السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
مساكم الله بالخير أردت أن نبحر سوياً في سيرة أحد السلف الصالح رحمهم الله جميعاً وهو الإمام النووي رحمه الله
وإليكم ماجمعت :
الأمام الحافظ محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مـرِّي بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام النووي الشافعي الدمشقي
المشهور بالإمام النووي ( المحرم 631 - 676 ﻫـ \ 1255 - 1300م), أحد أشهر علماء السنة و له مؤلفات عديدة في الحديث
و الفقه ولد في قرية نوى وهي قرية من قري حوران بالقرب من دمشق ولذلك سمي بالنووي الدمشقي، شيخ المذاهب وكبير الفقهاء في زمانه.
أبو زكريا ، وهي كنية على غير قياس ، وقد استحب ذلك أهل العلم كما قال النووي ـ رحمه الله ـ في المجموع :
" ويستحب تكنية أهل الفضل من الرجال والنساء سواء كان له ولد أم لا ، وسواء كنى يولده أو بغيره ، وسواء كنى الرجل بأبي فلان
أو بأبي فلانة ، وسواء كنيت المرأة بأم فلان أم فلانة "
وإنما
كنى بأبي زكريا لأن اسمه يحيى ، والعرب تكني من كان كذلك بأبي زكريا
التفاتا إلى نبي الله يحيى وأبيه زكريا ـ عليهما وعلى نبينا
أفضل الصلاة والسلام ـ ، كما تكني من كان اسمه يوسف بأبي يعقوب ومن اسمه إبراهيم بأبي إسحاق ، ومن اسمه عمبر بأبي حفص على
غير قياس ، لأن يحيى ويوسف مولودان لا والدان ، ولكنه أسلوب عربي مسموع.
قال الذهبي : كان أسمر ، كث اللحية ، ربعة ، مهيبا ، قليل الضحك ، عديم اللعب ، بل جد صرف يقول الحق وإن كان
مرا ، لا يخاف في الله لومة لائم.
أسباب نبوغه وتقدمه
قال الأستاذ أحمد عبد العزيز قاسم :
من المستحسن أن فصل القول في تكون هذه الشخصية الفذة وبعد استيعاب ترجمته رأيت أن العوامل التي كونتها تنحصر في نوعين :
النوع الأول : عوامل عادية تجري على أمثاله من طلاب العلم غير أنها تختلف من شخص لآخر من حيث التطبيق كاختلافهم
في المقاصد والغايات.
وهي :
1- رحلته لطلب العلم
2- حلوله بالمدرسة الرواحية
3- اجتهاده في طلب العلم
4- كثرة دروسه وسماعاته
5- قوة حفظه وكثرة مطالعاته
6- جلاله شيوخه وعنايتهم به
7- توفر الكتب لديه
8- اشتغاله بالتدريس
أما النوع الثاني : فهي عوامل غير عادية ، وإنما هي مواهب من الله ـ لمن أراد له من عباده كما قال تعالى
" يؤتي الحكمة من يشاء " (البقرة : 269) ، ولكن رهن إيتاء الحكمة بتقوى الله ومراقبته حيث
قال : " واتقوا الله ويعلمكم الله " (البقرة : 282)
ثم فصل هذين النوعين ، وقد تركنا نقله لطوله ولما قصدناه من الاختصار ، ومن طريف ما ينقل ما اعتذر به الحافظ
السبكي عندما طلب منه إكمال المجموع فقال ـ رحمه الله ـ :
" وقد يكون تعرضي لذلك مع قصوري عن مقام هذا الشرح إساءة إليه وجناية مني عليه ".
قال : وأني أنهض بما نهض به وقد أسعف بالتأييد وساعدته المقادير ، فقربت منه كل بعيد ، قال : ولا شك أن ذلك يحتاج بعد
الأهلية إلى ثلاثة أشياء
أحدها : فراغ البال ، واتساع الزمان ، وكان ـ رحمه الله ـ قد أوتي من ذلك الحظ الأوفى بحيث لم يكن له شاغل عن ذلك
من تعيش ولا أهل.
الثاني : جمع الكتب التي يستعان بها على النظر والإطلاع على كلاء العلماء ، وكان رحمه الله قد حصل له من ذلك حظ
وافر ، لسهولة ذلك في بلده في ذلك الوقت.
الثالث : حسن النية ، وكثرة الورع والزهد والأعمال الصالحة التي أشرقت أنوارها.
وكان ـ رحمه الله ـ قد اكتال من ذلك بالمكيال الأوفى ، قال : فمن تكون اجتمعت فيه هذه الخلال الثلاث أنى يضاهيه
أو يدانيه من ليست فيه واحدة منها.
ثم دفع السبكي لإتمامه كمال رغبته في أن يعود عليه بركة صاحبة وما أتمه كذلك حتى أكمله المطيعي ـ رحمه الله ـ على الجميع.
