقُ بكل أحد، وكذلك الأُمَنَة، وأمِنْتُه على كذا وائتَمنتُه بمعنًى، وقُرِئ ﴿ مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ ﴾ [يوسف: 11] بين الإدغام وبين الإظهار، قال الأخفش: والإدغام أحسن، وتقول: اؤتمن فلان - على ما لم يُسم فاعله - واستأمن إليه؛ أي: دخل في أمانِه، وقوله تعالى: ﴿ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴾ [التين: 3]، قال الأخفش: يريد الآمن، وهو من الأمن، قال: وقد يقال: الأمينُ المأمونُ.
وقوله تعالى: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، وقوله: ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ﴾ [الفرقان: 2]، وكقوله: ﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ [الأعلى: 1 - 3]؛ أي: قدر قدرًا، وهدى الخلائق إليه؛ ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمةُ السنة على إثبات قدَر الله السابق لخلقه، وهو علمه الأشياء قبل كونها، وكتابته لها قبل برئها، وردُّوا بهذه الآية وبما شاكلها من الآيات، وما ورد في معناها من الأحاديث الثابتات، على الفرقة القدرية الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة.
قال أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا سفيان الثوري، عن زياد بن إسماعيل السهمي، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنزلت: ﴿ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 48، 49]؛ وهكذا رواه مسلم والترمذي وابن ماجه، من حديث وكيع، عن سفيان الثوري، به.
عن عمر رضي الله تعالى عنه أيضًا قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذاتَ يومٍ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرَى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتَيْه، ووضع كفَّيْه على فخِذَيْه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً))، قال: صدقت، فعجبْنا له يسأله ويُصدِّقه، قال: فأخبِرْني عن الإيمان، قال: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره))، قال: صدقت، قال: فأخبِرْني عن الإحسان، قال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، قال: فأخبِرْني عن الساعة، قال: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل))، قال: فأخبِرْني عن أماراتِها، قال: ((أن تلِدَ الأَمَةُ ربَّتها، وأن ترى الحفاةَ العراةَ العالةَ رِعاءَ الشاءِ يتطاولون في البنيانِ))، ثم انطلق فلبثتُ مليًّا، ثم قال: ((يا عمر، أتدري مَن السائل؟))، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم))؛ رواه مسلم.
فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحدٌ أحد، فرد صمد، لا إله غيره، ولا رب سواه، وهو الإله القادر عليهم، القاهر لهم، الحكيم، العليم بهم باطنًا وظاهرًا، يعلم خائنةَ الأعين وما تخفي الصدور، الرؤوف الرحيم، الرزاق الكريم، فلا يعبدون ربًّا غيره، ولا يتضرَّعون بالدعاء إلى أحدٍ من دونه، ولا يلجؤون في الشدائد إلا إليه طلبًا للنجاة والرحمة.
هم يُصدِّقون بجميع الأنبياء والمرسلين، وبجميع الكتب التي أُنزِلت من السماء عليهم، ولا يُفرِّقون بين أحد من رسله فلا يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون بالبعض الآخر، بل يؤمنون بالجميع كما جاء في كتاب الله جل وعلا، ويُنْزِلون الجميع منازلَهم التي ذكرها الله - جل وعلا - في كتابه، والرسولُ صلى الله عليه وسلم في سنته، من أنهم صادقون بارُّون، يهدون إلى سبل الخير والرشاد، ويدلُّون أممهم التي أُرسِلوا إليها لعبادة رب العباد، ويُخرِجون - بإذن الله - الناسَ من ظلمات الجهل والغَواية، إلى نور الإيمان والهداية، ويُؤمِنون بكل شرائعهم، ويؤمنون بأنها جميعًا نُسِخت بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، والتي ستبقى حتى قيام الساعة، وأنه لا تزال طائفة من أمَّتِه على الحق ظاهرين، وبه عاملين، وعنه مدافعين، ولأهله مناصرين.
وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].
معنى الطاغوت: ما تجاوز به العبدُ حدَّه من معبودٍ أو متبوع أو مطاع.
