هذه هي السلفية إن كنتم تفقهون !
إنَّ الحمدَ لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يَهْده الله فلا مضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادِيَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإنَّ خير الكلام كلامُ الله، وخير الهَدْي هدي محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور مُحْدثاتُها، وكل مُحْدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
قال - تعالى -: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)[الإسراء: 81]، وقال: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)[الأنبياء: 18].
لذا؛ فلا يُمْكِن إزاحة الباطل إلا بالحقِّ، ولا يمكن معرفةُ الباطل أنَّه باطل إلاَّ بعد التعرُّف والاهتِداء إلى الحق.
أما وقد كَثُر الحديث عن السلفيَّة وصُوَرِها وتاريخها، وقيمتها في انبعاث المسلمين الحضاريِّ لدى الإسلاميِّين والعصرانيِّين معًا، فَهُنا تأتي المشكلة الأولى في قضيَّة السَّلفية، وهي مشكلة المَضْمون لهذا المصطلح، وماذا تعني السَّلفية لدى المهتمِّين بها مِن رافعي شعارها، أو من المُتوجِّسين خيفةً منها، أو من الرافضين ابتداءً لَها؟
سوف نَجِد تعدُّدًا للمفاهيم يصل إلى حدِّ التناقض؛ مِمَّا يؤدِّي إلى التباس الأمر على راغب التعرُّف عليه، حيث يقع في فوضى فكريَّة.
فالسلفيَّة رجعيَّة وجُمود، وتجديدٌ وتجاوز، وهي ركونٌ إلى التقليدِ والاستعبادِ للماضي، وهي رفْضٌ لِمُخلَّفات الفساد، وتطهيرُ الحياة الإسلامية من الشَّوائب الفكرية والسُّلوكية !.
وإذا كان المفترض للواقف على مثل هذه التصوُّرات عن السلفيَّة أن يستبين حقيقتَها في جذور السلفية وإطلاقاتِها الأولى.
لماذا؟ لأنَّ الذين ينتسبون إلى السلفيَّة منهم بالفعل من يتهمون بأنهم متجمدون منغلقون، ومنهم مَن هم في طليعة المنادين بالتَّجديد الدِّيني"، وأيضًا لن يُجْدِي في حلِّ هذا التناقض أن يُقال: ليس كلُّ مَن انتسب إلى السلفيَّة يُمثِّلها؛ لأنه قد يقال: هات شخصًا يمثِّل السلفية في متعارَفِ الجميع، وأنا أستخرج لك من أقواله في الوقوف مع النُّصوص الشرعية، ورفض ما يُخالفها أيًّا كان، مِمَّا يعد جمودًا وانغلاقًا، ثم أستخرج لك من أقوال أخرى لِهذا الممثِّل للسلفية تعظيم العقل والتَّحاكم إليه ما يعد عقلانيَّة وتحرُّرًا، وكل قابل للتفسير والتأويل.
ولن ينتهي الجدَلُ حتَّى ولو كان مداد النَّظر، والسبب كامن في منطلق التعريف ذاته؛ من حيث القناعةُ الفكريَّة التي يُبنى عليها التَّعريف، فالتَّعريفات المعاصِرة للسَّلفية - غالبها - معياريَّة؛ أيْ: إنَّها لا تعرِّف السلفيَّة على حقيقتها كما هي بروحٍ حياديَّة، وإنَّما تعرِّفها في ضوء موقف محدَّد من خارج السلفية، مناوئٍ لها في الغالب، فهو تعريف يَحكم ويُحاكِم، سواءٌ أكان من خلال مواقف تراثيَّة؛ كالموقف الاعتزالي، أم من خلال مواقف عصرانيَّة عقلانية، أم علمانية.
فإذا وجد في السلفيَّة ما يتَّفِق وبعضَ عناصر موقفه ولو بتوافُقٍ لفظي، فإنه يتصوَّره من خلال موقفه هو، ويُسْبِغ عليه من صفات المدح والتجديد، والتحرير والاستنارة، وما وجده مُخالِفًا لموقفه عدَّه تحجُّرًا وتقليدًا وظلاميَّة.