زهده وورعه وعبادته رحمه الله
والزهد هو الرغبة عن الشيء لاستقلاله واستحقار والرغبة فيما هو خير منه ، وإنما ينشأ الزهد من اليقين بالآخرة ومعرفة قدر
التفاوت بي الدنيا والآخرة ، وأن الآخرة خير وأبقى من الدنيا ، ولم يكن إمامنا النووي ـ رحمه الله ـ ليغتر بالدنيا وزخارفها
وزينتها ، وإنما جعل حظه منها كزاد الراكب أسوة بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " مالي
وللدنيا إنما أنا .....تمنع روابط التحميل الغير قانوني......ب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها "
وقد رضي الإمام النووي بأقل ما يبلغه من مأكل ومشرب وملبس ، فكان يأكل الكعك والتين الحوراني الذي يرسله له
أبوه ، لأنه لا يتكلف وقتا في الطبخ أو الأكل ، فكان هذا غالب مطعمه ـ رحمه الله ـ ورضي بلبس المرقع من الثياب وسكنى الأربطة
المعدة لطلاب العلم ، بحيث كان إذا زاره زائر أوسع له من أمكنة الكتب بوضع بعضها على بعض حتى ويفر للزائر مكانا ولم يدخل
الحمام كما ورد عنه ، وهي حمامات عامة يسخن فيها الماء ، وترك أكل الفاكهة كما سيأتي في بيان ورعه ـ رحمه الله ـ فأي زهد يداني
هذا الزهد أو يقاربه ، لم يسع لتزوج امرأة حسناء ، أو تملك أمة يتسرى بها بل كانت حياته كلها بذل للنصيحة وطلب العلم وتعليم له
وتصنيف وعبادة وزهادة ، والزهد في النفس هو غاية الزهد وقد كان الإمام النووي ـ رحمه الله ـ يعرض نفسه للتلف في نصح
الحكام ، وقد قال في رسالته التي وجهها لابن النجار " وأنا بحمد الله ـ تعالى ـ ممن يود القتل في طاعة الله ـ تعالى ـ …"
وقال اليونيني : والذي أظهره وقدمه على أقرانه ومن هو أفقه منه ، كثرة زهده في الدنيا ، وعظم ديانته وورعه.
أما ورعه رحمه الله : والورع هو الكف عن المحرمات واجتناب الشبهات خوفا من الوقوع في المحرمات ، وترك مالا بأس
به حذرا مما به بأس.
وقد كان الورع ظاهرا جدا في حياة الإمام النووي ، وفقد وصفه السبكي بقوله : ما اجتمع بعد التابعين المجموع اجتمع في
النووي ، ولا التيسير الذي تيسر له.
وما ذاك إلا لما كان عليه من الورع الثخين ، الذي خرب به دنياه جعل دينه معمورا.
ووصف ابن كثير ـ رحمه الله ـ ورعه بقوله : في معرض الثناء عليه ، والتورع الذي لم يبلغنا عن أحد في زمانه ولا قبله بدهر طويل.
فلقد كان من ورعه أنه لا يأكل من فاكهة دمشق بحجة أنها كثيرة الأوقاف والأملاك لمن هو تحت الحجر شرعا ، ولا يجوز
التصرف في ذلك على وجه الغبطة والمصلحة ، ثم المعاملة فيها على وجه المساقاة وفيها اختلاف بين العلماء قال : فكيف تطيب
نفسي بأكل ذلك.
قال السيوطي ـ رحمه الله ـ لقد أتعب نفسه وأرضى ربه وصميره ، وإلا فقد كان يعلم أن الأصل في الأشياء الإباحة ، حتى
يدل الدليل على التحريم ، ويفتي بهذا الأصل ويقرره في كتبه كما قال في تسمية النبات المجهول تسميته حيث قال المتولي : يحرم أكله.
قال النووي : الأقرب الموافق للمحكي عن الشافعي الحل.
فكان له في هذه القاعدة الفقهية مندوحة ، لو أراد أن يمنع نفسه مما أحب من فاكهة دمشق ، وهي حجة له عند
ربه ـ إن شاء الله تعالى ـ غير أن نفسه المرهفة النقية لا تطيب أن تتغذى بشيء ينازع فيه الورع ، حيث يختلج في صدره عدم
وجود القائمين على الأوقاف على الوجه الأكمل ، فلذلك هان عليه ترك أكل فاكهة الشام ، وهي بستان الفواكه ومعدنها ، ورضي
أن يقيم صلبه ويسد رمقه بما يرسل به أبواه من كعك يابس وتين حوراني ، أو خبز ما يكفيه جمعة فيأكله ، ولا يأكل سوى لون واحد
من الإدام دسا أو خلا أو زيتا.
أما عبادته فقد قال الأستاذ عبد الغني الدقر :
ومع هذا كان النووي اشتغال في العبادة قال البدر بن الباقر ، وكان ـ، أي النووي ـكثير العبادة.
وقال تلميذه ابن العطار ، كان كثير التلاوة ، كثير الذكر لله ـ تعالى ـ
وقال القطب اليونيني : إنه كان كثير التلاوة للقرآن والذكر معرضا عن الدنيا ، مقبلا على الآخرة من حال ترعرعه.
وقال
ابن العطار : ذكر لنا صحابنا أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح البعلي
الحنبلي الفاضل ـ نفع الله به في حياة الشيخ ـ رحمه الله ـ قال :
كنت ليلة في أواخر الليل بجامع دمشق والشيخ واقف يصلي إلى سارية في ظلمه ، وهو يردد قوله تعالى " وقفوهم إنه
مسئولون " مرارا بحزن وخشوع ، حتى حصل عندي من ذلك شيء والله أعلم.
وفي البداية والنهاية لابن كثير : وكان يصوم الدهر
وقال اليافعي : كان كثير السهر في العبادة والتلاوة والتصنيف.
