فيض العليم .... سورة يوسف، الآية: 19
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
قولُهُ ـ جلَّ جلالُهُ: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} وَمَرَّتْ بِالبِئْرِ قَافِلَةٌ "سَيَّارَةٌ" مُجْتَازَةٌ، أَيْ رُفْقَةٌ مَارَّةٌ يَسِيرُونَ مِنَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ فَأَخْطَأوا الطَّرِيقَ، وَهَامُوا حَتَّى نَزَلُوا قَرِيبًا مِنَ الْجُبِّ، فأَصابوا يُوْسُفَ، وَكَانَ الْجُبُّ فِي قَفْرَةٍ بَعِيدَةٍ مِنَ الْعُمْرَانِ، إِنَّمَا هُوَ لِلرُّعَاةِ وَالْمُجْتَازِ، وَكَانَ مَاؤُهُ مِلْحًا فَعَذُبَ حِينَ أُلْقِيَ فِيهِ يُوسُفَ. وهذا شُرُوعٌ فِيما جَرَى عَلَى يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، في الجُبِّ، بَعْدَ الفَراغِ عَنْ ذِكْرِ مَا وَقَعَ بَيْنَ إِخْوَتِهِ وبَيْنَ أَبِيهِ، وفي التَعْبيرِ بالمَجِيءِ إِيماءٌ إلى كَرَامَةِ يَوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، عِنْدَ رَبَّهِ سُبْحانَهُ.
قولُهُ: {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} فَأَرْسَلُوا رَجُلاً مِنْهُمْ إِلَى البِئْرِ لِيَسْتَقِي لَهُمُ المَاءَ، و "وَارِدَهُمْ" الذي يُريدُ المَاءَ ويَسْتَقي لَهم. ذَكَرَ أَصْحَابُ التَواريخِ أَنَّ اسمَ هذا الواردِ هو مالكُ بْنُ دُعْرِ الخُزاعِيِّ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الوارِدُ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ عَلَى الواحِدِ وعَلَى الجَمَاعَةِ. والأوَّلُ أظْهَرُ.
قولُهُ: {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} أَيْ: أَرْسَلَهَا لِيَمْلَأَها. يُقالُ: أَدْلى الدَّلْوَ إِذا أَرْسَلها لِيَمْلَأَها، ودَلَّاها إِذا أَخْرَجَهَا مَلْأَى، وأَدْلَى يُدْلِي إِدْلاءً إِذا أَرْسَلَ، ودَلَى يَدْلُو دَلْوًا، إِذا جَذَبَ وأَخْرَجَ. قالَ العَجَّاجُ الرَّاجِزُ:
يَنْزِعُ مِنْ جَمَّاتِهَا دَلْوَ الدَّالي
أَيْ: يَنْزِعُ النَّازِعُ، والدَّلْوُ مَعْروفٌ، والجَمْعُ دِّلاءٌ، والعَدَدُ إِدْلٍ ودُلي، ويُقال للدَّلْوِ دَلاةٌ. والدَّلْوُ مِنَ المُؤنَّثاتِ السَّمَاعِيَّةِ فتُصَغَّرُ عَلى دُلَيَّةٍ، وَجَمْعُ دَلْوٍ فِي أَقَلَّ الْعَدَدِ أَدْلٍ، فَإِذَا كَثُرَتْ قُلْتَ: دُلِيٌّ وَدِلِيٌّ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، إِلَّا أَنَّ الْجَمْعَ بَابُهُ التَّغْيِيرُ، وَلْيُفَرَّقْ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَدِلَاءٌ أَيْضًا. وقالَ ابْنُ الشُّحْنَةِ: إنَّ الدَّلْوَ التي يُسْتَقَى بِها مُؤَنَّثَةٌ، وقدْ تُذَكَّرُ، وأَمَّا الدَلْوُ مَصْدَرُ دَلَوْتُ، وضَرْبٌ مِنَ السَّيْرِ فَمُذَكَّرٌ ومِثْلُها في التَذْكِيرِ والتَأْنيثِ الجُبُّ عِنْدَ الفَرَّاءِ ـ عَلى مَا نَقَلَهُ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الجَهْمِ، وعَنْ بَعْضِهم أَنَّهُ مُذَكَّرٌ لا غَيْر، وأَمَّا البِئْرُ فمُؤنَّثَةٌ فقَط في المَشْهورِ، ويُقالُ في تَصغيرِها: بُوَيْرَةٌ؛ وفي جَمْعِها آبار. وأَبَار. وأُبؤر. وبِئار، وفي الكَلامِ حَذْفٌ، أَيْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ فَتَدَلَّى بِهَا يُوسُفُ فخَرَجَ، والتَأْنيثُ في "جَاءتِ" والتَذْكيرُ في "أُرْسِلُواْ" باعْتِبارِ اللَّفْظِ والمَعْنَى. والأَصْلُ: دِلاو فقُلِبَتِ الواوُ هَمْزَةً نَحْوَ كِساء، وأَدْلِوٌ فأُعِلَّ إعلالَ قاضٍ، ودُلُوْوٌ بواوين فَقُلِبتا ياءَيْن نحو: عِصِيّ. وَالدَّلْوُ: ظَرْفٌ كَبِيرٌ مِنْ جِلْدٍ مَخِيطٍ لَهُ خُرْطُومٌ فِي أَسْفَلِهِ يَكُونُ مَطْوِيًّا عَلَى ظَاهِرِ الظَّرْفِ بِسَبَبِ شَدِّهِ بِحَبْلٍ مُقَارِنٍ لِلْحَبْلِ الْمُعَلَّقَةِ فِيهِ الدَّلْوُ.
قولُهُ: { قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} نِدَاءُ الْبُشْرَى مَجَازٌ، لِأَنَّ الْبُشْرَى لَا تُنَادَى، وَلَكِنَّهَا شُبِّهَتْ بِالْعَاقِلِ الْغَائِبِ الَّذِي احْتِيجَ إِلَيْهِ فَيُنَادَى كَأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: هَذَا آنُ حُضُورِكَ. وَمِنْهُ: يَا حسرتا، وَ يَا عجبا، فَهِيَ مَكْنِيَّةٌ وَحَرْفُ النِّدَاءِ تَخْيِيلٌ أَوْ تَبَعِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ فَرِحَ وَابْتَهَجَ بِالْعُثُورِ عَلَى غُلَامٍ. قالَهُ قَتَادَةُ. وقالَ السُدِّيُّ فأبعدَ: أَنَّهُ نَادَى أَحَدَهم، وكانَ اسْمُهُ "بُشْرى" فنَاداهُ باسْمِهِ يُعْلِمُهُ بالغُلام. وهوَ استعارةٌ مَكْنِيَّةٌ وتَخْيِيلِيَّةٌ، أَيْ: يا بُشْرَى تَعالَى فَهَذَا أوانُ حُضُورِكَ، وقيلَ: المُنادَى مَحْذوفٌ كما في (يا ليتَ) أي: يا قومِي انْظُروا واسْمَعُوا بُشْرَايَ، وقيلَ: إِنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ تُسْتَعْمَلُ للتَبْشيرِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلى النِداءِ.
