العفو في معيار الإسلام
الإسلام مجموعة من الفضائل الإنسانية والقيم العالية، التي مكَّنت له في الأرض، وبها انساح في العالم شرقًا وغربًا، ومن أخلاقه العفو، وحقيقته أن يصفح الإنسان عمَّن أساء إليه، مع القدرة على القصاص من المسيء، وهو فضيلة من أعظم الفضائل، وصفة من أكرم الصفات، تدل على سمو في النفس، وطهارة في القلب، ونقاء في السريرة، وقوة في الإرادة، وقدرة على التحكم في النفس التي هي ميَّالة بطبيعتها إلى شهوة القصاص ومقابلة السيئة بالمثل.
وإذا تفيَّأت روضة القرآن المجيد تلتقي مع رب العزة - جل جلاله - يوجِّه رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - إلى فضيلة العفو، كما يتضح من قوله: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، ثم يوضِّح القرآن المجيد أن الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، طريقُها معبَّد ميسَّر للذي استطاع أن يكظم غيظه، ويعفو عمَّن أساء إليه، وإلى هذا يشير كتاب الله: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [آل عمران: 133، 134].
ويعود القرآن المجيد فيبيِّن أن الكثير من بين البشر قد التفُّوا حول الدعوة المحمدية إيمانًا بها وتصديقًا لها، يعززونها إلى أن تم الدين وتكامل؛ لأن صاحب هذه الدعوة - صلوات الله وسلامه عليه - كان ليِّن الجانب سمحًا هينًا، وإلى هذا يشير القرآن: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].
وفي غزوة أُحُد يوم أن ضاع المسلمون على جنبات الأرض، وتفرَّق جمعهم، واختلَّت صفوفهم، واستشهد من المسلمين الكثير، وكان منهم حمزة بن عبدالمطلب أسدُ الله وعم رسول الله، ولما رآه رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - وقد مثِّل به أسوأ تمثيل، حزن وأخذ التأثر منه كل مأخذ، ولقد عبر عما أحسَّ به بقوله: ((والله ما رأيت أغيظ ولا أوجع لقلبي من ذلك اليوم، ولم أُصَب بمثلك قط يا عمَّاه، فرحمك الله يا حمزة، لقد كنت فعولاً للخير، وصولاً للرحم، سباقًا إلى المكارم، منفسًا للكربات، أَمَا والله لئن أظفرني الله بالمشركين لأمثلن بسبعين من ساداتهم))، ولكن الله العلي الحكيم الذي أدَّب رسوله -صلى الله عليه وسلم- بأدبه، لم يرتضِ منه ذلك، وأنزل قوله توجيهًا للمسلمين في شخص رسولهم: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 126 - 128].
ولا غرابة في ذلك، فالإسلام الذي رضيه الله لعباده دينٌ عام يرغِّب في الرحمة، ويحض على العفو، ويدعو إلى السماحة؛ ليكوِّن المجمتع المتحاب المترابط، الذي سلِم قلبه من جميع الأمراض الفتاكة التي تعترض بناء الأمة، وتهدم كيان الدولة، وتزرع فيها كل عوامل التفرقة والضعف.
يروي أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس؛ إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال له عمر: ما أضحكك يا رسول الله، بأبي أنت وأمي؟ قال: ((رجلانِ من أمتي جَثَيا بين يدي رب العزة، فقال أحدهما: يا رب، خُذْ لي مظلمتي من أخي، فقال الله: كيف تصنع بأخيك ولم يبقَ من حسناته شيء؟ قال: يا رب، فليتحمَّل من أوزاري))، وفاضت عينا رسول الله بالبكاء، ثم قال: إن ذلك ليومٌ عظيم، يحتاج الناس أن يحمل من أوزارهم، فقال الله للطالب: ((ارفع بصرك فانظر، فرفع فقال: يا رب، أرى مدائن من ذهب، وقصورًا من ذهب مكللة باللؤلؤ، لأي نبي هذا؟ أو لأي صدِّيق هذا؟ أو لأي شهيد هذا؟ قال: لمَن أعطى الثمن، قال: يا رب، ومَن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه، قال: بماذا؟ قال: بعفوِك عن أخيك، قال: يا رب، إني قد عفوتُ عنه، قال الله: فخُذْ بيد أخيك، وأدخله الجنة))، فقال رسول الله عند ذلك: ((اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم)).