صدعه بالحق وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر
فمن صدعه بالحق ونصيحته وأمره بالمعروف ـ رحمه الله ـ هذه الرسالة التي أرسلها إلى نائب السلطنة
بقول : " خدمة الشرع العلماء بدمشق المحروسة ينهون أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أخذ عليهم العهد بتبليغ الشرع إلى
المكلفين ، ونصيحة اله ـ تعالى ـ وكتابة ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وولاة الأمر بتبليغهم شرائع الأحكام وإرشادهم
إلى شعائر الإسلام ، بفعلها ونشرها … إلى أن قال مفندا قول من اعترض على ذلك :
فهذا المخذول مخطئ جاهل ، بل إن اعتقد هذا كان كافرا ـ لأن ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ هو الحق والصواب
الذي يجب على كل مكلف الانقياد له ، والمسارعة إلى قوله والشراح الصدر له ، ثم استدل على ذلك بقوله ـ تعالى ـ
" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " (النساء : 65)
ويقوله
ـ تعالى ـ " إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم
أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون " (النور : 51).
قال : وكل ما خالف سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو البدعة والضلالة والغباوة والجهالة والسفاهة والرذالة.
قال : بل هذه طريقة الكفار في مدافعة دين الإسلام :
" ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون " (التوبة : 32).
قال : ويجب على ولي الأمر ـ وفقه الله ـ لطاعته إذا سمع هذا الزاعم الجاهل الضال الغاشم المتجاهل وغيره ممن يقول نحو
هذا
القول في مدافعة الحق الاغتارض على سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
أن يؤديه تأديبا بليغا يزجر به هو وأمثاله ، ويشهر أمره لينكف أهل
الجهالة والضلال عن مثل فعله.
قال : وليعلم أن المراد بالاستسقاء امتثال أمر الله ـ تعالى ـ والاقتداء برسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو مصلحة فاخرة
أو سعادة معجلة ومنه من الله تعالى يشكر على التوفيق لها ، أما نزول المطر فهو الله تعالى.
ليس المراد بالاستسقاء تيقن من تزول المطر ، فإن علم الغيب ، وإنزال الغيث وغيره من الكائنات إلى ربت العالمين
إلى أن قال : وليعلم أنه ليس للاستسقاء شروط تعتبر في صحته سوى اجتماع الناس والصلاة ، وهذا متيسر لا مانع منه لكن
قال العلماء : يستحب لولي الأمر أن يأمر الناس قبل الخروج للاستسقاء بالتوبة من المعاصي ، ومصالحة الأعداء والصدقة ،
وصيام ثلاثة أيام ، ويخرجون في اليوم الرابع صياما ، قال : وهذا أدب مستحب وليس بواجب ولا شرط ، ولو ترك صح
الاستقاء ، ومع هذا فهو هين لا كلفة فيه ، فإن معناه أن ولي الأمر يأمر بعض نوابه أن ينادي في الناس بذلك وليس معناه
أو ولي الأمر بأمر بعض نوابه أن ينادي في الناس بذلك وليس معناه أن يحكم على قلوبهم بفعله ، فإن ذلك لا يقدر عليه إلا رب العالمين.
إلى أن قال : لا سيما وقد من الله ـ تعالى ـ ولهالحمد والنعمة على المسلمين ، بما وفق السلطان زاده الله فضلا وخيرا وتمكينا وعلوا
ونصرا وإدامة ظاهرا على أعداء الدين وسائر المخالفين ، أمرا بالمعروف عن المنكرات مبطلا للمحاسن والخيرات ، بما فعله من
إزالة هذا المنكر العظيم الفاحش الجسيم الذي لم يسبق إلى إزالته " ولينصرن الله من ينصره " (الحج : 40).
قال : فهذه نصيحة الخدمة أنهوها إلى الأمير ، وهم راجون من فضل الله ـ تعالى ـ مسارعته إلى هذا المصلحة ولا تحصل
بعفل أحاد الناس ، بل اجتماع الناس كلهم ، ومنهم العلماء والصالحون والصغار والضعفاء والمساكين والمضطرون.
قال : وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" هل تنصرون وترزقون إلا بضعفاتكم "
والله يوفق الأمير لكل مكرمة ويديمه أمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر حاثا على الاهتمام بشعائر الدين ، ومصالح
المسلمين ، والحمد لله رب العالمين وسلام على عبادة الذين اصطفى ، وصلى الله عليه وسلم محمد وعلى آله وصحبه أجمعين "
ولما وصلت الرسالة إلى ولي الأمر فعل ما أمره به ، ثم سقوا بعد ذلك بسبعة أيام سقيا عامة ، وترادفت أمطار كثيرة بعد أن حصل
لكثير من الناس قنوط ، وسقيت كذلك في الوقت المذكور البلدان التي أمر فيها الوالي بإقامة الاستقاء في اليوم الذي يستسقي في أهل دمشق
ومن ذلك ما ورد أن الظاهر بيبرس لما أراد قتال التتار بالشام أخذ الفتاوى من العلماء بجواز أخذ مال من الرعية يستنصر به على
قتالهم ، فكتب له فقهاء الشام بذلك فأجازوه.
فقال : هل بقي أحد .
فيقيل له : نعم بقي الشيخ محيي الدين النووي فطلبه فحضر.
فقاله له : اكتب خطك مع الفقهاء فامتنع.