قال ابن الأنباريِّ: وَقَعَ النِّداءُ في اللفظِ بالبُشْرى، وهوَ في المَعنى واقعٌ لِغَيْرِها، تَأْويلُه: يا هؤلاءِ تَنَبَّهوا لِبُشْرايَ. وهذا مَعْنَى قولِ أَبي إِسْحاقٍ الزجّاجُ، ومَعْنَى النِّداءِ في هَذِهِ الأَشْيَاءِ التي لا تُجيبُ تَنْبيهُ المُخاطَبينَ، وتَوكيدُ القِصَّةِ إذا قلتَ: يا عَجَبَاهُ، فَكَأَنَّكَ قلتَ: اعْجَبُوا، وذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ، وهوَ أَنْ يَكونَ المَعْنَى: يا أَيَّتُها البُشْرى هذا مِنْ إِيانِكِ وأَوانِكِ، وزادَ أَبو عَلِيٍّ الفارسيُّ لِهَذَا الوَجْهِ بَيانًا، فقالَ: المَعْنَى فيهِ أَنَّ هَذا مِنْ أَوانِكَ ولو كُنْتَ مِمَّنْ يُخاطَبُ لَخُوطِبْتَ الآنَ، وهذا في كلِّ مُنَادى لا يُجيبُ ولا يَعْقِلُ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ "هذا" عَائِدٌ إِلَى ذَاتِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، خَاطَبَ الْوَارِدُ بَقِيَّةَ السَّيَّارَةِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ ذَاتَ يُوسُفَ حِينَ أَصْعَدَهُ الْوَارِدُ مِنَ الْجُبِّ، إِذْ لَوْ كَانُوا يَرَوْنَهُ لَمَا كَانَتْ فَائِدَةٌ لِتَعْرِيفِهِمْ بِأَنَّهُ غُلَامٌ إِذِ الْمُشَاهَدَةُ كَافِيَةٌ عَنِ الْإِعْلَامِ، فَتَعَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُشَاهِدِينَ شَبَحَ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ ظَهَرَ مِنَ الْجُبِّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ لَا يُقْصَدُ بِهِ الدَّلَالَةُ عَلَى ذَاتٍ مُعَيَّنَةٍ مَرْئِيَّةٍ بَلْ يُقْصَدُ بِهِ إِشْعَارُ السَّامِعِ بِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ شَيْءٌ فَرِحَ بِهِ غَيْرُ مُتَرَقَّبٍ، كَمَا يَقُولُ الصَّائِدُ لِرِفَاقِهِ: هَذَا غَزَالٌ! وَكَمَا يَقُولُ الغائص: هَذِه صَدَقَة! أَوْ لُؤْلُؤَةٌ! وَيَقُولُ الْحَافِرُ لِلْبِئْرِ: هَذَا الْمَاءُ! قَالَ النَّابِغَةُ يَصِفُ الصَّائِدَ وَكِلَابَهُ وَفَرَسَهُ:
يَقُولُ رَاكِبُهُ الْجِنِّيُّ مُرْتَفِقًا .............. هَذَا لَكِنْ وَلَحْمُ الشَّاةِ مَحْجُورُ
وَكَانَ الْغَائِصُونَ إِذَا وَجَدُوا لُؤْلُؤَةً يَصِيحُونَ. فقد قَالَ النَّابِغَةُ:
أَوْ دُرَّةُ صَدَفَاتِهِ غَوَّاصُهَا .................. بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلُّ وَيَسْجُدُ
وَالْمَعْنَى: وَجَدْتُ فِي الْبِئْرِ غُلَامًا، فَهُوَ لُقَطَةٌ، فَيَكُونُ عَبْدًا لِمَنِ الْتَقَطَهُ. وَذَلِكَ سَبَبُ ابْتِهَاجِهِ بِقَوْلِهِ: يَا بُشْرَايَ هَذَا غُلَامٌ. وَالْغُلَامُ: مِنْ سِنِّهِ بَيْنَ الْعَشْرِ وَالْعِشْرِينَ. وَكَانَ سِنُّ يُوسُفَ يَوْمَئِذٍ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. فَتَعَلَّقَ يُوسُفُ بِالْحَبْلِ، فَلَمَّا خَرَجَ إِذَا غُلَامٌ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، أَحْسَنُ مَا يَكُونُ مِنَ الْغِلْمَانِ. قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: ((فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ)). وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: كَانَ يُوسُفُ حَسَنَ الْوَجْهِ، جَعْدَ الشَّعْرِ، ضَخْمَ الْعَيْنَيْنِ، مُسْتَوِيَ الْخَلْقِ، أَبْيَضَ اللَّوْنِ، غَلِيظَ السَّاعِدَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ، خَمِيصَ الْبَطْنِ، صَغِيرَ السُّرَّةِ، إِذَا ابْتَسَمَ رَأَيْتَ النُّورَ مِنْ ضَوَاحِكِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ رَأَيْتَ فِي كَلَامِهِ شُعَاعَ الشَّمْسِ مِنْ ثَنَايَاهُ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ وَصْفَهُ، وَكَانَ حُسْنُهُ كَضَوْءِ النَّهَارِ عِنْدَ اللَّيْلِ، وَكَانَ يُشْبِهُ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَوْمَ خَلَقَهُ اللهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَ الْمَعْصِيَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وَرِثَ ذَلِكَ الْجَمَالَ مِنْ جَدَّتِهِ سَارَةَ، وَكَانَتْ قَدْ أُعْطِيَتْ سُدُسَ الْحُسْنِ، فَلَمَّا رَآهُ مَالِكُ بْنُ دُعْرٍ قال: "يا بُشْرى هذا غُلامٌ". وَكَانَ هَؤُلَاءِ السيارة من الإسماعيليين كَمَا فِي التَّوْرَاةِ، أَيْ أَبْنَاءُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: كَانُوا مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ وَكَانَ مَجِيئُهُمُ الْجُبَّ لِلِاسْتِقَاءِ مِنْهَا، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ إِخْوَةُ يُوسُفَ إِذْ كَانُوا قَدِ ابْتَعَدُوا عَنِ الْجُبِّ.
أخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَأَبُو الشَّيْخ عَن الضَّحَّاك فِي الْآيَة قَالَ: جَاءَت سيارة فَنزلت على الْجب فأرسلوا واردهم فاستقى من المَاء فاستخرج يُوسُف فاستبشروا بِأَنَّهُم أَصَابُوا غُلَاما لَا يعلمُونَ علمه وَلَا مَنْزِلَته عِنْد ربه فزهدوا فِيهِ فباعوه وَكَانَ بَيْعه حَرَامًا وباعوه بِدَرَاهِم مَعْدُودَة.
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: "فأرسلوا واردهم" يَقُول: فأَرْسَلوا رسولَهم فأدْلى دَلوَهُ فتَشَبَّثَ الْغُلَام بالدَّلْوِ فَلَمَّا خرَجَ قَالَ: "يَا بشراي هَذَا غُلَام" تَبَاشروا بِهِ حِين استخرجوه: وَهِي بِئْر بِبَيْت الْمُقَدّس مَعْلُوم مَكَانهَا.