والنظر إلى السلفية بهذا المنظار التاريخيِّ، وهذا الذي يُمارسه كثيرٌ من الدَّارسين العصرانيِّين وبعض الإسلاميِّين، حيث يَنظرون إلى تطوُّرات فِكْر العلماء والمفكِّرين المسلمين، وتنوُّعاته على أنَّه تمثيل للسلفيَّة وفق مقتضيات الظُّروف والأوضاع الفكريَّة.
النظر بهذا المنظار خطأٌ، والسبب: أنَّ للسلفية أصولاً لَم يولِّدها الفكر البشريُّ، ولا الظروف التاريخية، إنَّما عمادها وحْيٌ إلَهي مستمَدٌّ من خارج الدائرة البشرية، انتهى تنَزُّله منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، والحقيقة التي يَجِب أن يدركها الكثيرُ من طالبِي الحقِّ أن السلفيَّة بصِفتها اتِّجاهًا متميِّزًا يقدِّم النُّصوص الشرعية على البدائل الأخرى منهجًا وموضوعًا، ويلتزم بِهَدْي الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - وهَدْي أصحابه عِلمًا وعمَلاً، ويطَّرِح المناهج المخالِفة لِهذا الهدي في العقيدة والعبادة والتشريع، فهي تُمثِّل مذهبيَّةً متكاملةً، ومنظومة شاملة من المفاهيم المتعلِّقة بالمعرفة، والوجود، والكون، والإنسان، والحياة.
المعنى اللغوي: السَّلف: في "معجم مقاييس اللغة" قال ابن فارس: "السِّين واللاَّم والفاء أصل يدلُّ على تقدُّم وسَبْق".
وقال في "لسان العرب": "السلف الجماعة المتقدِّمون، في السَّير، أو في السِّن، أو في الفضل، أو في الموت، والسَّلفي هو: المنسوب أو المنتسب للسَّلف؛ لأنَّ الياء هذه ياء النسبة، فالسَّلَفي هو الذي ينسب نفسَه للجماعة المتقدِّمين، ولا بد من علَّةٍ لِهذه النِّسبة.
وللسَّلَفية وجه آخر، وهو كونُها تتضمَّن معنًى معيَّنًا، هو خاصيَّة السَّبق عند الجماعة المتقدِّمين: السلف سيرًا أو سنًّا أو فضلاً أو غيره.
ولِهذا نظائره في العربية؛ فَمثلاً: الحنيف: هو المائل، وسُمِّي إبراهيم - عليه السلام - حنيفًا؛ لأنه مال عن الشِّرك الشائع في الأرض إلى التوحيد، ثم سُمِّي كلُّ من وحَّد الله حنيفًا، وصارت الحنفيَّة تعني التَّوحيد.
وهنا نجد أن السَّلف هو: الصَّدْر الأول من المسلمين في هذه الأمَّة، وفي قمَّتِهم أصحابُ الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وسنجد أن السَّلَفية هي المعنى الإسلاميُّ الذي تَمثَّلوه في قلوبِهم فَهمًا، وفي شخصياتهم سلوكًا.
هذا المضمون للسلفيَّة من حيث هي التمثُّل الأول لمفاهيم الإسلام، وتطبيق مَطالبه، برز مبكِّرًا، حينما وجَّه إليه الرسول محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - في حديث التفرُّق، الذي قال فيه: ((إنَّ بني إسرائيل تفرَّقت على اثنتين وسبعين ملَّة، وتفترق أمَّتِي على ثلاث وسبعين ملَّة، كلُّها في النار إلا ملَّة واحدة))، قالوا: ومَن هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي))؛ صحَّحه ابنُ باز.
كما وجَّه ابن مسعود - رضي الله عنه - إلى التزام السلفيَّة بِمَضمونها المذكور بقوله: "مَن كان منكم مُستنًّا فلْيَستَنَّ بِمن مات؛ فإنَّ الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقَها علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا"؛ أخرجه ابن عبدالبرِّ، وإسناده لا بأس به، وله شواهد من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.