فال : ما سبب امتناعك ؟
فقال : أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير (بندقار) وليس له مال ، ثم من الله عليك وجعلك ملكا ، وسمعت أن عندك ألف
مملوك ،كل مملوك له حياصة من الذهب وعندك مائتا جارية ، لكل جارية حق من الحلي ، فإذا أنفقت ذلك كله ، وبقيت مماليكك
بالبنود والصرف بدلا من الحوائص وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي ، أفتيتك بأخذ المال من الرعية ، فغضب الظاهر من كلامه.
وقال : أخرج من بلدي ـ يعني دمشق.
فقال : السمع والطاعة ، وخرج إلى نوى.
فقال الفقهاء : إن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا وممن يقتدى به ، فأعده إلى دمشق.
فرسم برجوعه ، فامتنع الشيخ
وقال : لا أدخلها والظاهر فيها ، فمات بعد شهر.
مكانة النووي
يقول الأستاذ عبد الغني الدقر :
هذا وقد أخذ النووي ـ رحمه الله ـ الفقه الشافعي عن كبار علماء عصره كما رأيت ذلك في شيوخه في الفقه ، وبفترة وجيزة حفظ الفقه
وأتقنه، وعرف قواعده وأصوله ، وفهم مخابئه وألغازه ، وبرع في معرفة أدلته حتى عرف بذلك بين العامة والخاصة ، ثم قفز فتساوى
مع شيوخة ، ولم بمض كبير وقت حتى كان أعلم علماء عصره وأحفظهم للمذهب وأتقنهم لأقوال علمائه ، وأعرفهم بعلم الخلاف
وأحقهم بأن يكون : محرر المذهب.
وانتشر في الآفاق ، وتعلق الطلبة والعلماء بتأليفه ، فانتفعوا بها ، وما يزال الناس ينتفعون بكتبه ، ويؤثرونها ، وهاك طرفا
مما قاله العلماء في فقهه.
يقول الإسنوي في طبقاته : وهو ـ أي النووي ـ محرر المذهب ، ومنقحه ومرتبه ، سار في الآفاق ذكره وعلا في العلم محله وقدره.
ويقول ابن كثير عنه : شيخ المذهب ، وكبير الفقهاء في زمانه.
ويقول الذهبي : وكان رأسا في معرفة المذهب.
ويقول قاضي صفد ـ محمد بن عبد الرحمن العثماني ـ في ترجمته من الطبقات الكبرى له عن النووي :
شيخ الإسلام ، بركة الطائفة الشافعية ، محيي المذهب ومنقحة ، ومن استقر العمل بين الفقهاء على ما يرجحه.
ويقول الشهاب أبو العباس بن الهائم في مقدمة البحر العجاج شرح المنهاج :
الإمام العلامة الحافظ الفقيه النبيل محرر المذهب ومهذبه وضابطه ومرتبه.
ويقول تلميذه ابن العطار : كان حافظا للمذهب الشافعي وقواعده وأصوله وفروعه ومذاهب الصحابة والتابعين واختلاف العلماء
ووفاقهم وإجماعهم وما اشتهر من ذلك جميعه وما هجر سالكا في كلها طريقة السلف.
إلى
أن قال : وقد يختلف قول الننوي قليلا في كتاب من كتبه عن كتاب فالظاهر أن
المرجح هو آخر أقواله ، لأن القاعدة أن المتأخر ينسخ المتقدم.
شيوخه وتلامذته رحمهم الله
شيوخه :
في الفقه : تاج الدين الفزاري المعروف بالفركاح الكمال إسحاق المغربي عبد الرحمن بن نوح ثم عمر بن أسعد الأربلي
ـ أبو الحسن سلام بن الحسن الأربلي.
في الحديث : إبراهيم بن عيسى المرادي الأندلسي ثم المصري ثم الدمشقي ـ أبو إسحاق إبراهيم بن أبي حفص عمر بن
مضر الواسطي ـ زين الدين أبو البقاء خالد بن يوسف بن سعد ـ الرضى بن البرهان ـ عبدالعزيز بن محمد بن عبد المسحن الأنصاري.
في علم الأصول : القاضي أبو الفتح عمر بن بندار بن عمر بن علي بن محمد التفليسي الشافعي.
في النحو واللغة : أحمد بن سالم المصري ـ ابن مالك ـ الفخر المالكي.
تلامذته :
قال الأستاذ عبد الغني الدقر :
يقول تلميذه ابن العطار وسمع منه خلق كثير من العلماء والحفاظ والصدور والرؤساء وتخرج به خلق كثير من الفقهاء
وسار علمه وفتاويه في الآفاق .. الخ.
ودونك بعضا من تلاميذه :
منهم خادمة العلامة علاء الدين أبو الحسن علي بن إبراهيم بن داود الدمشقي عرف بابن العطار ، الذي كان لشدة ملازمته
له وتحققه به يقال له " مختصر النووي ".
يقول ابن العطار : وكان رحمه الله رفيقا بين ، شفيقا علي ، لا يمكن أحدا من خدمته غيري ، على جهد مني في طلب ذلك منه ، مع
مراقبته لي ـ رضي الله عنه ـ في حركاتي وسكناتي ، ولطفه بي في جميع ذلك ، وتواضعه معي في جميع الحالات وتأدبه لي في كل
شيء حتى الخطرات وأعجز عن حصر ذلك.