قولُهُ: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أَيْ: أَخْفَاهُ الوَارِدُ عَنْ أَصْحَابِهِ فِي القَافِلَةِ، أَوْ أَخْفَى إٍخْوَتُهُ أَمْرَهُ لِيَكُونَ مَتَاعًا لِلتِّجَارَةِ "بِضَاعَةً"، وَأَخْفَوْهُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ لِكَيْلاَ يَدَّعِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ المَكَانْ، لِيَكُونَ بِضَاعَةً مِنْ جُمْلَةِ تِجَارَتِهِمْ. وَالضَّمِيرُ لِلسَّيَّارَةِ لَا مَحَالَةَ، أَيْ أَخْفَوْا يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَيْ خَبَرُ الْتِقَاطِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ مِنْ وِلْدَانِ بَعْضِ الْأَحْيَاءِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْمَاءِ قَدْ تَرَدَّى فِي الْجُبِّ، فَإِذَا عَلِمَ أَهْلُهُ بِخَبَرِهِ طَلَبُوهُ وَانْتَزَعُوهُ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ تَوَسَّمُوا مِنْهُ مَخَائِلَ أَبْنَاءِ الْبُيُوتِ، وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَعْرِفُوا مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ الْجُبِّ وَيُعْلِنُوا كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي التَّعْرِيفِ بِاللُّقَطَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْله: وَأَسَرُّوهُ مُشْعِرًا بِأَنَّ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَخْبَرَهُمْ بِقِصَّتِهِ، فَأَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ طَمَعًا فِي أَنْ يَبِيعُوهُ. وَذَلِكَ مِنْ فِقْدَانِ الدِّينِ بَيْنَهُمْ أَوْ لِعَدَمِ الْعَمَلِ بِالدِّينِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ ـ رضي اللهُ عنهُ: أَسَرَّهُ مَالِكُ بْنُ دُعْرٍ وَأَصْحَابُهُ مِنَ التُّجَّارِ الَّذِينَ مَعَهُمْ فِي الرُّفْقَةِ، وَقَالُوا لَهُمْ: هُوَ بِضَاعَةٌ اسْتَبْضَعْنَاهَا بَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ أَوْ أَهْلِ هَذَا الْمَاءِ إِلَى مِصْرَ، وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا خِيفَةَ الشَّرِكَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَسَرَّهُ إِخْوَةُ يُوسُفَ بِضَاعَةً لَمَّا اسْتُخْرِجَ مِنَ الْجُبِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَاءُوا فَقَالُوا: بِئْسَ مَا صَنَعْتُمْ! هَذَا عَبْدٌ لَنَا أَبَقَ، وَقَالُوا لِيُوسُفَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ: إِمَّا أَنْ تُقِرَّ لَنَا بِالْعُبُودِيَّةِ فَنَبِيعَكَ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَإِمَّا أَنْ نَأْخُذَكَ فَنَقْتُلَكَ، فَقَالَ: أَنَا أُقِرُّ لَكُمْ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَأَقَرَّ لَهُمْ فَبَاعُوهُ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ يَهُوذَا وَصَّى أَخَاهُ يُوسُفَ بِلِسَانِهِمْ أَنِ اعْتَرِفْ لِإِخْوَتِكَ بِالْعُبُودِيَّةِ فَإِنِّي أَخْشَى إِنْ لَمْ تَفْعَلْ قَتَلُوكَ، فَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ لَكَ مَخْرَجًا، وَتَنْجُوَ مِنَ الْقَتْلِ، فَكَتَمَ يُوسُفُ شَأْنَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَقْتُلَهُ إِخْوَتُهُ، فَقَالَ مَالِكٌ: وَاللهِ مَا هَذِهِ سِمَةُ الْعَبِيدِ!، قَالُوا: هُوَ تَرَبَّى فِي حُجُورِنَا، وَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِنَا، وَتَأَدَّبَ بِآدَابِنَا، فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: صَدَقُوا! تَرَبَّيْتُ فِي حُجُورِهِمْ، وَتَخَلَّقْتُ بِأَخْلَاقِهِمْ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ بِعْتُمُوهُ مِنِّي اشْتَرَيْتُهُ مِنْكمْ، فبَاعوهُ مِنْهُ. وَأخرجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي الله عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وأسروه بضَاعَة" يَعْنِي إخْوَةُ يُوسُفَ أَسَرُّوا شَأْنَهُ وكَتَمُوا أَنْ يَكونَ أَخَاهُم، وكَتَمَ يُوسُفُ مَخَافَةَ أَنْ يَقْتُلَهُ إِخْوَتُهُ، وَاخْتَارَ البيعَ، فَبَاعَهُ إِخْوَتُهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاق، وَابْنُ جَريرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّهُ قال: "وأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً" قَالَ: أَسَرُّوا بَيْعَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً" قَالَ: أَسَرَّهُ التُّجَّارُ بَعْضُهم مِنْ بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ "وأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً" قَالَ: صَاحِبُ الدَّلْوِ وَمَنْ مَعَهُ فَقَالُوا لأَصْحابِهم: إِنَّا اسْتَبْضَعْنَاهُ خُفْيَة أَنْ يَسْتَشْرِكُوكم فِيهِ إِنْ علِمُوا بِهِ، واتَّبَعَهم إخْوَتُه يَقُولُونَ للمُدَلي وَأَصْحَابِهِ: اسْتَوْثِقوا مِنْهُ لَا يَأْبَقَنَّ حَتَّى وَثَّقُوهُ بِمِصْرَ فَقَالَ: مَنْ يُبْتَاعُنِي ويَسْتَسِرُّ فابْتَاعَهُ الْمَلِكُ وَالْمَلِكُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عَنْهُ: إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ كَانُوا يُرَاقِبُونَ البِئْرَ لِيَعْلَمُوا مَا الذِي سَيَكُونُ عَلَيهِ حَالُ يُوسُفَ، وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَذَكَرُوا خَبَرَهُ لِوَارِدِها، فَنَادَى أَصْحَابَهُ وَقَالَ: يَا بُشْرَى هَذا غُلاَمٌ يُبَاعُ، فَبَاعَهُ إِخْوَتُهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ قَلِيلٍ إِلَى وَارِدِ السَّيَّارَةِ، وَلَمْ يَقُولُوا إِنَّهُ أَخُوْهُمْ، وَلَمْ يَقُلْ هُوَ إِنَّهُمْ إِخْوَتُهُ، مُفَضِّلاً الرِّقَّ وَالبَيْعَ عَلَى أَنْ يَقْتُلَهُ إٍخْوَتُهُ، وَكَانَ الإِخْوَةُ مِنَ الزَّاهِدِينَ فِي يُوسُفَ وَلَوْ سَأَلَهُمْ أَحَدٌ أَنْ يُعْطُوهُ إِيَّاهُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ لَفَعَلُوا.
قولُهُ: {وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} فلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، إسْرارُهم ذاكَ، كان مَنْ كانَ المُسِرُّ. وصَرَّحَ غَيْرُ واحِدٍ أَنَّ هَذَا وَعيدٌ لإخْوَةِ يَوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَلَى مَا صَنَعُوا بِأَبيهم وأَخيهم وجَعْلِهم إِيَّاهُ ـ وهوَ هوَ، عُرْضَةً للابْتِذالِ بالبَيْعِ والشِّراءِ. أَيْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ مِنِ اسْتِرْقَاقِ مَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَقٌّ فِي اسْتِرْقَاقِهِ، وَمَنْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ قَوْمِهِ وَيُبَلِّغُوهُ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا خَبَرَهُ، أَوْ كَانَ مِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَطِيعًا أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِخَبَرِهِ.