فالسلفيَّة - بصِفَتِها منهجًا لفهم الإسلام والتزامِه - تَمثَّلت في جيل الصَّحابة بصورتِها النقية؛ ولِهَذا كانت الدَّعوة إلى السلفيَّة دعوةً إلى الرُّجوع لذلك المنهج، ولأنَّ الدعوة إلى السلفيَّة؛ أيْ: إلى منهج صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نادى بِها الرَّسول - عليه الصلاة والسلام - ونادى بها علماء الصَّحابة - رضي الله عنهم -.
السَّلفية في الفكر الغَرْبِي:
الأصوليَّة والسلفيَّة: في الفِكْر العربي المعاصر - والإعلام بخاصَّة - شاعَت لفظة الأصوليَّة بمعنًى مُقارب أو مُطابق لدى بعضهم مع السَّلفية، ولَمَّا كانت الأُصوليَّة ترجمةً لِمُصطلح غربي "دخيل" ساغ إيرادُها هنا؛ حتَّى تكون حاضرةً في الذِّهن حين الكلام عن السَّلفية في الفكر الغَرْبي، ثم الفكر العرَبِي المعاصر.
فقد ذكَر البعلبكيُّ في كتابه "المورد" أنَّ الأصولية: "تُطلَق على حركةٍ تبلورَتْ في القرن العشرين لدى البروتستنت، تؤكِّد على أن الكتاب المقدَّس معصومٌ عن الخطأ في العقيدة، والأخلاق، والأخبار التاريخيَّة، والغيبيَّة، كقصَّة الخلق، ومَجيء المسيح، والحشر الجسدي، واللَّفظة من fundamentalism" التي تعني الأصلي أو الأوَّلِي، وهي الأصولية.
ومن أبرز صفات الأصوليين، كما يرصدها كاتبٌ غربي:
• تَنْزيه الإنجيل عن احتمال تسرُّب الخطأ إليه.
• ظاهريَّة التلقِّي لكلماته دون تأويلٍ أو تحويل.
• التنكُّر الشديد لإنجازات العصر الحاضر في التصوُّرات، والأفكار؛ خاصَّة العلمانية.
• التشدُّد في التزام الدِّين، واعتبار النَّصارى الذين لا يَسْلكون مناهجَهم في التديُّن خارجين على الدِّين، وسعيُهم لفرض الدين على المجتمع بقوَّة.
ولهذا صارت الأصوليَّة عند الغَرْبي رمزًا للوحشيَّة والانغلاق، ومعاكسة لتيَّار الحياة، وعقبة أمام تطوُّر الحياة.
وحينما تعالَتْ حركة الالتزام بالإسلام لدى الشُّعوب المسلمة، وتجاوزَت حدود التديُّن الفرديِّ إلى السَّعي نحو صياغة الحياة الاجتماعية والسِّياسية والفكرية صياغةً إسلامية، فيما أُطْلِق عليه اسم الصَّحوة الإسلامية، كان من ضرورة ذلك أن يصطدم هؤلاء الإسلاميُّون السَّاعون لإصلاح الحياة - إسلاميًّا - بالعلمانيِّين الذين يَقِفون في الخطِّ المقابل، رافضين أن يُداخل الإسلامُ الحياةَ وفق مطامعهم.
ولذا أطلق الغرب على هذه الصحوة "الأصوليَّة"، وعرف أصحابها "بالأصوليِّين" في مقابل "العلمانيين".
ومن هنا: صار الإعلام الغربِيُّ - والعرَبي بالتَّبع - يتسقَّط المنتدَبين للصَّحوة الإسلامية، بفِكْرهم أو بِهيئتهم؛ لِحيةً، وحجابًا، أو حتى بمجرَّد دعواهم، ثم أصبحت الصُّورة محصورةً في هذا التصنيف: إسلاميُّون كلهم أصوليُّون - إرهابيون - مقابل العلمانية، خاصَّة في المجال الفكري.
لقد كان من آثار خبُوِّ وهج العلمانيَّة في البيئات الإسلاميَّة أنْ تقمَّصَ بعضُ أتباعها رداءَ الإسلام؛ ليتحرَّكوا تحت رايته بعلمانيَّتِهم بأسماء مُختلفة: كالإسلام التقدُّمي، وفكر الاستنارة الإسلامي، أو اليسار الإسلامي...وأصبحوا ملقَّبون بالمفكِّرين الإسلاميين، يفسِّرون الإسلام على أنه قوميَّة، أو مجرَّد قِيَم عليا - عدالةً وجلبًا للمصلحة، ودرءًا للمفسدة - للمسلم أن ينظِّم حياته على أساسها كيف يشاء.