وقرأت عليه كثيرا من تصانيفه ضبطا واتقانا ، وأذن لي ـ رضي الله عنه ، في إصلاح ما يقع لي من تصانيفه ، فأصلحت بحضرته
اشياء فكتبه بخطه ، وأقرني عليه ، ودفع إلى ورقة بعده الكتب التي كان يكتب منها ويصنف بخطه وقال لي : إذا انتقلت إلى الله تعالى
فأتمم شرح المهذب من هذه الكتب ، فلم يقدر ذلك لي ، وكانت مدة صحبتي له مقتصرا عليه دون غيره من أول سنة سبعين وستمائة وقبلها
بيسير إلى حين وفاته ـ أي نحو ست سنين ـ.
وممن أخذ عنه الصدر الرئيس الفاضل أبو العباس أحمد ابن إبراهيم بن مصعب والشمس محمد بن أبي بار بن إبراهيم بن عبد الرحمن
بن النقيب والبدر محمد بن إبراهيم بنسعد الله بن جماعة.
والشهاب محمد بن عبد الخالق بن عثمان بن مزهر الأنصاري الدمشقي المقري وشهاب الدين أحمد م\بن محمد بن عباس بن جعوان.
والفقيه المقري أبو العباس أحمد الضرير الواسطي الملقب بالجلال والنجم إسماعيل بن غبراهيم بن سالم بن الخباز.
مصنفاته رحمه الله
قال الأستاذ : أحمد عبد العزيز قاسم :
لم يمض على الإمام النووي كبير وقت في الطلب حتى أحس في نفسه أهلية التأليف فشرع في الإسهام بالمؤلفات النافعة ابتداءا
من عام ستين وستمائة تلبية لما قرره أهل العلم حيث ندبوا لطالب أن يشتغل بالتصنيف إذا تأهل له ، فقد قال الحافظ ابن الصلاح في
النوع الثامن والعشرين نقلا عن الخطيب ما نصه :
" وليشتغل بالتخريج والتأليف والتصنيف إذا استعد لذل وتأهل له ، فإنه يثبت الحفظ ويزكي القلب ويشخذ الطبع ، ويحيد البيان ، ويكشف
الملتبس ، ويكسب جميل الذكر ، ويخلده إلى آخر الدهر ، وما يمهر في علم الحديث ويقف على غوامضه ويستبين الخفي من فوائده
غلا من فعل ذلك ".
وهذا ما فعله صاحبنا ـ رحمه الله تعالى ـ فإنه كما قال الجمال الإسنوي ـ رحمه اله تعالى :
لما تأهل للنظر والتحصيل رأى في المسارعة إلى الخير أن جعل ما يحصله ويقف عليه تصنيفا ينتفع به الناظر فيه ، فجلع تصنيفه
تحصيلا ، وتحصيله تصينفا قال : وهو غرض صحيح ، وقصد جميل قال ولوى ذلك لم يتيسر له من التصنيف ما تيسر له "
والإسنوي يشير بهذا إلى كثرة مؤلفاته ، التي عجت به (المكتبات ، وحققت رغة أولي الرغبات ، ولا ريب فقد أربت مؤلفاته على
الخمسين مؤلفا ، هذا ما ذكر منها ولعل ما لم يذكر منها أكثر ، وقد قيل : إن تصنيفه بلغ كل يوم كراستين أو أكثر.
فقد حكى عنه تلميذه ابن العطار أنه أمره ببيع نحو ألف كراسة كان قد كتبها بخطه بعد أن يقف على غسلها في الوراقة وخوفه
إن خالف أمره ، قال : فما أمكنني إلا طاعته وغلى الآن في قلبي حسرات.
مؤلفاته في الحديث :
- الأربعون النووية : كتاب يضم اثنان وأربعين حديث نبوي.يقدم هذا الكتاب بعض أهم أقوال وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم و ينبغي
على كل راغب في الآخرة أن يعرف هذه الأحاديث لما اشتملت عليه من جميع الطاعات و المهمات. عندما سئل الإمام النووي عن سبب
جمعه للأربعين النووية قال: من العلماء من جمع الأربعين في أصول الدين،وبعضهم في الفروع و بعضهم في الجهاد، و بعضهم في الزهد
و بعضهم في الخطب، و كلها مقاصد صالحة، رضي الله عن قاصديها.و قد رايت جمع أربعين أهم من هذا كله، و هي اربعون حديثاً
مشتملةً على جميع ذلك، و كل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين،و قد وصفه العلماء بأنه مدار الإسلام عليه،أو يصف الإسلام أو ثلثه
أو نحو ذلك.
ثم ألتزم في هذه الأربعين أن تكون صحيحة، و معظمها في صحيحي بخاري و مسلم،
- شرح مسلم (بالمنهاج شرح صيحي مسلم بن الحجاج)
ـ رياض الصالحين ـ الأربعين النووية :
ـ خلاصة الأحكام من مهمات السنن وقواعد الإسلام
ـ شرح البخاري ـ كتب منه جزءا يسيرا ولم يستكمله.
ـ الأذكار المسمى بـ " حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدعوات والأذكار "
وفي علوم الحديث الإرشاد ، والتقريب والإشارات إلى بيان الأسماء المبهمات.
في الفقه : روضة الطالبين ـ المجموع شرح المهذب ولم يستكمله ، وقد أكمله السبكي والمطيعي ، والمنهاج والإيضاح والتحقيق.
التربية والسلوك : التبيان في أداب حملة القرآن وبستان العارفين.
التراجم والسير : تهذيب الأسماء واللغات ـ وطبقات الفقهاء.
