الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه، وبعد:
ماذا تحسّ تجاه إخوانك وأصحابك ومعارفك... وتجاه إخوتك في الدين في كل أنحاء المعمورة؟! إن فيهم العالم والجاهل، والتقيّ والمقتصد، والغني والفقير، ومن ترضى طريقته وفهمه ومذهبه واتجاهه... ومن تخالفه في شيء من ذلك أو أشياء...
هل يغلب على إحساسك تجاه هؤلاء جميعاً شعور الأخوة في الله، والحب في الله، أم تقف الحوائلُ دون ذلك، حوائلُ الحسد والخصومة والتنافس وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فتراك تُحرَم من نعمة الإخاء في الله والحب فيه؟!.
إن أعظم نعمة أنعمها الله عليك هي هذا الإيمان الذي يعمر قلبك، وهذه المعاني المتفرعةُ عن الإيمان، فإذا تذوّقتَ هذه المعاني فأنت في بحبوحة الإيمان، وأنت أهلٌ للفوز برضوان الله - تعالى -وجنته.
لقد قرّر القرآن رابطة الأخوّة بين المؤمنين: (إنما المؤمنون إخوة) سورة الحجرات: 10.
وقرّر أن تأليف قلوب المؤمنين ليجعلهم إخواناً، هي نعمة من نعم الله:
(واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً) سورة آل عمران: 103.
وجاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لتدعو إلى ما يعمّق الأخوّة والمحبّة بين المؤمنين، وتأمر بذلك أمراً مشدّداً، وتنهى عن كل ما يعكّر صفو القلوب، ويوجد الشحناء والبغضاء والقطيعة بينهم.
فالتراحم، والتعاون على البر والتقوى، والتناصح، والتواضع ولين الجانب، وإصلاح ذات البين، والإيثار، والتزاور والتهادي، وإفشاء السلام، والتناصر، وحسن الظن... كل هذا من دواعي الحب في الله، ومن مؤكداته ومعزِّزاته، وهي مما أمر به الدين.
وسوء الظن، والغيبة، والنميمة، والسباب، والقتال، والحسد، والتجسس، والغش والظلم والخذلان والبغضاء... من الأمور التي تتنافى مع الأخوة، وتهدم الحب في الله، وتفرّق القلوب، وتبعد عن الله.
نقرأ في كتاب الله - تعالى -: (هو الذي أيّدك بنصره وبالمؤمنين * وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الارض جميعاً ما ألَّفتَ بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم. إنه عزيز حكيم). سورة الأنفال: 62 و63.
(والذين تبوَّؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبّون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة). سورة الحشر: 9.
(محمد رسول الله والذين معه أشداءُ على الكفار رحماءُ بينهم) سورة الفتح: 29.
(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم). سورة آل عمران: 105.
(يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً) سورة الحجرات: 12.
نقرأ هذا فندرك مِنّة الله علينا بتأليف قلوبنا، ونلحظ روح الرحمة والإيثار، بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من المهاجرين والأنصار، ونسمع التحذير من التفرق والاختلاف وكل ما يجرح الأخوة أو يعكّر صفو القلوب، من سوء ظن وتجسس وغيبة...
ونقرأ في أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم -:
1- (( إن الله - تعالى -يقول يوم القيامة: أين المتحابُّون بجلالي؟ اليوم أُظِلّهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلّي)) حديث قدسي رواه مسلم.
2- (( والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا. أولا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم)) رواه مسلم.
3- (( قال الله - تعالى -: وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيَّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ)) حديث قدسي صحيح، رواه مالك.
4- (( لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه)) رواه أحمد والبخاري ومسلم.
5- (( إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخَرَ أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)) رواه مسلم.
6- (( إياكم والظنَّ، فإن الظن أكذبُ الحديث، ولا تحسَّسُوا، ولا تجسَّسُوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً كما أمركم. المسلم أخو المسلم: لا يظلمه، ولا يخذُله ولا يحقِرُه. التقوى ههنا، التقوى ههنا (ويشير إلى صدره). بحسْب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه ومالُه)) رواه مسلم.
7- ((سباب المسلم فسوق، وقتالُه كفر)) رواه مسلم.
هذا فضلاً عن أحاديث نبوية كثيرة في بر الوالدين وصلة الرحم، وتقديم الهدية، وإكرام الجار والضيف، وعيادة المريض، وإعانة ذي الحاجة والملهوف، وإدخال السرور على قلب المسلم، وكشف الكربة عنه وقضاء الدين عنه، وحسن الخلق مع الناس والرفق بهم والحِلْم عليهم، والعفو عنهم، وبذْل الكلمة الطيبة.
وإذا كان تأكيد الأخوة في الله، والحب فيه، بهذا الوضوح في كتاب الله - تعالى -وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فما مكانة الأواصر الأخرى، كآصرة العشيرة والبلد والمهنة... ؟ الصحيح أن لكل آصرة مكانتها التي لا ترقى أن تكون بديلاً عن آصرة الأخوة في الله، ولا أن تكون منافسة لها. فللمسلم أن يحب قرابته المسلمين ويواسيهم ويرفق بهم... أكثر مما يفعله مع سائر المسلمين، لكنه لا يمكن أن يمنح مودّته للكافر مهما اشتدت قرابته منه، وقد قال - تعالى -: (لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم). سورة المجادلة: 22.
بل إن آية كريمة توعَّدَتْ أشد الوعيد من قدَّم أحداً، أو قدّم شيئاً، على حب الله ورسوله وجهاد في سبيله:
(قل: إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهادٍ في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) سورة التوبة: 24.
فمن وجد قلبه مملوءاً بحب الله - تعالى -، وحب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وحب دينه، وحب إخوانه المؤمنين، فليحمد الله - تعالى -، وليستمسك بذلك. ومن وجد نضوباً لهذا الحب في قلبه، أو وجد نفسه يقدّم شيئاً على حب الله وأوليائه...فليراجع نفسه، وليسأل الله أن يهديه سواء السبيل.