أما أن الإسلام منهج حياة متكامل، وأنَّ إسلاميَّة الفرد والمجتمع لا تَكْتمل إلاَّ بالتزامه بِهذا المنهج: عقيدةً وعبادةً ومعاملاتٍ وسلوكًا، مِمَّا يُنادي به الإسلاميُّون، فهو الرِّدة الحضاريَّة، والتَّزمُّت المرفوض الذي يقاوِمُه هؤلاء العلمانيُّون، باسْم الإسلام نفسه، الذي هو "دينٌ علماني".
ومن هنا تَجَاوزَ التصنيف كونَه: "إسلاميُّون مقابل علمانيين صُرَحاء... " إلى كونه: "إسلاميون أصوليُّون (متطرِّفون) مقابل تقدُّميين أو مفكِّرين إسلاميين... ".
فهؤلاء العصرانيُّون ربَّما يرفضون الإسلام كليًّا أو جزئيًّا من جهة، ويتغالبون على رسم مشاريع النهوض بالأمَّة المسلمة من ركودها الحضاري.
في هذا الجو برزت السلفية:
لا بصِفَتها اتِّجاهًا مِن اتجاهاتٍ شتَّى تَنتسب للإسلام، وإنَّما بصفتها الاتِّجاه الممثِّلَ للإسلام بأعلى صورة، المقاربة لحقيقته الكاملة بحسب الطَّاقة البشريَّة.
ولكن هل ستُسلَّم للسلفيَّة هذه الدعوة الخطيرة بمجرد رَفعها لها؟ خاصَّة أنَّ الآخرين - من خارجها كما ذكَرت ممن لهم اتِّجاهاتٌ مُخالفة سيسعون لإثبات دعوى مُماثلة، ومن ثَمَّ زحزحة السلفيَّة عن التفرُّد بهذا المقام!.
الكـاتب : مي عبد الصمد
إنَّ الحمدَ لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسِنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يَهْده الله فلا مضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادِيَ له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإنَّ خير الكلام كلامُ الله، وخير الهَدْي هدي محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور مُحْدثاتُها، وكل مُحْدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
قال - تعالى -: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)[الإسراء: 81]، وقال: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)[الأنبياء: 18].
لذا؛ فلا يُمْكِن إزاحة الباطل إلا بالحقِّ، ولا يمكن معرفةُ الباطل أنَّه باطل إلاَّ بعد التعرُّف والاهتِداء إلى الحق.
أما وقد كَثُر الحديث عن السلفيَّة وصُوَرِها وتاريخها، وقيمتها في انبعاث المسلمين الحضاريِّ لدى الإسلاميِّين والعصرانيِّين معًا، فَهُنا تأتي المشكلة الأولى في قضيَّة السَّلفية، وهي مشكلة المَضْمون لهذا المصطلح، وماذا تعني السَّلفية لدى المهتمِّين بها مِن رافعي شعارها، أو من المُتوجِّسين خيفةً منها، أو من الرافضين ابتداءً لَها؟
سوف نَجِد تعدُّدًا للمفاهيم يصل إلى حدِّ التناقض؛ مِمَّا يؤدِّي إلى التباس الأمر على راغب التعرُّف عليه، حيث يقع في فوضى فكريَّة.
فالسلفيَّة رجعيَّة وجُمود، وتجديدٌ وتجاوز، وهي ركونٌ إلى التقليدِ والاستعبادِ للماضي، وهي رفْضٌ لِمُخلَّفات الفساد، وتطهيرُ الحياة الإسلامية من الشَّوائب الفكرية والسُّلوكية !.
وإذا كان المفترض للواقف على مثل هذه التصوُّرات عن السلفيَّة أن يستبين حقيقتَها في جذور السلفية وإطلاقاتِها الأولى.