وهذا هو أَولى الفروض بالتقدُّم، وأعلى الحقوق وأعظمها، وهو حق الله تعالى أن يُوحَّد، وأن يُعبَد وحده لا شريك له، وأن يُجتَنَب كلُّ طاغوت من شيطان وغيره أن يعبد، وكل ما يدعو إلى الضلال، وهو مخالفة شرع الله الذي أنزله على رسله.
اعلم أن التوحيد الذي بعَث الله به الرسلَ، وأنزل به الكتب، ينقسم إلى أقسام ثلاثة، حسب استقراء النصوص من الكتاب والسنة، وحسب واقع المكلَّفين:
القسم الأول: توحيد الربوبية، وهو توحيد الله بأفعاله سبحانه، وهو الإيمان بأنه الخالق الرازق، المدبر لأمور خلقه، المتصرف في شؤونهم في الدنيا والآخرة، لا شريك له في ذلك، كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [الزمر: 62]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ﴾ [يونس: 3] الآية، وهذا النوع قد أقرَّ به المشركون عبَّادُ الأوثان - وإن جحد أكثرهم البعث والنشور - ولم يُدخِلْهم في الإسلام؛ لشركهم بالله في العبادة، وعبادتهم الأصنامَ والأوثان معه سبحانه، وعدم إيمانهم بالرسول محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
القسم الثاني: توحيد العبادة، ويسمى توحيد الألوهية، وهي العبادة، وهذا القسم هو الذي أنكره المشركون فيما ذكر الله عنهم سبحانه بقوله:﴿ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص: 4، 5]، وأمثالها كثير، وهذا القسم يتضمَّن إخلاص العبادة لله وحده، والإيمان بأنه المستحق لها، وأن عبادة ما سواه باطلة، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، فإن معناها لا معبود بحق إلا الله، كما قال الله - عز وجل -: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ﴾ [الحج: 62].
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات: وهو الإيمان بكل ما ورد في كتاب الله العزيز، وفي السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، من أسماء الله وصفاته، وإثباتها لله سبحانه على الوجه الذي يليق به، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، كما قال الله سبحانه: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ [الإخلاص: 1 - 4]، وقال سبحانه: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾ [الأعراف: 180]، وقال سبحانه في سورة النحل: ﴿ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [النحل: 60]، والآيات في هذا المعنى كثيرة، والمثل الأعلى هو الوصف الأعلى الذي لا نقص فيه، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأتباعهم بإحسانٍ، يُمِرُّون آيات الصفات وأحاديثَها كما جاءت، ويُثبِتونَ معانيَها لله سبحانه إثباتًا بريئًا من التمثيل، ويُنَزِّهون الله سبحانه عن مشابهة خلقه تنزيهًا بريئًا من التعطيل، وبما قالوا تجتمع الأدلة من الكتاب والسنة، وتقوم الحجة على مَن خالفهم، وهم المذكورون في قوله سبحانه: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100].
وقال ابن أبي العز الحنفي:
اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله.
قال تعالى: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59].
وقال هود عليه السلام لقومه: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 59].
وقال صالح عليه السلام لقومه: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 73].
وقال شعيب عليه السلام لقومه: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [الأعراف: 85].
وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾ [النحل: 36].
وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله))؛ رواه البخاري ومسلم.
ولهذا؛ كان الصحيح أن أوَّل واجب يجب على المكلَّف شهادةُ أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك، كما هي أقوال أرباب الكلام المذموم، بل أئمةُ السلف كلهم متَّفقون على أن أول ما يُؤمَر به العبد الشهادتانِ، ومتَّفِقون على أن مَن فعل ذلك قبل البلوغ لم يُؤمَر بتجديد ذلك عقيب بلوغه، بل يُؤمَر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميَّز عند مَن يرى ذلك، ولم يُوجِب أحدٌ منهم على وليِّه أن يخاطبه حينئذٍ بتجديد الشهادتين، وإن كان الإقرار بالشهادتين واجبًا باتفاق المسلمين، ووجوبه يسبق وجوب الصلاة، لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك.