قولُهُ تعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} الوَاوُ: للاستئنافِ، "جَاءَتْ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، والتاءُ لتأنيث الفاعِلِ، و "سَيَّارَةٌ" فاعلُهُ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها منَ الإعرابِ. و "فَأَرْسَلُوا" الفاءُ: عاطفة، و "أَرْسَلُوا" فِعْلُ ماضٍ مبنيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، والألفُ الفارقةُ، و "وَارِدَهُمْ" مَفْعُولٌ به منصوبٌ وهو مضافٌ، وضميرُ الغائبينَ متَّصلٌ به في مخلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليه، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ على جُمْلَةِ "جاءَتْ" على كونِها مستأنَفَةً لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} الفاءُ: للعطفِ، و "أَدْلَى" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ المقدَّرِ على آخرِهِ لتَعذُّرِ ظهورِهِ على الألفِ، و "دَلْوَهُ" مَفْعُولٌ به منصوبٌ مضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليه، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ على الوارِدِ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "أرسلوا" فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "قَالَ" فِعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُه "هو" يعودُ عَلَى الوارِدِ، والجُمْلَةِ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا مَبْنِيًّا عَلى سؤالٍ يقتضيهِ الحالُ، لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "يَا" أَداةُ تعجُّبٍ ونداءِ المتوسِّطِ بُعْدُهُ، و "بُشْرَى" مُنادَى نَكِرَةٌ مَقْصودَةٌ، مبنيَّةٌ على الضمِّ المقدَّرِ على آخرهِ لتَعذُرِ ظهورِهِ على الأَلِفِ، في محلِّ النَّصبِ بالنداءِ. وفي قراءَةِ: "يا بشراي" فمُنَادى مُضافٌ، وياءُ المتكلِّمِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ. وجُمْلَةُ النِّداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قَالَ". و "هَذَا" ها: للتَنْبيهِ، و "ذا" اسْمُ إِشارَةٍ مَبْنِيٌّ على السكونِ في مِحِلِّ الرفْعِ بالابْتِداءِ، و "غلامٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ الاسميَّةُ هذه في محلِّ النَّصْبِ مَقولَ القولِ لِ "قَالَ" عَلى كَوْنِها جَوابَ النِّداءِ.
قولُهُ: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} الوَاوُ: حاليَّةٌ، و "أَسَرُّوهُ" فِعْلُ ماضٍ مبنيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ رَفْعِ فاعِلٍ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولٍ به، وهوَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أَيْ: أسروا أَمْرَهُ، والضميرُ في أَسَرُّوا عائدٌ عَلى إِخْوَةِ يُوسُفَ، أوْ عَلى السَّيَّارَةِ. والجُمْلَة مَعْطوفةٌ على جملةِ "قَالَ" على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. و "بِضَاعَةً" نَصْبٌ عَلى الحالِ، أَوْ مُفْعُولٌ ثانٍ عَلى أَنْ يُضَمَّنَ "أَسَرُّوه" مَعْنَى صَيَّروهُ بالسِرِّ. والبِضَاعَةُ قِطْعَةٌ مِنَ المالِ تُعَدُّ للتِّجارَةِ مِنْ "بَضَعْتُ"، أَيْ: قَطَعْتُ، ومنْهُ المِبْضَعُ لِما يُقْطَعُ به. و "وَاللهُ" الواوُ: للاستئنافِ، ولَفْظُ الجَلالَةِ مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، و "عَلِيمٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ. و "بِمَا" الباءُ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بَ "عَلِيمٌ"، و "ما" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالباءِ. أو نَكِرةٌ موصوفةٌ، و "يَعْمَلُونَ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِه ثبوتُ النونِ في آخرِهِ، لأنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، والواوُ: واوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، وهذه الجُمْلَةُ صِلَةٌ لِـ "ما" أَوْ صِفَةٌ لَهَا، والعائدُ، أَوِ الرَّابِطُ مَحْذوفٌ تَقديرُهُ: بمَا تَعْملونَهُ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {يَا بُشْرَايَ} بِإِضَافَةِ الْبُشْرَى إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ الكوفيون، عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ بِدُونِ إِضَافَةٍ. بحذفِ ياءِ الإِضافة، وأمالَ أَلِفَ "فُعْلى" الأَخوانِ (حمزة والكسائيُّ)، وأَمالَها وَرَشٌ بَيْنَ بَيْنَ عَلَى أَصْلِهِ، ورويَ عَنْ أَبي عَمْرِو بْنِ العلاءِ الوَجهانِ، ولكنَّ الأَشْهَرَ عَنْهُ عَدَمُ الإِمالَةِ، ولَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِهِ عَلى مَا قُرِّرَ في عِلْمِ القِراءاتِ. ونداءُ البُشَرَى عَلَى حَدِّ قولِهِ في سورةِ الزُمَرِ: {يا حَسْرَتَا عَلى} الآية: 56. وكقولِهِ في سورة يس: {يا حَسْرَةً عَلَى العِبادِ} الآية: 30. كأَنَّهُ يَقولُ: يا بُشْرَى هذا وقتُ أَوانِ أَنْ تُنادَي ويُصاحَ بكِ. ومَنْ زَعَمَ أَنَّ "بُشْرَى" اسْمُ رَجُلٍ كَالسُدِّيِّ فَقَدْ أَبْعَدَ.
وقَرَأَ ورْشٌ عَنْ نافعٍ "يا بُشْراْيْ" بِسُكونِ الياءِ، وهوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَاكِنيْنِ في الوَصْلِ، وهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ في سورةِ الأنعام: {وَمَحْيَايَ} الآية: 162.
وقرأَ الجَحْدَرِيُّ وابْنُ أَبي إِسْحاقَ والحَسَنُ: "يا بُشْرَيَّ" بِقَلْبِ الأَلِفِ ياءً وإدْغامِها في ياءِ الإِضافَةِ، وهِيَ لُغَةٌ هُذَلِيَّةٌ تقدَّمَ الكلامُ عَلَيْها عِنْدَ قولِهِ: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَيَّ} في الآية: 38 من سورةِ البقرة. قالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:
سَبَقوا (هَوَيَّ) وأَعْنَقوا لِهَواهُمُ ............ فَتَخَرَّموا وَلِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ
وقالَ الزمخشري: وفي قراءة الحَسَنِ "يا بُشْرَيَّ" بالياء مَكان الألف جُعِلَتْ الياءُ بمنزلة الكسرةِ قبل ياءِ الإِضافةِ وهي لُغَةٌ للعَرَبِ مَشْهُورَةٌ، سَمِعْتُ أَهْلَ السَرواتِ يَقولونَ في دُعائهم: يا سَيِّدِي ومَوْلَيَّ.