لماذا؟ لأنَّ الذين ينتسبون إلى السلفيَّة منهم بالفعل من يتهمون بأنهم متجمدون منغلقون، ومنهم مَن هم في طليعة المنادين بالتَّجديد الدِّيني"، وأيضًا لن يُجْدِي في حلِّ هذا التناقض أن يُقال: ليس كلُّ مَن انتسب إلى السلفيَّة يُمثِّلها؛ لأنه قد يقال: هات شخصًا يمثِّل السلفية في متعارَفِ الجميع، وأنا أستخرج لك من أقواله في الوقوف مع النُّصوص الشرعية، ورفض ما يُخالفها أيًّا كان، مِمَّا يعد جمودًا وانغلاقًا، ثم أستخرج لك من أقوال أخرى لِهذا الممثِّل للسلفية تعظيم العقل والتَّحاكم إليه ما يعد عقلانيَّة وتحرُّرًا، وكل قابل للتفسير والتأويل.
ولن ينتهي الجدَلُ حتَّى ولو كان مداد النَّظر، والسبب كامن في منطلق التعريف ذاته؛ من حيث القناعةُ الفكريَّة التي يُبنى عليها التَّعريف، فالتَّعريفات المعاصِرة للسَّلفية - غالبها - معياريَّة؛ أيْ: إنَّها لا تعرِّف السلفيَّة على حقيقتها كما هي بروحٍ حياديَّة، وإنَّما تعرِّفها في ضوء موقف محدَّد من خارج السلفية، مناوئٍ لها في الغالب، فهو تعريف يَحكم ويُحاكِم، سواءٌ أكان من خلال مواقف تراثيَّة؛ كالموقف الاعتزالي، أم من خلال مواقف عصرانيَّة عقلانية، أم علمانية.
فإذا وجد في السلفيَّة ما يتَّفِق وبعضَ عناصر موقفه ولو بتوافُقٍ لفظي، فإنه يتصوَّره من خلال موقفه هو، ويُسْبِغ عليه من صفات المدح والتجديد، والتحرير والاستنارة، وما وجده مُخالِفًا لموقفه عدَّه تحجُّرًا وتقليدًا وظلاميَّة.
والنظر إلى السلفية بهذا المنظار التاريخيِّ، وهذا الذي يُمارسه كثيرٌ من الدَّارسين العصرانيِّين وبعض الإسلاميِّين، حيث يَنظرون إلى تطوُّرات فِكْر العلماء والمفكِّرين المسلمين، وتنوُّعاته على أنَّه تمثيل للسلفيَّة وفق مقتضيات الظُّروف والأوضاع الفكريَّة.
النظر بهذا المنظار خطأٌ، والسبب: أنَّ للسلفية أصولاً لَم يولِّدها الفكر البشريُّ، ولا الظروف التاريخية، إنَّما عمادها وحْيٌ إلَهي مستمَدٌّ من خارج الدائرة البشرية، انتهى تنَزُّله منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، والحقيقة التي يَجِب أن يدركها الكثيرُ من طالبِي الحقِّ أن السلفيَّة بصِفتها اتِّجاهًا متميِّزًا يقدِّم النُّصوص الشرعية على البدائل الأخرى منهجًا وموضوعًا، ويلتزم بِهَدْي الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - وهَدْي أصحابه عِلمًا وعمَلاً، ويطَّرِح المناهج المخالِفة لِهذا الهدي في العقيدة والعبادة والتشريع، فهي تُمثِّل مذهبيَّةً متكاملةً، ومنظومة شاملة من المفاهيم المتعلِّقة بالمعرفة، والوجود، والكون، والإنسان، والحياة.
المعنى اللغوي: السَّلف: في "معجم مقاييس اللغة" قال ابن فارس: "السِّين واللاَّم والفاء أصل يدلُّ على تقدُّم وسَبْق".
وقال في "لسان العرب": "السلف الجماعة المتقدِّمون، في السَّير، أو في السِّن، أو في الفضل، أو في الموت، والسَّلفي هو: المنسوب أو المنتسب للسَّلف؛ لأنَّ الياء هذه ياء النسبة، فالسَّلَفي هو الذي ينسب نفسَه للجماعة المتقدِّمين، ولا بد من علَّةٍ لِهذه النِّسبة.
وللسَّلَفية وجه آخر، وهو كونُها تتضمَّن معنًى معيَّنًا، هو خاصيَّة السَّبق عند الجماعة المتقدِّمين: السلف سيرًا أو سنًّا أو فضلاً أو غيره.