وهنا مسائل تكلَّم فيها الفقهاء؛ كمَن صلَّى ولم يتكلَّم بالشهادتين، أو أتى بغيرِ ذلك من خصائص الإسلام، ولم يتكلَّم بها، هل يصير مسلمًا أم لا؟
فالصحيح أنه يصير مسلمًا بكل ما هو من خصائص الإسلام، فالتوحيد أوَّلُ ما يدخل في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن كان آخر كلامِه لا إله إلا الله، دخل الجنة))، وهو أول واجب وآخر واجب، فالتوحيد أول الأمر وآخره؛ أعني توحيد الإلهية.
فإن التوحيد يتضمَّن ثلاثة أنواع:
أحدها: الكلام في الصفات.
والثاني: توحيد الربوبية، وبيان أن الله وحده خالق كل شيء.
والثالث: توحيد الإلهية، وهو استحقاقه سبحانه وتعالى أن يُعبَد وحده لا شريك له.
أما الأول، فإن نُفاة الصفات أدخلوا نفيَ الصفات في مسمى التوحيد؛ كالجهم بن صفوان ومَن وافقه، فإنهم قالوا: إثبات الصفات يستلزم تعدُّد الواجب، وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة، فإن إثبات ذاتٍ مجرَّدة عن جميع الصفات لا يُتصوَّر لها وجودٌ في الخارج، وإنما الذهن قد يفرض المُحال ويتخيله، وهذا غاية التعطيل، وهذا القول قد أفضى بقومٍ إلى القول بالحلول والاتحاد، وهو أقبح من كفر النصارى، فإن النصارى خصوه بالمسيح، وهؤلاء عمُّوا جميع المخلوقات.
ومن فروع هذا التوحيد: أن فرعون وقومه كاملو الإيمان، عارفون بالله على الحقيقة!
ومن فروعه: أن عباد الأصنام على الحق والصواب، وأنهم إنما عبَدوا الله لا غيره!
ومن فروعه: أنه لا فرق في التحريم والتحليل بين الأم والأخت والأجنبية، ولا فرق بين الماء والخمر، والزنا والنكاح، الكل من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة.
ومن فروعه: أن الأنبياء ضيَّقوا على الناس.
تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.
وأما الثاني: وهو توحيد الربوبية، كالإقرار بأنه خالقُ كلِّ شيءٍ، وأنه ليس للعالَم صانعانِ متكافئان في الصفات والأفعال، وهذا التوحيد حقٌّ لا ريب فيه، وهو الغاية عند كثير من أهل النظر والكلام وطائفة من الصوفية.
وهذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورةً على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل فيما حكى الله عنهم: ﴿ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [إبراهيم: 10]، وأشهر مَن عُرِف تجاهلُه وتظاهرُه بإنكار الصانعِ هو فرعونُ، وقد كان مستيقنًا به في الباطن، كما قال موسى: ﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ ﴾ [الإسراء: 102]، وقال تعالى عنه وعن قومه: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14]؛ ولهذا لما قال: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 23]؟ على وجه الإنكار له تجاهل العارف، قال له موسى: ﴿ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [الشعراء: 24 - 28].
وقد زعم طائفةٌ أن فرعون سأل موسى مستفهمًا عن الماهية، وأن المسؤول عنه لما لم يكن له ماهية، عجز موسى عن الجواب! وهذا غلط؛ وإنما هذا استفهامُ إنكارٍ وجحد، كما دل سائر آيات القرآن على أن فرعون كان جاحدًا لله، نافيًا له، لم يكن مثبتًا له طالبًا للعلم بماهيته؛ فلهذا بيَّن لهم موسى أنه معروف، وأن آياته ودلائل ربوبيته أظهر وأشهر من أن يسأل عنه بما هو؟ بل إنه أعرف وأظهر وأبين من أن يُجهَل، بل معرفته مستقرَّة في الفِطَر أعظم من معرفة كل معروف.
ولم يُعرَف عن أحدٍ من الطوائف أنه قال: إن العالَم له صانعان متماثلان في الصفات والأفعال، فإن الثنويَّة من المجوس، والمانويَّة القائلين بالأصلين: النور والظُّلمة، وأن العالَم صدر عنهما - متفقون على أن النور خير من الظلمة، وهو الإله المحمود، وأن الظلمة شريرة مذمومة، وهم متنازعون في الظلمة، هل هي قديمة أو محدثة؟ فلم يثبتوا ربَّينِ متماثلين.