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
قولُهُ ـ جلَّ جلالُهُ: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} وَمَرَّتْ بِالبِئْرِ قَافِلَةٌ "سَيَّارَةٌ" مُجْتَازَةٌ، أَيْ رُفْقَةٌ مَارَّةٌ يَسِيرُونَ مِنَ الشَّامِ إِلَى مِصْرَ فَأَخْطَأوا الطَّرِيقَ، وَهَامُوا حَتَّى نَزَلُوا قَرِيبًا مِنَ الْجُبِّ، فأَصابوا يُوْسُفَ، وَكَانَ الْجُبُّ فِي قَفْرَةٍ بَعِيدَةٍ مِنَ الْعُمْرَانِ، إِنَّمَا هُوَ لِلرُّعَاةِ وَالْمُجْتَازِ، وَكَانَ مَاؤُهُ مِلْحًا فَعَذُبَ حِينَ أُلْقِيَ فِيهِ يُوسُفَ. وهذا شُرُوعٌ فِيما جَرَى عَلَى يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، في الجُبِّ، بَعْدَ الفَراغِ عَنْ ذِكْرِ مَا وَقَعَ بَيْنَ إِخْوَتِهِ وبَيْنَ أَبِيهِ، وفي التَعْبيرِ بالمَجِيءِ إِيماءٌ إلى كَرَامَةِ يَوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، عِنْدَ رَبَّهِ سُبْحانَهُ.
قولُهُ: {فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} فَأَرْسَلُوا رَجُلاً مِنْهُمْ إِلَى البِئْرِ لِيَسْتَقِي لَهُمُ المَاءَ، و "وَارِدَهُمْ" الذي يُريدُ المَاءَ ويَسْتَقي لَهم. ذَكَرَ أَصْحَابُ التَواريخِ أَنَّ اسمَ هذا الواردِ هو مالكُ بْنُ دُعْرِ الخُزاعِيِّ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الوارِدُ يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ عَلَى الواحِدِ وعَلَى الجَمَاعَةِ. والأوَّلُ أظْهَرُ.
قولُهُ: {فَأَدْلَى دَلْوَهُ} أَيْ: أَرْسَلَهَا لِيَمْلَأَها. يُقالُ: أَدْلى الدَّلْوَ إِذا أَرْسَلها لِيَمْلَأَها، ودَلَّاها إِذا أَخْرَجَهَا مَلْأَى، وأَدْلَى يُدْلِي إِدْلاءً إِذا أَرْسَلَ، ودَلَى يَدْلُو دَلْوًا، إِذا جَذَبَ وأَخْرَجَ. قالَ العَجَّاجُ الرَّاجِزُ:
يَنْزِعُ مِنْ جَمَّاتِهَا دَلْوَ الدَّالي
أَيْ: يَنْزِعُ النَّازِعُ، والدَّلْوُ مَعْروفٌ، والجَمْعُ دِّلاءٌ، والعَدَدُ إِدْلٍ ودُلي، ويُقال للدَّلْوِ دَلاةٌ. والدَّلْوُ مِنَ المُؤنَّثاتِ السَّمَاعِيَّةِ فتُصَغَّرُ عَلى دُلَيَّةٍ، وَجَمْعُ دَلْوٍ فِي أَقَلَّ الْعَدَدِ أَدْلٍ، فَإِذَا كَثُرَتْ قُلْتَ: دُلِيٌّ وَدِلِيٌّ، فَقُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً، إِلَّا أَنَّ الْجَمْعَ بَابُهُ التَّغْيِيرُ، وَلْيُفَرَّقْ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَدِلَاءٌ أَيْضًا. وقالَ ابْنُ الشُّحْنَةِ: إنَّ الدَّلْوَ التي يُسْتَقَى بِها مُؤَنَّثَةٌ، وقدْ تُذَكَّرُ، وأَمَّا الدَلْوُ مَصْدَرُ دَلَوْتُ، وضَرْبٌ مِنَ السَّيْرِ فَمُذَكَّرٌ ومِثْلُها في التَذْكِيرِ والتَأْنيثِ الجُبُّ عِنْدَ الفَرَّاءِ ـ عَلى مَا نَقَلَهُ عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الجَهْمِ، وعَنْ بَعْضِهم أَنَّهُ مُذَكَّرٌ لا غَيْر، وأَمَّا البِئْرُ فمُؤنَّثَةٌ فقَط في المَشْهورِ، ويُقالُ في تَصغيرِها: بُوَيْرَةٌ؛ وفي جَمْعِها آبار. وأَبَار. وأُبؤر. وبِئار، وفي الكَلامِ حَذْفٌ، أَيْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ فَتَدَلَّى بِهَا يُوسُفُ فخَرَجَ، والتَأْنيثُ في "جَاءتِ" والتَذْكيرُ في "أُرْسِلُواْ" باعْتِبارِ اللَّفْظِ والمَعْنَى. والأَصْلُ: دِلاو فقُلِبَتِ الواوُ هَمْزَةً نَحْوَ كِساء، وأَدْلِوٌ فأُعِلَّ إعلالَ قاضٍ، ودُلُوْوٌ بواوين فَقُلِبتا ياءَيْن نحو: عِصِيّ. وَالدَّلْوُ: ظَرْفٌ كَبِيرٌ مِنْ جِلْدٍ مَخِيطٍ لَهُ خُرْطُومٌ فِي أَسْفَلِهِ يَكُونُ مَطْوِيًّا عَلَى ظَاهِرِ الظَّرْفِ بِسَبَبِ شَدِّهِ بِحَبْلٍ مُقَارِنٍ لِلْحَبْلِ الْمُعَلَّقَةِ فِيهِ الدَّلْوُ.
قولُهُ: { قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} نِدَاءُ الْبُشْرَى مَجَازٌ، لِأَنَّ الْبُشْرَى لَا تُنَادَى، وَلَكِنَّهَا شُبِّهَتْ بِالْعَاقِلِ الْغَائِبِ الَّذِي احْتِيجَ إِلَيْهِ فَيُنَادَى كَأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: هَذَا آنُ حُضُورِكَ. وَمِنْهُ: يَا حسرتا، وَ يَا عجبا، فَهِيَ مَكْنِيَّةٌ وَحَرْفُ النِّدَاءِ تَخْيِيلٌ أَوْ تَبَعِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ فَرِحَ وَابْتَهَجَ بِالْعُثُورِ عَلَى غُلَامٍ. قالَهُ قَتَادَةُ. وقالَ السُدِّيُّ فأبعدَ: أَنَّهُ نَادَى أَحَدَهم، وكانَ اسْمُهُ "بُشْرى" فنَاداهُ باسْمِهِ يُعْلِمُهُ بالغُلام. وهوَ استعارةٌ مَكْنِيَّةٌ وتَخْيِيلِيَّةٌ، أَيْ: يا بُشْرَى تَعالَى فَهَذَا أوانُ حُضُورِكَ، وقيلَ: المُنادَى مَحْذوفٌ كما في (يا ليتَ) أي: يا قومِي انْظُروا واسْمَعُوا بُشْرَايَ، وقيلَ: إِنَّ هَذِهِ الكَلِمَةَ تُسْتَعْمَلُ للتَبْشيرِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلى النِداءِ.