ولِهذا نظائره في العربية؛ فَمثلاً: الحنيف: هو المائل، وسُمِّي إبراهيم - عليه السلام - حنيفًا؛ لأنه مال عن الشِّرك الشائع في الأرض إلى التوحيد، ثم سُمِّي كلُّ من وحَّد الله حنيفًا، وصارت الحنفيَّة تعني التَّوحيد.
وهنا نجد أن السَّلف هو: الصَّدْر الأول من المسلمين في هذه الأمَّة، وفي قمَّتِهم أصحابُ الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وسنجد أن السَّلَفية هي المعنى الإسلاميُّ الذي تَمثَّلوه في قلوبِهم فَهمًا، وفي شخصياتهم سلوكًا.
هذا المضمون للسلفيَّة من حيث هي التمثُّل الأول لمفاهيم الإسلام، وتطبيق مَطالبه، برز مبكِّرًا، حينما وجَّه إليه الرسول محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - في حديث التفرُّق، الذي قال فيه: ((إنَّ بني إسرائيل تفرَّقت على اثنتين وسبعين ملَّة، وتفترق أمَّتِي على ثلاث وسبعين ملَّة، كلُّها في النار إلا ملَّة واحدة))، قالوا: ومَن هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي))؛ صحَّحه ابنُ باز.
كما وجَّه ابن مسعود - رضي الله عنه - إلى التزام السلفيَّة بِمَضمونها المذكور بقوله: "مَن كان منكم مُستنًّا فلْيَستَنَّ بِمن مات؛ فإنَّ الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمَّد - صلى الله عليه وسلم - كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقَها علمًا، وأقلَّها تكلُّفًا"؛ أخرجه ابن عبدالبرِّ، وإسناده لا بأس به، وله شواهد من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.
فالسلفيَّة - بصِفَتِها منهجًا لفهم الإسلام والتزامِه - تَمثَّلت في جيل الصَّحابة بصورتِها النقية؛ ولِهَذا كانت الدَّعوة إلى السلفيَّة دعوةً إلى الرُّجوع لذلك المنهج، ولأنَّ الدعوة إلى السلفيَّة؛ أيْ: إلى منهج صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نادى بِها الرَّسول - عليه الصلاة والسلام - ونادى بها علماء الصَّحابة - رضي الله عنهم -.
السَّلفية في الفكر الغَرْبِي:
الأصوليَّة والسلفيَّة: في الفِكْر العربي المعاصر - والإعلام بخاصَّة - شاعَت لفظة الأصوليَّة بمعنًى مُقارب أو مُطابق لدى بعضهم مع السَّلفية، ولَمَّا كانت الأُصوليَّة ترجمةً لِمُصطلح غربي "دخيل" ساغ إيرادُها هنا؛ حتَّى تكون حاضرةً في الذِّهن حين الكلام عن السَّلفية في الفكر الغَرْبي، ثم الفكر العرَبِي المعاصر.
فقد ذكَر البعلبكيُّ في كتابه "المورد" أنَّ الأصولية: "تُطلَق على حركةٍ تبلورَتْ في القرن العشرين لدى البروتستنت، تؤكِّد على أن الكتاب المقدَّس معصومٌ عن الخطأ في العقيدة، والأخلاق، والأخبار التاريخيَّة، والغيبيَّة، كقصَّة الخلق، ومَجيء المسيح، والحشر الجسدي، واللَّفظة من fundamentalism" التي تعني الأصلي أو الأوَّلِي، وهي الأصولية.
ومن أبرز صفات الأصوليين، كما يرصدها كاتبٌ غربي:
• تَنْزيه الإنجيل عن احتمال تسرُّب الخطأ إليه.
• ظاهريَّة التلقِّي لكلماته دون تأويلٍ أو تحويل.
• التنكُّر الشديد لإنجازات العصر الحاضر في التصوُّرات، والأفكار؛ خاصَّة العلمانية.
• التشدُّد في التزام الدِّين، واعتبار النَّصارى الذين لا يَسْلكون مناهجَهم في التديُّن خارجين على الدِّين، وسعيُهم لفرض الدين على المجتمع بقوَّة.