وأما النصارى القائلون بالتثليث، فإنهم لم يثبتوا للعالَم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل متفقون على أن صانع العالَم واحد، ويقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، وقولهم في التثليث متناقض في نفسه، وقولهم في الحلول أفسد منه؛ ولهذا كانوا مضطربين في فهمه، وفي التعبير عنه، لا يكاد واحد منهم يعبر عنه بمعنًى معقول، ولا يكاد اثنان يتفقان على معنًى واحد، فإنهم يقولون: هو واحد بالذات، ثلاثة بالأقنوم! والأقانيم يفسرونها تارةً بالخواص، وتارةً بالصفات، وتارةً بالأشخاص، وقد فَطَر الله العباد على فساد هذه الأقوال بعد التصور التام، وبالجملة فهم لا يقولون بإثبات خالقين متماثلين.
والمقصود هنا: أنه ليس في الطوائف مَن يُثبِت للعالَم صانعينِ متماثلين، مع أن كثيرًا من أهل الكلام والنظر والفلسفة تعبوا في إثبات هذا المطلوب وتقريره، ومنهم مَن اعترف بالعجز عن تقرير هذا بالعقل، وزعم أنه يُتلقَّى من السمع.
والمشهور عند أهل النظر إثباتُه بدليل التمانع، وهو: أنه لو كان للعالَم صانعانِ، فعند اختلافهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر تسكينه، أو يريد أحدهما إحياءه والآخر إماتته: فإما أن يحصل مرادهما، أو مراد أحدهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما، والأول ممتنع؛ لأنه يستلزم الجمع بين الضدين، والثالث ممتنع؛ لأنه يلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون، وهو ممتنع، ويستلزم أيضًا عجز كل منهما، والعاجز لا يكون إلهًا، وإذا حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان هذا هو الإله القادر، والآخر عاجزًا لا يصلح للإلهية، وتمام الكلام على هذا الأصل معروف في موضعه.
وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [الأنبياء: 22]؛ لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرَّروه هو توحيد الإلهية الذي بيَّنه القرآن، ودَعَت إليه الرسل عليهم السلام، وليس الأمر كذلك، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب، هو توحيد الإلهية المتضمِّن توحيد الربوبية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن المشركين من العرب كانوا يُقرِّون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السموات والأرض واحد، كما أخبر تعالى عنهم بقوله: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [لقمان: 25]، ﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [المؤمنون: 84، 85]، ومثل هذا كثير في القرآن، ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالَم، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم، تارةً يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين، ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم إلى الله، وهذا كان أصل شرك العرب، قال تعالى حكايةً عن قوم نوح: ﴿ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴾ [نوح: 23].
وقد ثبت في صحيح البخاري وكتب التفسير وقصص الأنبياء وغيرها، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره من السلف، أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورِهم، ثم صوَّروا تماثيلَهم، ثم طال عليهم الأَمَد فعبَدوهم، وأن هذه الأصنام بعينِها صارت إلى قبائل العرب، ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما قبيلةً قبيلةً.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهيَّاج الأسدي، قال: قال لي عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثُك على ما بعَثَني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (أمرني ألا أدع قبرًا مشرفًا إلا سوَّيته، ولا تمثالاً إلا طمسته).
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرض موتِه: ((لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، يُحذِّر ما فعلوا، قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأُبرِز قبرُه، ولكن كرِه أن يُتَّخذ مسجدًا.
وفي الصحيحين أنه ذُكِر في مرض موته كنيسةٌ بأرض الحبشة، وذُكِر له من حسنها وتصاوير فيها، فقال: ((إن أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنَوا على قبره مسجدًا، وصوَّروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة)).
وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال قبل أن يموت بخمس: ((إن مَن كان قبلكم كانوا يتَّخِذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتَّخِذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)).
ومن أسباب الشرك عبادةُ الكواكب، واتخاذ الأصنام بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها، وشرك قوم إبراهيم عليه السلام كان فيما يقال من هذا الباب، وكذلك الشرك بالملائكة والجن، واتخاذ الأصنام لهم.
