تأملات في قوله تعالى : ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾ .
تأملات في قوله تعالى
﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ﴾
د. أمين بن عبد الله الشقاوي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..
وبعد :
فنقف وقفة يسيرة مع آية من كتاب الله ..
قوله تعالى : ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].
يقول تبارك وتعالى : قل يا محمد معظمًا لربك وشاكرًا له ومفوضًا إليه ومتوكلًا عليه : اللهم مالك الملك ، والملك : قيل : النبوة، وقيل : الغلبة، وقيل : المال والعبيد.
والصحيح الذي رجحه بعض المفسرين أنه عام لما يصدق عليه اسم الملك من غير تخصيص، فقوله : ﴿ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ﴾ [آل عمران: 26]، أي : أنت المعطي وأنت المانع وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن، وأنت المتصرف في خلقك الفعال لما تريد.
قال ابن كثير - رحمه الله -:
رد تعالى على من يحكم عليه في أمره حيث قال : وقالوا - أي الكفار - لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، كالوليد بن المغيرة. وغيره. قال الله ردًا عليهم : ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ﴾ [الزخرف: 32].
أي أهم الخزان لرحمة الله، وبيدهم تدبيرها، فيعطون النبوة والرسالة من يشاؤون، ويمنعونها عمن يشاؤون، فنحن نتصرف فيما خلقنا كما نريد بلا مانع ولا مدافع، لنا الحكمة البالغة والحجة التامة، وهكذا يعطي النبوة لمن يريد، قال سبحانه : ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124][1]. اهـ.
قوله تعالى : ﴿ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].
قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي :
أي الخير كله منك ولا يأتي بالحسنات والخيرات إلا الله، وأما السر فإنه لا يضاف إلى الله لا وصفًا ولا اسمًا، ولكنه يدخل في مفعولاته ويندرج في قضائه وقدره، فالخير والشر داخل في القضاء والقدر فلا يقع في ملكه إلا ما شاءه، ولكن لا يضاف إلى الله، فلا يقال : بيدك الخير والشر ولكن بيدك الخير كما قال الله، وقال رسوله. اهـ[2].
روى مسلم في صحيحه من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دعائه في قيام الليل أنه كان يقول : "والخير كله في يديك والشر ليس إليك"[3] تأدبًا مع الله تعالى.
ومن فوائد الآيتين الكريمتين :
أولًا : ما نقله ابن كثير في تفسيره أن فيها تنبيهًا وإرشادًا إلى شكر نعمة الله تعالى على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه الأمة؛ لأن الله تعالى حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي الأمي المكي خاتم الأنبياء على الإطلاق، ورسول الله إلى الثقلين، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله، وخصه بخصائص لم يعطها نبيًا من الأنبياء ولا رسولًا، من العلم بالله وشريعته، وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية، وكشفه له عن حقائق الآخرة، ونشر أمته في الآفاق في مشارق الأرض ومغاربها، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشرائع؛ وصلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين ما تعاقب الليل والنهار[4]. اهـ.
ثانيًا : أن العزة لا تطلب إلا من الله تعالى وهي إنما تأتي بطاعته واجتناب معصيته، قال تعالى : ﴿ نْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ﴾ [فاطر: 10].
وقال تعالى : ﴿ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 138، 139].
وقال تعالى : ﴿ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المنافقون: 8].
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وهو يخاطب الأنصار : "ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله؟!"[5].
وقال عمر - رضي الله عنه -: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العز بغيره أذلنا الله"[6].
ثالثًا : أن الذل الذي يصيب الإنسان إنما هو بمعصيته لله ولرسوله، قال تعالى عن بني إسرائيل عندما عصوا الله ورسوله : ﴿ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 61].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : "بعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم"[7].
وقال الحسن - رحمه الله -: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، إن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه"[8].
رابعًا : إثبات قدرة الله، فهو سبحانه القادر على كل شيء، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولذلك يشرع المؤمن أن يسال الله بقدرته أن ييسر له الخير، ويصرف عنه الشر، روى مسلم في صحيحه من حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي - رضي الله عنه -: أنه شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعًا يجده في جسده منذ أسلم؛ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل : باسم الله. ثلاثًا، وقل سبع مرات : أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر"[9].
خامسًا : فضل الدعاء وأهميته، وكان السلف يدعون : اللهم أعزني بطاعتك، ولا تذلني بمعصيتك[10]، وينبغي للمؤمن أن يسأل الله من خيري الدنيا والآخرة.
قال تعالى : ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 134].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : "اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار"[11].
وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
*************************
[1] تفسير ابن كثير (3/ 41-42).
[2] تفسير ابن سعدي (ص 401).
[3] صحيح مسلم برقم (771).
[4] تفسير ابن كثير (3/ 42).
[5] مسند الإمام أحمد (18/ 105) برقم (11547)، وقال محققوه : إسناده صحيح، وأصله في الصحيحين.
[6]مستدرك الحاكم (1/ 236-237)، وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيجين، وقال محققه : سنده صحيح.
[7] مسند الإمام أحمد (2/92)، وقال الذهبي في السير : (15/ 509) إسناده صالح.
[8] الجواب الكافي (ص 53).
[9] صحيح مسلم برقم (2202).
[10] الجواب الكافي (ص 53).
[11] صحيح البخاري برقم (4522)، وصحيح مسلم برقم (2690).