ولهذا صارت الأصوليَّة عند الغَرْبي رمزًا للوحشيَّة والانغلاق، ومعاكسة لتيَّار الحياة، وعقبة أمام تطوُّر الحياة.
وحينما تعالَتْ حركة الالتزام بالإسلام لدى الشُّعوب المسلمة، وتجاوزَت حدود التديُّن الفرديِّ إلى السَّعي نحو صياغة الحياة الاجتماعية والسِّياسية والفكرية صياغةً إسلامية، فيما أُطْلِق عليه اسم الصَّحوة الإسلامية، كان من ضرورة ذلك أن يصطدم هؤلاء الإسلاميُّون السَّاعون لإصلاح الحياة - إسلاميًّا - بالعلمانيِّين الذين يَقِفون في الخطِّ المقابل، رافضين أن يُداخل الإسلامُ الحياةَ وفق مطامعهم.
ولذا أطلق الغرب على هذه الصحوة "الأصوليَّة"، وعرف أصحابها "بالأصوليِّين" في مقابل "العلمانيين".
ومن هنا: صار الإعلام الغربِيُّ - والعرَبي بالتَّبع - يتسقَّط المنتدَبين للصَّحوة الإسلامية، بفِكْرهم أو بِهيئتهم؛ لِحيةً، وحجابًا، أو حتى بمجرَّد دعواهم، ثم أصبحت الصُّورة محصورةً في هذا التصنيف: إسلاميُّون كلهم أصوليُّون - إرهابيون - مقابل العلمانية، خاصَّة في المجال الفكري.
لقد كان من آثار خبُوِّ وهج العلمانيَّة في البيئات الإسلاميَّة أنْ تقمَّصَ بعضُ أتباعها رداءَ الإسلام؛ ليتحرَّكوا تحت رايته بعلمانيَّتِهم بأسماء مُختلفة: كالإسلام التقدُّمي، وفكر الاستنارة الإسلامي، أو اليسار الإسلامي...وأصبحوا ملقَّبون بالمفكِّرين الإسلاميين، يفسِّرون الإسلام على أنه قوميَّة، أو مجرَّد قِيَم عليا - عدالةً وجلبًا للمصلحة، ودرءًا للمفسدة - للمسلم أن ينظِّم حياته على أساسها كيف يشاء.
أما أن الإسلام منهج حياة متكامل، وأنَّ إسلاميَّة الفرد والمجتمع لا تَكْتمل إلاَّ بالتزامه بِهذا المنهج: عقيدةً وعبادةً ومعاملاتٍ وسلوكًا، مِمَّا يُنادي به الإسلاميُّون، فهو الرِّدة الحضاريَّة، والتَّزمُّت المرفوض الذي يقاوِمُه هؤلاء العلمانيُّون، باسْم الإسلام نفسه، الذي هو "دينٌ علماني".
ومن هنا تَجَاوزَ التصنيف كونَه: "إسلاميُّون مقابل علمانيين صُرَحاء... " إلى كونه: "إسلاميون أصوليُّون (متطرِّفون) مقابل تقدُّميين أو مفكِّرين إسلاميين... ".
فهؤلاء العصرانيُّون ربَّما يرفضون الإسلام كليًّا أو جزئيًّا من جهة، ويتغالبون على رسم مشاريع النهوض بالأمَّة المسلمة من ركودها الحضاري.
في هذا الجو برزت السلفية:
لا بصِفَتها اتِّجاهًا مِن اتجاهاتٍ شتَّى تَنتسب للإسلام، وإنَّما بصفتها الاتِّجاه الممثِّلَ للإسلام بأعلى صورة، المقاربة لحقيقته الكاملة بحسب الطَّاقة البشريَّة.
ولكن هل ستُسلَّم للسلفيَّة هذه الدعوة الخطيرة بمجرد رَفعها لها؟ خاصَّة أنَّ الآخرين - من خارجها كما ذكَرت ممن لهم اتِّجاهاتٌ مُخالفة سيسعون لإثبات دعوى مُماثلة، ومن ثَمَّ زحزحة السلفيَّة عن التفرُّد بهذا المقام!.
الكـاتب : مي عبد الصمد