وحول بيان الثواب المضاعَف الذي أعدَّه الله للعافين عن الناس، يروي أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((إذا وقف الناس للحساب جاء قوم واضعي سيوفهم على رقابهم تقطر دمًا، فازدحموا على باب الجنة، فقيل: مَن هؤلاء؟ قيل: الشهداء، كانوا أحياء مرزوقين، ثم نادى منادٍ بينهم: مَن أجره على الله فليدخلِ الجنة، قال: ومَن الذي أجره على الله؟ قال: العافون عن الناس، ثم نادى الثالثة: ليقم مَن أجره على الله فليدخل الجنة، فقام كذا وكذا ألفًا، فدخلوها بغير حساب!
والعفو عن الظالم يجعل الحساب يسيرًا يوم يقف العباد أمام الله ليلقَى كل امرئ جزاء عمله؛ إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ثلاثٌ مَن كن فيه حاسبَه الله حسابًا يسيرًا وأدخله الجنة برحمته))، قالوا: وما هي يا رسول الله، بأبي أنت وأمي؟ قال: ((تعطي مَن حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمَّن ظلمك، فإذا فعلت ذلك تدخل الجنة)).
وفي إطار هذا المعنى يروي الإمام علي - كرم الله وجهه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ألا أدلُّك على أكرم أخلاق الدنيا والآخرة؟ أن تصل مَن قطعك، وتعطي من حرمك، وأن تعفو عمَّن ظلمك)).
وحَسْب العافين سموَّ منزلةٍ عند خالقهم أنهم يُدعَون يوم القيامة بأهل الفضل؛ لأنهم عقدوا لسانهم عن الفاحش من القول، ودرجوه على الطيب منه.
يقول رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه -: ((إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة نادى منادٍ: أين أهل الفضل؟ فيقوم ناس وهم يسير، فينطلقون سراعًا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فيقولون: إننا نراكم سراعًا إلى الجنة، فيقولون: نحن أهل الفضل، فيقولون لهم: وما كان فضلكم؟ فيقولون: كنا إذا ظُلِمنا صبَرنا، وإذا أُسِيء إلينا عفَونا، وإذا جُهِل علينا حَلمنا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فنِعْم أجر العاملين)).
ولقد كان العفوُ صفةً كريمة ملازمة لرسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - أخذ به نفسه، وكان شعار دعوته.
جاء أعرابي يومًا يطلب منه عطاءً فأعطاه -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: أحسنتُ إليك؟ قال الأعرابي: لا، ولا أجملت، فغضِب المسلمون، وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كفُّوا، ثم دخل منزله وأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئًا، ثم قال: أحسنتُ إليك؟ قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنك قلتَ ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك، فإذا أحببت، فقل بين أيديهم ما قلت بين يديَّ؛ حتى يذهب من صدورِهم ما فيها عليك))، قال: نعم، فلما كان الغداة جاء، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إن هذا الأعرابي قال ما قال، فزدناه، فزعم أنه رضي، أكذلك؟))، فقال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرًا، فقال رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه -: ((إن مَثَلي ومَثَل هذا الأعرابي كمَثَل رجل كانت له ناقة شردت عليه، فتَبِعها الناسُ فلم يزيدوها إلا نفورًا، فناداهم صاحب الناقة: خلُّوا بيني وبين ناقتي، إنني أرفق بها وأعلم، فتوجه لها صاحب الناقة، وأخذ لها من ثمام الأرض، فردَّها هونًا هونًا، حتى جاءت واستناخت، وشدَّ عليها رحلها، واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه، دخل النار)).