اللغة : القسم الثاني من تهذيب الأسماء واللغات وتحرير التنبيه.
وقد حازت كتبه كلها القبول والرضا لدى الكافة والجميع من أهل العلم ينهل من معينها ، ولا ترى أحدا يأنف من الرجوع
إليها ، بل أن من رجع إليها فقد عضد رأيه وقوى حجته ، وما من إنسان يقف على مؤلفاته إلا لهج بمدحه والثناء والترحم عليه ، جزاء
خدمته للعلم وأهله بتلك المصنفات المتقنة ، فرحمه الله رحمة واسعة.
وفاته رحمه الله
وكما كان حظ إمامنا النووي من الدنيا قليلا ، فلم ينل منها ولم تنل منه ، وكانت كلها للعم والعبادة والتصنيف والزهادة ، كذلك كان
بقاؤه في الدنيا قليلا ،فلم يعمر فيها طويلا ولم يبن الدور و سكن القصور ، وإنما عاش على الكفاف والعفاف وسط الكتب وفي مدارس
العلم الشرعي يفيد ويستفيد إلى أن أدركته منيته ولم يتتحقق أمنيته ولم
يشبع نهمته من العلم النافع والعمل الصالح ،وكان أماله في التصنيف
والإفادة أطول من سنى عمره ، فلم يستكمل كثيرا من الكتب التي شرع فيها وخاصة المجموع شرح المهذب ، ومن أكمله لم يبلغ علمه
وإتقانه وإحسانه ، فرحم الله الجميع ، ولا غرو في ذلك ، فالدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فنسأل الله ـ تعالى ـ أن يرفع درجة إمامنا
النووي فوق كثير من خلقه ،وأن ينفعه بما ترك من علم نافع وسلامة سريرة ، وحسن سيرة.
قال ابن العطار : فبلغني مرضه ، فتوجهت من دمشق لعبادته ، فسر بذلك ، ثم أمرني بالرجوع إلى أهلي ، فودعته بعد ما أن أشرف
على العافية في يوم السبت العشرين من رجب فلما كانت ليلة الثلاثة في الرابع والعشرين منه سنة ست وسبعين وتسمائة للهجرة
انتقل إلى جوار ربه ـ رحمه الله تعالى ـ
قال ابن العطار : وكان قبل قوله أذن لي في السفر بأيام يسيرة ، أرمل إليه فقير إبريقا فقبله وقال : قد أرسل إلى فقير آخلا زنبيلا ،
قال : وهذا إبريق وذلك ألة السفر.
وقال التاج الدين السبكي في الطبقات الوسطى ونقله السخاوي :
إنه قبل ظهوره إلى نوى رد الكتب المستعارة من الأوقاف جميعها.
يقول الذهبي : ورثاه غير واحد يبلغون عشرون نفسا بأكثر من ستمائة بيت. فممن رثاء الصدر الرئيس الفاضل أبو العباس
أحمد بن إبراهيم من مصعب ، وأول قصيدته
أكتم حزني والمدامع تبديه لفقد امرئ كل البرية تبكيه
وممن رثاه الأديب المحدث أبو الحسن على بن إبراهيم بن المظفر الكندي ، وأول مرثيته :
لهفي عليه سيدا وحصوار سندا لأعلام الهدى وظهيرا
تعدادها واحد وثلاثون بيتا أولها :
رية محيي الدين قد عمت الورى فلست ترى إلا حزينا مفكرا
وممن رثاه بقصيدة تعدادها عشرة ابيات تلميذه الفقيه المقرئ أبو العباس أحمد الضرير الواسطحي
الملقب بالخلال وأولها :
لقد ذهب الحبر الجليل الموفق وعدنا حيارى والدموع تدفق
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا
مساكم الله بالخير أردت أن نبحر سوياً في سيرة أحد السلف الصالح رحمهم الله جميعاً وهو الإمام النووي رحمه الله
وإليكم ماجمعت :
الأمام الحافظ محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مـرِّي بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام النووي الشافعي الدمشقي
المشهور بالإمام النووي ( المحرم 631 - 676 ﻫـ \ 1255 - 1300م), أحد أشهر علماء السنة و له مؤلفات عديدة في الحديث
و الفقه ولد في قرية نوى وهي قرية من قري حوران بالقرب من دمشق ولذلك سمي بالنووي الدمشقي، شيخ المذاهب وكبير الفقهاء في زمانه.
أبو زكريا ، وهي كنية على غير قياس ، وقد استحب ذلك أهل العلم كما قال النووي ـ رحمه الله ـ في المجموع :
" ويستحب تكنية أهل الفضل من الرجال والنساء سواء كان له ولد أم لا ، وسواء كنى يولده أو بغيره ، وسواء كنى الرجل بأبي فلان
أو بأبي فلانة ، وسواء كنيت المرأة بأم فلان أم فلانة "
وإنما
كنى بأبي زكريا لأن اسمه يحيى ، والعرب تكني من كان كذلك بأبي زكريا
التفاتا إلى نبي الله يحيى وأبيه زكريا ـ عليهما وعلى نبينا
أفضل الصلاة والسلام ـ ، كما تكني من كان اسمه يوسف بأبي يعقوب ومن اسمه إبراهيم بأبي إسحاق ، ومن اسمه عمبر بأبي حفص على
غير قياس ، لأن يحيى ويوسف مولودان لا والدان ، ولكنه أسلوب عربي مسموع.