قال ابن الأنباريِّ: وَقَعَ النِّداءُ في اللفظِ بالبُشْرى، وهوَ في المَعنى واقعٌ لِغَيْرِها، تَأْويلُه: يا هؤلاءِ تَنَبَّهوا لِبُشْرايَ. وهذا مَعْنَى قولِ أَبي إِسْحاقٍ الزجّاجُ، ومَعْنَى النِّداءِ في هَذِهِ الأَشْيَاءِ التي لا تُجيبُ تَنْبيهُ المُخاطَبينَ، وتَوكيدُ القِصَّةِ إذا قلتَ: يا عَجَبَاهُ، فَكَأَنَّكَ قلتَ: اعْجَبُوا، وذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ، وهوَ أَنْ يَكونَ المَعْنَى: يا أَيَّتُها البُشْرى هذا مِنْ إِيانِكِ وأَوانِكِ، وزادَ أَبو عَلِيٍّ الفارسيُّ لِهَذَا الوَجْهِ بَيانًا، فقالَ: المَعْنَى فيهِ أَنَّ هَذا مِنْ أَوانِكَ ولو كُنْتَ مِمَّنْ يُخاطَبُ لَخُوطِبْتَ الآنَ، وهذا في كلِّ مُنَادى لا يُجيبُ ولا يَعْقِلُ. وَاسْمُ الْإِشَارَةِ "هذا" عَائِدٌ إِلَى ذَاتِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، خَاطَبَ الْوَارِدُ بَقِيَّةَ السَّيَّارَةِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ ذَاتَ يُوسُفَ حِينَ أَصْعَدَهُ الْوَارِدُ مِنَ الْجُبِّ، إِذْ لَوْ كَانُوا يَرَوْنَهُ لَمَا كَانَتْ فَائِدَةٌ لِتَعْرِيفِهِمْ بِأَنَّهُ غُلَامٌ إِذِ الْمُشَاهَدَةُ كَافِيَةٌ عَنِ الْإِعْلَامِ، فَتَعَيَّنَ أَيْضًا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُشَاهِدِينَ شَبَحَ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ ظَهَرَ مِنَ الْجُبِّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ لَا يُقْصَدُ بِهِ الدَّلَالَةُ عَلَى ذَاتٍ مُعَيَّنَةٍ مَرْئِيَّةٍ بَلْ يُقْصَدُ بِهِ إِشْعَارُ السَّامِعِ بِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ شَيْءٌ فَرِحَ بِهِ غَيْرُ مُتَرَقَّبٍ، كَمَا يَقُولُ الصَّائِدُ لِرِفَاقِهِ: هَذَا غَزَالٌ! وَكَمَا يَقُولُ الغائص: هَذِه صَدَقَة! أَوْ لُؤْلُؤَةٌ! وَيَقُولُ الْحَافِرُ لِلْبِئْرِ: هَذَا الْمَاءُ! قَالَ النَّابِغَةُ يَصِفُ الصَّائِدَ وَكِلَابَهُ وَفَرَسَهُ:
يَقُولُ رَاكِبُهُ الْجِنِّيُّ مُرْتَفِقًا .............. هَذَا لَكِنْ وَلَحْمُ الشَّاةِ مَحْجُورُ
وَكَانَ الْغَائِصُونَ إِذَا وَجَدُوا لُؤْلُؤَةً يَصِيحُونَ. فقد قَالَ النَّابِغَةُ:
أَوْ دُرَّةُ صَدَفَاتِهِ غَوَّاصُهَا .................. بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلُّ وَيَسْجُدُ
وَالْمَعْنَى: وَجَدْتُ فِي الْبِئْرِ غُلَامًا، فَهُوَ لُقَطَةٌ، فَيَكُونُ عَبْدًا لِمَنِ الْتَقَطَهُ. وَذَلِكَ سَبَبُ ابْتِهَاجِهِ بِقَوْلِهِ: يَا بُشْرَايَ هَذَا غُلَامٌ. وَالْغُلَامُ: مِنْ سِنِّهِ بَيْنَ الْعَشْرِ وَالْعِشْرِينَ. وَكَانَ سِنُّ يُوسُفَ يَوْمَئِذٍ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. فَتَعَلَّقَ يُوسُفُ بِالْحَبْلِ، فَلَمَّا خَرَجَ إِذَا غُلَامٌ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، أَحْسَنُ مَا يَكُونُ مِنَ الْغِلْمَانِ. قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ: ((فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ إِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ)). وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: كَانَ يُوسُفُ حَسَنَ الْوَجْهِ، جَعْدَ الشَّعْرِ، ضَخْمَ الْعَيْنَيْنِ، مُسْتَوِيَ الْخَلْقِ، أَبْيَضَ اللَّوْنِ، غَلِيظَ السَّاعِدَيْنِ وَالْعَضُدَيْنِ، خَمِيصَ الْبَطْنِ، صَغِيرَ السُّرَّةِ، إِذَا ابْتَسَمَ رَأَيْتَ النُّورَ مِنْ ضَوَاحِكِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ رَأَيْتَ فِي كَلَامِهِ شُعَاعَ الشَّمْسِ مِنْ ثَنَايَاهُ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ وَصْفَهُ، وَكَانَ حُسْنُهُ كَضَوْءِ النَّهَارِ عِنْدَ اللَّيْلِ، وَكَانَ يُشْبِهُ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يَوْمَ خَلَقَهُ اللهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَ الْمَعْصِيَةَ، وَقِيلَ: إِنَّهُ وَرِثَ ذَلِكَ الْجَمَالَ مِنْ جَدَّتِهِ سَارَةَ، وَكَانَتْ قَدْ أُعْطِيَتْ سُدُسَ الْحُسْنِ، فَلَمَّا رَآهُ مَالِكُ بْنُ دُعْرٍ قال: "يا بُشْرى هذا غُلامٌ". وَكَانَ هَؤُلَاءِ السيارة من الإسماعيليين كَمَا فِي التَّوْرَاةِ، أَيْ أَبْنَاءُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: كَانُوا مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ وَكَانَ مَجِيئُهُمُ الْجُبَّ لِلِاسْتِقَاءِ مِنْهَا، وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ إِخْوَةُ يُوسُفَ إِذْ كَانُوا قَدِ ابْتَعَدُوا عَنِ الْجُبِّ.
أخرج ابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَأَبُو الشَّيْخ عَن الضَّحَّاك فِي الْآيَة قَالَ: جَاءَت سيارة فَنزلت على الْجب فأرسلوا واردهم فاستقى من المَاء فاستخرج يُوسُف فاستبشروا بِأَنَّهُم أَصَابُوا غُلَاما لَا يعلمُونَ علمه وَلَا مَنْزِلَته عِنْد ربه فزهدوا فِيهِ فباعوه وَكَانَ بَيْعه حَرَامًا وباعوه بِدَرَاهِم مَعْدُودَة.
وَأخرج عبد الرَّزَّاق وَابْن جرير وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله: "فأرسلوا واردهم" يَقُول: فأَرْسَلوا رسولَهم فأدْلى دَلوَهُ فتَشَبَّثَ الْغُلَام بالدَّلْوِ فَلَمَّا خرَجَ قَالَ: "يَا بشراي هَذَا غُلَام" تَبَاشروا بِهِ حِين استخرجوه: وَهِي بِئْر بِبَيْت الْمُقَدّس مَعْلُوم مَكَانهَا.