وهؤلاء كانوا مُقرِّين بالصانع، وأنه ليس للعالَم صانعان، ولكن اتَّخذوا هؤلاء شفعاء، كما أخبر عنهم تعالى بقوله: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: 3]،﴿ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [يونس: 18].
وكذلك كان حال الأمم السالفة المشركين الذين كذَّبوا الرسل، كما حكى الله تعالى عنهم في قصة صالح عليه السلام عن التسعةِ الرهط الذين تقاسموا بالله - أي: تحالفوا بالله - لنُبيِّتَنَّه وأهله، فهؤلاء المفسدون المشركون تحالفوا باللهِ على قتل نبيِّهم وأهله، وهذا بين أنهم كانوا مؤمنين بالله إيمان المشركين، فعُلِم أن التوحيد المطلوب هو توحيد الإلهية الذي يتضمن توحيد الربوبية، قال تعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ * وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ﴾ [الروم: 30 - 36].
وقال تعالى: ﴿ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [إبراهيم: 10].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ مولودٍ يُولَد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه))؛ البخاري ومسلم وغيرهما.
ولا يقال: إن معناه يولد ساذجًا لا يعرف توحيدًا ولا شركًا، كما قال بعضهم؛ لما تلونا، ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه - عز وجل -: ((خلقتُ عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين))؛ الحديث رواه مسلم.
وفي الحديث المتقدِّم ما يدلُّ على ذلك؛ حيث قال: ((يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه))، ولم يقل: ويسلمانه، وفي رواية: ((يُولَد على الملة))، وفي أخرى: ((على هذه الملة)).
وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم، هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه؛ منها:
أن يقال: لا ريب أن الإنسان قد يحصلُ له من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقًّا، وتارةً ما يكون باطلاً، وهو حسَّاس مُتحرِّك بالإرادات، ولا بد له من أحدهما، ولا بد له من مرجح لأحدهما، ونعلم أنه إذا عُرِض على كلِّ أحدٍ أن يُصدِّق وينتفع، وأن يُكذِّب ويتضرَّر، مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع، وحينئذٍ فالاعتراف بوجودِ الصانع والإيمان به هو الحق أو نقيضه، والثاني فاسد قطعًا، فتعيَّن الأول، فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به، وبعد ذلك إما أن يكون في فطرته محبته أنفع للعبد أو لا، والثاني فاسد قطعًا، فوجب أن يكون في فطرته محبة ما ينفعه.
ومنها: أنه مفطورٌ على جلب المنافع ودفع المضارِّ بحسه، وحينئذٍ لم تكن فطرة كل واحد مستقلةً بتحصيل ذلك، بل يحتاج إلى سبب مُعِين للفطرة؛ كالتعليم ونحوه، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع، استجابت لما فيها من المقتضي لذلك.
ومنها: أن يقال: من المعلوم أن كلَّ نفس قابلةٌ للعلم وإرادة الحق، ومجرَّد التعليم والتحضيض لا يوجب العلم والإرادة، لولا أن في النفس قوةً تقبل ذلك، وإلا فلو عُلِّم الجُهَّال والبهائم وحُضِّضَا لم يقبلا.
ومعلوم أن حصولَ إقرارِها بالصانع ممكنٌ من غير سببٍ منفصل من خارج، وتكون الذات كافيةً في ذلك، فإذا كان المقتضي قائمًا في النفس وقُدِّر عدم المعارض، فالمقتضي السالِم عن المعارض يوجب مقتضاه، فعُلِم أن الفطرة السليمة إذا لم يحصل لها ما يفسدها، كانت مقرةً بالصانع عابدةً له.
ومنها: أن يقال: إنه إذا لم يحصل المُفسِد الخارج، ولا المُصلِح الخارج، كانت الفطرة مقتضيةً للصلاح؛ لأن المقتضي فيها للعلم والإرادة قائم، والمانع منتفٍ.