قال الذهبي : كان أسمر ، كث اللحية ، ربعة ، مهيبا ، قليل الضحك ، عديم اللعب ، بل جد صرف يقول الحق وإن كان
مرا ، لا يخاف في الله لومة لائم.
أسباب نبوغه وتقدمه
قال الأستاذ أحمد عبد العزيز قاسم :
من المستحسن أن فصل القول في تكون هذه الشخصية الفذة وبعد استيعاب ترجمته رأيت أن العوامل التي كونتها تنحصر في نوعين :
النوع الأول : عوامل عادية تجري على أمثاله من طلاب العلم غير أنها تختلف من شخص لآخر من حيث التطبيق كاختلافهم
في المقاصد والغايات.
وهي :
1- رحلته لطلب العلم
2- حلوله بالمدرسة الرواحية
3- اجتهاده في طلب العلم
4- كثرة دروسه وسماعاته
5- قوة حفظه وكثرة مطالعاته
6- جلاله شيوخه وعنايتهم به
7- توفر الكتب لديه
8- اشتغاله بالتدريس
أما النوع الثاني : فهي عوامل غير عادية ، وإنما هي مواهب من الله ـ لمن أراد له من عباده كما قال تعالى
" يؤتي الحكمة من يشاء " (البقرة : 269) ، ولكن رهن إيتاء الحكمة بتقوى الله ومراقبته حيث
قال : " واتقوا الله ويعلمكم الله " (البقرة : 282)
ثم فصل هذين النوعين ، وقد تركنا نقله لطوله ولما قصدناه من الاختصار ، ومن طريف ما ينقل ما اعتذر به الحافظ
السبكي عندما طلب منه إكمال المجموع فقال ـ رحمه الله ـ :
" وقد يكون تعرضي لذلك مع قصوري عن مقام هذا الشرح إساءة إليه وجناية مني عليه ".
قال : وأني أنهض بما نهض به وقد أسعف بالتأييد وساعدته المقادير ، فقربت منه كل بعيد ، قال : ولا شك أن ذلك يحتاج بعد
الأهلية إلى ثلاثة أشياء
أحدها : فراغ البال ، واتساع الزمان ، وكان ـ رحمه الله ـ قد أوتي من ذلك الحظ الأوفى بحيث لم يكن له شاغل عن ذلك
من تعيش ولا أهل.
الثاني : جمع الكتب التي يستعان بها على النظر والإطلاع على كلاء العلماء ، وكان رحمه الله قد حصل له من ذلك حظ
وافر ، لسهولة ذلك في بلده في ذلك الوقت.
الثالث : حسن النية ، وكثرة الورع والزهد والأعمال الصالحة التي أشرقت أنوارها.
وكان ـ رحمه الله ـ قد اكتال من ذلك بالمكيال الأوفى ، قال : فمن تكون اجتمعت فيه هذه الخلال الثلاث أنى يضاهيه
أو يدانيه من ليست فيه واحدة منها.
ثم دفع السبكي لإتمامه كمال رغبته في أن يعود عليه بركة صاحبة وما أتمه كذلك حتى أكمله المطيعي ـ رحمه الله ـ على الجميع.
زهده وورعه وعبادته رحمه الله
والزهد هو الرغبة عن الشيء لاستقلاله واستحقار والرغبة فيما هو خير منه ، وإنما ينشأ الزهد من اليقين بالآخرة ومعرفة قدر
التفاوت بي الدنيا والآخرة ، وأن الآخرة خير وأبقى من الدنيا ، ولم يكن إمامنا النووي ـ رحمه الله ـ ليغتر بالدنيا وزخارفها
وزينتها ، وإنما جعل حظه منها كزاد الراكب أسوة بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " مالي
وللدنيا إنما أنا .....تمنع روابط التحميل الغير قانوني......ب قال في ظل شجرة ثم راح وتركها "
وقد رضي الإمام النووي بأقل ما يبلغه من مأكل ومشرب وملبس ، فكان يأكل الكعك والتين الحوراني الذي يرسله له
أبوه ، لأنه لا يتكلف وقتا في الطبخ أو الأكل ، فكان هذا غالب مطعمه ـ رحمه الله ـ ورضي بلبس المرقع من الثياب وسكنى الأربطة
المعدة لطلاب العلم ، بحيث كان إذا زاره زائر أوسع له من أمكنة الكتب بوضع بعضها على بعض حتى ويفر للزائر مكانا ولم يدخل
الحمام كما ورد عنه ، وهي حمامات عامة يسخن فيها الماء ، وترك أكل الفاكهة كما سيأتي في بيان ورعه ـ رحمه الله ـ فأي زهد يداني
هذا الزهد أو يقاربه ، لم يسع لتزوج امرأة حسناء ، أو تملك أمة يتسرى بها بل كانت حياته كلها بذل للنصيحة وطلب العلم وتعليم له
وتصنيف وعبادة وزهادة ، والزهد في النفس هو غاية الزهد وقد كان الإمام النووي ـ رحمه الله ـ يعرض نفسه للتلف في نصح
الحكام ، وقد قال في رسالته التي وجهها لابن النجار " وأنا بحمد الله ـ تعالى ـ ممن يود القتل في طاعة الله ـ تعالى ـ …"
وقال اليونيني : والذي أظهره وقدمه على أقرانه ومن هو أفقه منه ، كثرة زهده في الدنيا ، وعظم ديانته وورعه.