قولُهُ: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أَيْ: أَخْفَاهُ الوَارِدُ عَنْ أَصْحَابِهِ فِي القَافِلَةِ، أَوْ أَخْفَى إٍخْوَتُهُ أَمْرَهُ لِيَكُونَ مَتَاعًا لِلتِّجَارَةِ "بِضَاعَةً"، وَأَخْفَوْهُ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ لِكَيْلاَ يَدَّعِيهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ المَكَانْ، لِيَكُونَ بِضَاعَةً مِنْ جُمْلَةِ تِجَارَتِهِمْ. وَالضَّمِيرُ لِلسَّيَّارَةِ لَا مَحَالَةَ، أَيْ أَخْفَوْا يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَيْ خَبَرُ الْتِقَاطِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ مِنْ وِلْدَانِ بَعْضِ الْأَحْيَاءِ الْقَرِيبَةِ مِنَ الْمَاءِ قَدْ تَرَدَّى فِي الْجُبِّ، فَإِذَا عَلِمَ أَهْلُهُ بِخَبَرِهِ طَلَبُوهُ وَانْتَزَعُوهُ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ تَوَسَّمُوا مِنْهُ مَخَائِلَ أَبْنَاءِ الْبُيُوتِ، وَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَعْرِفُوا مَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ الْجُبِّ وَيُعْلِنُوا كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي التَّعْرِيفِ بِاللُّقَطَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْله: وَأَسَرُّوهُ مُشْعِرًا بِأَنَّ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَخْبَرَهُمْ بِقِصَّتِهِ، فَأَعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ طَمَعًا فِي أَنْ يَبِيعُوهُ. وَذَلِكَ مِنْ فِقْدَانِ الدِّينِ بَيْنَهُمْ أَوْ لِعَدَمِ الْعَمَلِ بِالدِّينِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ ـ رضي اللهُ عنهُ: أَسَرَّهُ مَالِكُ بْنُ دُعْرٍ وَأَصْحَابُهُ مِنَ التُّجَّارِ الَّذِينَ مَعَهُمْ فِي الرُّفْقَةِ، وَقَالُوا لَهُمْ: هُوَ بِضَاعَةٌ اسْتَبْضَعْنَاهَا بَعْضُ أَهْلِ الشَّامِ أَوْ أَهْلِ هَذَا الْمَاءِ إِلَى مِصْرَ، وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا خِيفَةَ الشَّرِكَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَسَرَّهُ إِخْوَةُ يُوسُفَ بِضَاعَةً لَمَّا اسْتُخْرِجَ مِنَ الْجُبِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَاءُوا فَقَالُوا: بِئْسَ مَا صَنَعْتُمْ! هَذَا عَبْدٌ لَنَا أَبَقَ، وَقَالُوا لِيُوسُفَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ: إِمَّا أَنْ تُقِرَّ لَنَا بِالْعُبُودِيَّةِ فَنَبِيعَكَ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَإِمَّا أَنْ نَأْخُذَكَ فَنَقْتُلَكَ، فَقَالَ: أَنَا أُقِرُّ لَكُمْ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَأَقَرَّ لَهُمْ فَبَاعُوهُ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ يَهُوذَا وَصَّى أَخَاهُ يُوسُفَ بِلِسَانِهِمْ أَنِ اعْتَرِفْ لِإِخْوَتِكَ بِالْعُبُودِيَّةِ فَإِنِّي أَخْشَى إِنْ لَمْ تَفْعَلْ قَتَلُوكَ، فَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ لَكَ مَخْرَجًا، وَتَنْجُوَ مِنَ الْقَتْلِ، فَكَتَمَ يُوسُفُ شَأْنَهُ مَخَافَةَ أَنْ يَقْتُلَهُ إِخْوَتُهُ، فَقَالَ مَالِكٌ: وَاللهِ مَا هَذِهِ سِمَةُ الْعَبِيدِ!، قَالُوا: هُوَ تَرَبَّى فِي حُجُورِنَا، وَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِنَا، وَتَأَدَّبَ بِآدَابِنَا، فَقَالَ: مَا تَقُولُ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: صَدَقُوا! تَرَبَّيْتُ فِي حُجُورِهِمْ، وَتَخَلَّقْتُ بِأَخْلَاقِهِمْ، فَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ بِعْتُمُوهُ مِنِّي اشْتَرَيْتُهُ مِنْكمْ، فبَاعوهُ مِنْهُ. وَأخرجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي الله عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وأسروه بضَاعَة" يَعْنِي إخْوَةُ يُوسُفَ أَسَرُّوا شَأْنَهُ وكَتَمُوا أَنْ يَكونَ أَخَاهُم، وكَتَمَ يُوسُفُ مَخَافَةَ أَنْ يَقْتُلَهُ إِخْوَتُهُ، وَاخْتَارَ البيعَ، فَبَاعَهُ إِخْوَتُهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاق، وَابْنُ جَريرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّهُ قال: "وأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً" قَالَ: أَسَرُّوا بَيْعَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً" قَالَ: أَسَرَّهُ التُّجَّارُ بَعْضُهم مِنْ بَعْضٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ "وأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً" قَالَ: صَاحِبُ الدَّلْوِ وَمَنْ مَعَهُ فَقَالُوا لأَصْحابِهم: إِنَّا اسْتَبْضَعْنَاهُ خُفْيَة أَنْ يَسْتَشْرِكُوكم فِيهِ إِنْ علِمُوا بِهِ، واتَّبَعَهم إخْوَتُه يَقُولُونَ للمُدَلي وَأَصْحَابِهِ: اسْتَوْثِقوا مِنْهُ لَا يَأْبَقَنَّ حَتَّى وَثَّقُوهُ بِمِصْرَ فَقَالَ: مَنْ يُبْتَاعُنِي ويَسْتَسِرُّ فابْتَاعَهُ الْمَلِكُ وَالْمَلِكُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عَنْهُ: إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ كَانُوا يُرَاقِبُونَ البِئْرَ لِيَعْلَمُوا مَا الذِي سَيَكُونُ عَلَيهِ حَالُ يُوسُفَ، وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَذَكَرُوا خَبَرَهُ لِوَارِدِها، فَنَادَى أَصْحَابَهُ وَقَالَ: يَا بُشْرَى هَذا غُلاَمٌ يُبَاعُ، فَبَاعَهُ إِخْوَتُهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ قَلِيلٍ إِلَى وَارِدِ السَّيَّارَةِ، وَلَمْ يَقُولُوا إِنَّهُ أَخُوْهُمْ، وَلَمْ يَقُلْ هُوَ إِنَّهُمْ إِخْوَتُهُ، مُفَضِّلاً الرِّقَّ وَالبَيْعَ عَلَى أَنْ يَقْتُلَهُ إٍخْوَتُهُ، وَكَانَ الإِخْوَةُ مِنَ الزَّاهِدِينَ فِي يُوسُفَ وَلَوْ سَأَلَهُمْ أَحَدٌ أَنْ يُعْطُوهُ إِيَّاهُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ لَفَعَلُوا.
قولُهُ: {وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} فلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، إسْرارُهم ذاكَ، كان مَنْ كانَ المُسِرُّ. وصَرَّحَ غَيْرُ واحِدٍ أَنَّ هَذَا وَعيدٌ لإخْوَةِ يَوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَلَى مَا صَنَعُوا بِأَبيهم وأَخيهم وجَعْلِهم إِيَّاهُ ـ وهوَ هوَ، عُرْضَةً للابْتِذالِ بالبَيْعِ والشِّراءِ. أَيْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ مِنِ اسْتِرْقَاقِ مَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَقٌّ فِي اسْتِرْقَاقِهِ، وَمَنْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَسْأَلُوا عَنْ قَوْمِهِ وَيُبَلِّغُوهُ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا خَبَرَهُ، أَوْ كَانَ مِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَسْأَلُوهُ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَطِيعًا أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِخَبَرِهِ.
