من كتاب : اللــؤلــؤة
كانَ في قديمِ الزمانِ طفلٌ في السابعةِ من العُمْرِ يتيمُ الأبوينِ اسمُهُ (أسعد)، يعيشُ معَ جدِّهِ في قريةٍ كبيرةٍ خصبة، أقطعَها([1]) الملكُ لخازِنِ أموالِه.
جاءَ مرّةً إلى جدِّهِ يقول: اليومَ تشاجرتُ مع ابنِ الخازنِ في ساحةِ القرية.
قالَ جدُّه: لا يا أسعدُ، لا تتشاجرْ مع أحد.
قالَ أسعد: ابنُ الخازنِ قالَ لي ولكلّ أولادِ الفلاحين: هذه القريةُ وطنهُ هو لأنّ أباهُ يملِكُها، وليست وطنَنا.
قال الجدُّ بألمٍ عميق: هذا صحيح. أمّا نحنُ الفقراءَ فلنا وطنٌ آخَر.
سألَ أسعد: أينَ يا جَدّي، أينَ وطنُنا؟
قال جدّه: ستعرفُهُ في الوقتِ المناسب.
بعدَ مدّةٍ حصدَ الفلاحونَ القمحَ وجمعوا المحصولَ على البيادر، فقالَ أسعدُ لجدِّه:
-هذا البيدرُ كلّه لنا، ما أكبرَه وما أجملَه!!
أجابَهُ الجدّ:
-هذا وطنُنا، صنعناهُ بكدِّنا وعرقِنا بالليلِ والنهار.
قالَ أسعدُ مستغرباً:
-هذا محصولٌ وليس وطناً.
فأجابَ جدُّه:
-هذا وطنُنا لأنّ فيهِ كلَّ أسبابِ حياتِنا: إن أكلْنا بعضَهُ وبِعْنا بعضَه، نحصلْ على الغذاءِ والكساءِ والدواءِ والسعادة.
وصمتَ لحظةً ليتأكّدَ مِن أن حفيدَهُ يفهمُ ما يقولُ، ثم تابَع:
-وإن خبّأْنا من هذا البيدرِ ما يزيدُ عن حاجاتِنا، نضمَنْ،ْ حياتَنا في سنواتِ الجفافِ وأمراضِ النباتِ وفسادِ المواسم.
قال أسعدُ بحماسة: هيّا ننقله ونخزِنُه.
فأجابَ الجدُّ بابتسامةٍ لم يفهمْ أسعدُ مغزاها: اصبِرْ يومينِ أو ثلاثةً وبعدَها ننقلُ ما تشاء.
بعدَ أيامٍ ثلاثة، جاءَ الخازنُ يرافقُهُ جنودٌ مسلَّحون. وقفوا عندَ بيدرِ الجدِّ وأسعد. أخذوا ثلُثَ المحصولِ حِصّةً للملك، ثم أخذوا الثُلثَ الثاني حِصّةً للخازن، ثم أخذوا ثُلُثَ الثُلُثِ الباقي ضريبةً عن بيتِ أسعد، الذي صنعَ الآباءُ والأجدادُ لبِنَهُ من طين القريةِ وبنوهُ بالسواعدِ الكادحة.
أشارَ الجدُّ إلى بيدرِهِ الذهبيِّ المسلوبِ وقالَ لحفيدهِ: هل عرفتَ الآنَ أين وطنُك؟
([1]) الإقطاع: هو أن يُملّكَ الحاكم أو الملكُ قطعة أرضٍ أو قرية أو عدّة قرى لشخصٍ معيّن، مِلكاً شخصيّاً لـه ولأولادِهِ من بعدِه، ويكونُ الإقطاعي عادة من أقرباء الحاكم أو الملك، أو من أتباعِهِ وأصدقائه.