ويحكى عن أبي حنيفة - رحمه الله - أن قومًا من أهل الكلام أرادوا البحثَ معه في تقرير توحيد الربوبية، فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دِجْلةَ تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها، فترسو بنفسها، وتفرغ وترجع، كل ذلك من غير أن يدبِّرها أحد! فقالوا: هذا محال لا يمكن أبدًا! فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟! وتحكى هذه الحكاية أيضًا عن غير أبي حنيفة.
فلو أقرَّ رجلٌ بتوحيد الربوبية، الذي يُقِرُّ به هؤلاء النظار، ويفنَى فيه كثيرٌ من أهل التصوُّف، ويجعلونَه غايةَ السالكين، كما ذكره صاحب (منازل السائرين) وغيره، وهو مع ذلك إن لم يعبُدِ الله وحده ويتبرَّأ من عبادة ما سواه، كان مشركًا من جنس أمثاله من المشركين.
والقرآن مملوء من تقرير هذا التوحيد وبيانه وضرب الأمثال له؛ ومن ذلك أنه يقرر توحيد الربوبية، ويبين أنه لا خالق إلا الله، وأن ذلك مستلزم ألا يعبد إلا الله، فيجعل الأول دليلاً على الثاني؛ إذ كانوا يُسلِّمون في الأول، وينازعون في الثاني، فيبيِّن لهم سبحانه أنكم إذا كنتم تعلمون أنه لا خالق إلا الله وحده، وأنه هو الذي يأتي العباد بما ينفعهم، ويدفع عنهم ما يضرهم، لا شريك له في ذلك، فلمَ تعبدون غيره، وتجعلون معه آلهةً أخرى؟ كقوله تعالى: ﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ [النمل: 59، 60].
يقول الله تعالى في آخر كل آية: ﴿ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ﴾؛ أي: أإله مع الله فعل هذا؟
وهذا استفهام إنكارٍ، يتضمَّن نفي ذلك، وهم كانوا مُقرِّين بأنه لم يفعَل ذلك غير الله، فاحتجَّ عليهم بذلك، وليس المعنى أنه استفهام: هل مع الله إله؟ كما ظنه بعضهم؛ لأن هذا المعنى لا يناسب سياق الكلام، والقوم كانوا يجعلون مع الله آلهةً أخرى، كما قال تعالى: ﴿ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ ﴾ [الأنعام: 19]، وكانوا يقولون: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص: 5]، لكنهم ما كانوا يقولون: إن معه إلهًا ﴿ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [النمل: 61]، بل هم مُقرُّون بأن الله وحدَه فعل هذا، وهكذا سائر الآيات.
وكذلك قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 21]، وكذلك قوله في سورة الأنعام: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ ﴾ [الأنعام: 46]، وأمثال ذلك.
وإذا كان توحيدُ الربوبية الذي يجعله هؤلاء النظَّار ومَن وافقهم من الصوفية هو الغايةَ في التوحيد - داخلاً في التوحيد الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب، فليُعلَم أن دلائله متعددة، كدلائل إثبات الصانع، ودلائل صدق الرسول، فإن العلم كلما كان الناس إليه أحوج كانت أدلته أظهر؛ رحمةً من الله بخلقه.
والقرآن قد ضرب الله للناسِ فيه من كلِّ مَثَلٍ، وهي المقاييس العقلية المفيدة للمطالب الدينية، لكن القرآن يُبيِّن الحق في الحكم والدليل، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وما كان من المقدمات معلومةً ضروريةً متفقًا عليها، استدل بها، ولم يُحتَجْ إلى الاستدلال عليها.
والطريقة الفصيحة في البيان أن تحذف، وهي طريقة القرآن، بخلاف ما يدَّعيه الجهَّال الذين يظنون أن القرآن ليس فيه طريقة برهانية، بخلاف ما قد يشتبهُ ويقع فيه نزاع، فإنه يبينه ويدل عليه.
ولما كان الشركُ في الربوبية معلومَ الامتناع عند الناس كلهم، باعتبار إثبات خالقينِ متماثلينِ في الصفات والأفعال، وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن ثَمَّ خالقًا خلَق بعض العالَم، كما يقوله الثنوية في الظُّلمة، وكما يقوله القدَريَّة في أفعال الحيوان، وكما يقوله الفلاسفة الدهرية في حركة الأفلاك، أو حركات النفوس أو الأجسام الطبيعية، فإن هؤلاء يُثبِتون أمورًا محدثةً بدون إحداث الله إياها، فهم مُشرِكون في بعض الربوبية، وكثيرٌ من مشركي العرب وغيرهم قد يظن في آلهته شيئًا من نفع أو ضر بدون أن يخلق الله ذلك.
فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجودًا في الناس، بيَّن القرآن بطلانه، كما في قوله تعالى: ﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ [المؤمنون: 91]، فتأمَّل هذا البرهان الباهر، بهذا اللفظ الوجيز الظاهر، فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقًا فاعلاً، يُوصِل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إلهٌ آخر يَشرَكُه في مُلكه، لكان له خلق وفعل، وحينئذٍ فلا يرضى تلك الشركة، بل إن قدَر على قهر ذلك الشريك وتفرُّده بالمُلكِ والإلهية دونه، فعَلَ، وإن لم يقدِرْ على ذلك، انفرَد بخلقه وذهب بذلك الخلق، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضُهم عن بعض بملكه، إذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه، فلا بد من أحد ثلاثة أمور:
• إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه.
• وإما أن يعلو بعضهم على بعض.
• وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرَّف فيهم كيف يشاء، ولا يتصرفون فيه، بل يكون وحده هو الإله، وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه.
وانتظام أمر العالَم كلِّه وإحكام أمره، من أدلِّ دليل على أن مدبِّرَه إلهٌ واحد، وملك واحد، ورب واحد، لا إله للخلق غيره، ولا رب لهم سواه، كما قد دل دليلُ التمانع على أن خالقَ العالَم واحد، لا رب غيره ولا إله سواه، فذلك تمانعٌ في الفعل والإيجاد، وهذا تمانعٌ في العبادة والإلهية، فكما يستحيل أن يكون للعالَم ربَّانِ خالقان متكافئان، كذلك يستحيل أن يكون لهم إلهان معبودان.
فالعلم بأن وجود العالَم عن صانعين متماثلين ممتنعٌ لذاته، مستقر في الفِطر، معلوم بصريح العقل بطلانه، فكذا تبطُلُ إلهيَّة اثنين، فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفِطر من توحيد الربوبية، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الإلهية.
وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [الأنبياء: 22]، وقد ظنَّ طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدَّم ذكرُه، وهو أنه لو كان للعالَمِ صانعانِ... إلخ، وغفلوا عن مضمون الآية، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره، ولم يقل: أرباب.
وأيضًا، فإن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كان فيهما - وهما موجودتان - آلهة سواه لفسدتا.
وأيضًا، فإنه قال: ﴿ لَفَسَدَتَا ﴾، وهذا فسادٌ بعد الوجود، ولم يقل: لم يُوجَدا، ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعدِّدة، بل لا يكون الإله إلا واحدًا، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى، وأن فساد السموات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددةً، ومن كون الإله الواحد غير الله، وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غير، فلو كان للعالَم إلهانِ معبودانِ، لفسد نظامُه كله، فإن قيامه إنما هو بالعدل، وبه قامت السموات والأرض.
وأظلم الظلم على الإطلاق الشرك، وأعدل العدل التوحيد.
وتوحيد الإلهية متضمِّن لتوحيد الربوبية دون العكس، فمَن لا يقدر على أن يخلق يكون عاجزًا، والعاجز لا يصلح أن يكون إلهًا، قال تعالى: ﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [الأعراف: 191]، وقال تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 17]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 42].
وفيها للمتأخرين قولان:
أحدهما: لاتَّخذوا سبيلاً إلى مغالبته.
والثاني، وهو الصحيح المنقول عن السلف، كقتادة وغيره، وهو الذي ذكره ابن جرير ولم يذكر غيره: لاتَّخذوا سبيلاً بالتقرب إليه؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا﴾ [الإنسان: 29]؛ وذلك أنه قال: ﴿ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ ﴾، وهم لم يقولوا: إن العالَم له صانعانِ، بل جعلوا معه آلهةً اتخذوهم شفعاء، وقالوا: ﴿ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر: 3]، بخلاف الآية الأولى.
علي محمد سلمان العبيدي