قولُهُ تعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} الوَاوُ: للاستئنافِ، "جَاءَتْ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، والتاءُ لتأنيث الفاعِلِ، و "سَيَّارَةٌ" فاعلُهُ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها منَ الإعرابِ. و "فَأَرْسَلُوا" الفاءُ: عاطفة، و "أَرْسَلُوا" فِعْلُ ماضٍ مبنيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، والألفُ الفارقةُ، و "وَارِدَهُمْ" مَفْعُولٌ به منصوبٌ وهو مضافٌ، وضميرُ الغائبينَ متَّصلٌ به في مخلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليه، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ على جُمْلَةِ "جاءَتْ" على كونِها مستأنَفَةً لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} الفاءُ: للعطفِ، و "أَدْلَى" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ المقدَّرِ على آخرِهِ لتَعذُّرِ ظهورِهِ على الألفِ، و "دَلْوَهُ" مَفْعُولٌ به منصوبٌ مضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليه، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ على الوارِدِ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "أرسلوا" فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "قَالَ" فِعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُه "هو" يعودُ عَلَى الوارِدِ، والجُمْلَةِ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا مَبْنِيًّا عَلى سؤالٍ يقتضيهِ الحالُ، لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "يَا" أَداةُ تعجُّبٍ ونداءِ المتوسِّطِ بُعْدُهُ، و "بُشْرَى" مُنادَى نَكِرَةٌ مَقْصودَةٌ، مبنيَّةٌ على الضمِّ المقدَّرِ على آخرهِ لتَعذُرِ ظهورِهِ على الأَلِفِ، في محلِّ النَّصبِ بالنداءِ. وفي قراءَةِ: "يا بشراي" فمُنَادى مُضافٌ، وياءُ المتكلِّمِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ. وجُمْلَةُ النِّداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قَالَ". و "هَذَا" ها: للتَنْبيهِ، و "ذا" اسْمُ إِشارَةٍ مَبْنِيٌّ على السكونِ في مِحِلِّ الرفْعِ بالابْتِداءِ، و "غلامٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ الاسميَّةُ هذه في محلِّ النَّصْبِ مَقولَ القولِ لِ "قَالَ" عَلى كَوْنِها جَوابَ النِّداءِ.
قولُهُ: {وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} الوَاوُ: حاليَّةٌ، و "أَسَرُّوهُ" فِعْلُ ماضٍ مبنيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ رَفْعِ فاعِلٍ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولٍ به، وهوَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أَيْ: أسروا أَمْرَهُ، والضميرُ في أَسَرُّوا عائدٌ عَلى إِخْوَةِ يُوسُفَ، أوْ عَلى السَّيَّارَةِ. والجُمْلَة مَعْطوفةٌ على جملةِ "قَالَ" على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. و "بِضَاعَةً" نَصْبٌ عَلى الحالِ، أَوْ مُفْعُولٌ ثانٍ عَلى أَنْ يُضَمَّنَ "أَسَرُّوه" مَعْنَى صَيَّروهُ بالسِرِّ. والبِضَاعَةُ قِطْعَةٌ مِنَ المالِ تُعَدُّ للتِّجارَةِ مِنْ "بَضَعْتُ"، أَيْ: قَطَعْتُ، ومنْهُ المِبْضَعُ لِما يُقْطَعُ به. و "وَاللهُ" الواوُ: للاستئنافِ، ولَفْظُ الجَلالَةِ مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، و "عَلِيمٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ. و "بِمَا" الباءُ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بَ "عَلِيمٌ"، و "ما" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالباءِ. أو نَكِرةٌ موصوفةٌ، و "يَعْمَلُونَ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِه ثبوتُ النونِ في آخرِهِ، لأنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، والواوُ: واوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، وهذه الجُمْلَةُ صِلَةٌ لِـ "ما" أَوْ صِفَةٌ لَهَا، والعائدُ، أَوِ الرَّابِطُ مَحْذوفٌ تَقديرُهُ: بمَا تَعْملونَهُ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {يَا بُشْرَايَ} بِإِضَافَةِ الْبُشْرَى إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ. وَقَرَأَ الكوفيون، عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَخَلَفٌ بِدُونِ إِضَافَةٍ. بحذفِ ياءِ الإِضافة، وأمالَ أَلِفَ "فُعْلى" الأَخوانِ (حمزة والكسائيُّ)، وأَمالَها وَرَشٌ بَيْنَ بَيْنَ عَلَى أَصْلِهِ، ورويَ عَنْ أَبي عَمْرِو بْنِ العلاءِ الوَجهانِ، ولكنَّ الأَشْهَرَ عَنْهُ عَدَمُ الإِمالَةِ، ولَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أَصْلِهِ عَلى مَا قُرِّرَ في عِلْمِ القِراءاتِ. ونداءُ البُشَرَى عَلَى حَدِّ قولِهِ في سورةِ الزُمَرِ: {يا حَسْرَتَا عَلى} الآية: 56. وكقولِهِ في سورة يس: {يا حَسْرَةً عَلَى العِبادِ} الآية: 30. كأَنَّهُ يَقولُ: يا بُشْرَى هذا وقتُ أَوانِ أَنْ تُنادَي ويُصاحَ بكِ. ومَنْ زَعَمَ أَنَّ "بُشْرَى" اسْمُ رَجُلٍ كَالسُدِّيِّ فَقَدْ أَبْعَدَ.
وقَرَأَ ورْشٌ عَنْ نافعٍ "يا بُشْراْيْ" بِسُكونِ الياءِ، وهوَ جَمْعٌ بَيْنَ سَاكِنيْنِ في الوَصْلِ، وهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ في سورةِ الأنعام: {وَمَحْيَايَ} الآية: 162.
وقرأَ الجَحْدَرِيُّ وابْنُ أَبي إِسْحاقَ والحَسَنُ: "يا بُشْرَيَّ" بِقَلْبِ الأَلِفِ ياءً وإدْغامِها في ياءِ الإِضافَةِ، وهِيَ لُغَةٌ هُذَلِيَّةٌ تقدَّمَ الكلامُ عَلَيْها عِنْدَ قولِهِ: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَيَّ} في الآية: 38 من سورةِ البقرة. قالَ أَبو ذُؤَيْبٍ:
سَبَقوا (هَوَيَّ) وأَعْنَقوا لِهَواهُمُ ............ فَتَخَرَّموا وَلِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرَعُ
وقالَ الزمخشري: وفي قراءة الحَسَنِ "يا بُشْرَيَّ" بالياء مَكان الألف جُعِلَتْ الياءُ بمنزلة الكسرةِ قبل ياءِ الإِضافةِ وهي لُغَةٌ للعَرَبِ مَشْهُورَةٌ، سَمِعْتُ أَهْلَ السَرواتِ يَقولونَ في دُعائهم: يا سَيِّدِي ومَوْلَيَّ.