أما ورعه رحمه الله : والورع هو الكف عن المحرمات واجتناب الشبهات خوفا من الوقوع في المحرمات ، وترك مالا بأس
به حذرا مما به بأس.
وقد كان الورع ظاهرا جدا في حياة الإمام النووي ، وفقد وصفه السبكي بقوله : ما اجتمع بعد التابعين المجموع اجتمع في
النووي ، ولا التيسير الذي تيسر له.
وما ذاك إلا لما كان عليه من الورع الثخين ، الذي خرب به دنياه جعل دينه معمورا.
ووصف ابن كثير ـ رحمه الله ـ ورعه بقوله : في معرض الثناء عليه ، والتورع الذي لم يبلغنا عن أحد في زمانه ولا قبله بدهر طويل.
فلقد كان من ورعه أنه لا يأكل من فاكهة دمشق بحجة أنها كثيرة الأوقاف والأملاك لمن هو تحت الحجر شرعا ، ولا يجوز
التصرف في ذلك على وجه الغبطة والمصلحة ، ثم المعاملة فيها على وجه المساقاة وفيها اختلاف بين العلماء قال : فكيف تطيب
نفسي بأكل ذلك.
قال السيوطي ـ رحمه الله ـ لقد أتعب نفسه وأرضى ربه وصميره ، وإلا فقد كان يعلم أن الأصل في الأشياء الإباحة ، حتى
يدل الدليل على التحريم ، ويفتي بهذا الأصل ويقرره في كتبه كما قال في تسمية النبات المجهول تسميته حيث قال المتولي : يحرم أكله.
قال النووي : الأقرب الموافق للمحكي عن الشافعي الحل.
فكان له في هذه القاعدة الفقهية مندوحة ، لو أراد أن يمنع نفسه مما أحب من فاكهة دمشق ، وهي حجة له عند
ربه ـ إن شاء الله تعالى ـ غير أن نفسه المرهفة النقية لا تطيب أن تتغذى بشيء ينازع فيه الورع ، حيث يختلج في صدره عدم
وجود القائمين على الأوقاف على الوجه الأكمل ، فلذلك هان عليه ترك أكل فاكهة الشام ، وهي بستان الفواكه ومعدنها ، ورضي
أن يقيم صلبه ويسد رمقه بما يرسل به أبواه من كعك يابس وتين حوراني ، أو خبز ما يكفيه جمعة فيأكله ، ولا يأكل سوى لون واحد
من الإدام دسا أو خلا أو زيتا.
أما عبادته فقد قال الأستاذ عبد الغني الدقر :
ومع هذا كان النووي اشتغال في العبادة قال البدر بن الباقر ، وكان ـ، أي النووي ـكثير العبادة.
وقال تلميذه ابن العطار ، كان كثير التلاوة ، كثير الذكر لله ـ تعالى ـ
وقال القطب اليونيني : إنه كان كثير التلاوة للقرآن والذكر معرضا عن الدنيا ، مقبلا على الآخرة من حال ترعرعه.
وقال
ابن العطار : ذكر لنا صحابنا أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح البعلي
الحنبلي الفاضل ـ نفع الله به في حياة الشيخ ـ رحمه الله ـ قال :
كنت ليلة في أواخر الليل بجامع دمشق والشيخ واقف يصلي إلى سارية في ظلمه ، وهو يردد قوله تعالى " وقفوهم إنه
مسئولون " مرارا بحزن وخشوع ، حتى حصل عندي من ذلك شيء والله أعلم.
وفي البداية والنهاية لابن كثير : وكان يصوم الدهر
وقال اليافعي : كان كثير السهر في العبادة والتلاوة والتصنيف.
صدعه بالحق وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر
فمن صدعه بالحق ونصيحته وأمره بالمعروف ـ رحمه الله ـ هذه الرسالة التي أرسلها إلى نائب السلطنة
بقول : " خدمة الشرع العلماء بدمشق المحروسة ينهون أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ أخذ عليهم العهد بتبليغ الشرع إلى
المكلفين ، ونصيحة اله ـ تعالى ـ وكتابة ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وولاة الأمر بتبليغهم شرائع الأحكام وإرشادهم
إلى شعائر الإسلام ، بفعلها ونشرها … إلى أن قال مفندا قول من اعترض على ذلك :
فهذا المخذول مخطئ جاهل ، بل إن اعتقد هذا كان كافرا ـ لأن ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ هو الحق والصواب
الذي يجب على كل مكلف الانقياد له ، والمسارعة إلى قوله والشراح الصدر له ، ثم استدل على ذلك بقوله ـ تعالى ـ
" فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " (النساء : 65)
ويقوله
ـ تعالى ـ " إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم
أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون " (النور : 51).
قال : وكل ما خالف سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو البدعة والضلالة والغباوة والجهالة والسفاهة والرذالة.
قال : بل هذه طريقة الكفار في مدافعة دين الإسلام :
" ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون " (التوبة : 32).
قال : ويجب على ولي الأمر ـ وفقه الله ـ لطاعته إذا سمع هذا الزاعم الجاهل الضال الغاشم المتجاهل وغيره ممن يقول نحو
هذا
القول في مدافعة الحق الاغتارض على سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
أن يؤديه تأديبا بليغا يزجر به هو وأمثاله ، ويشهر أمره لينكف أهل
الجهالة والضلال عن مثل فعله.
قال : وليعلم أن المراد بالاستسقاء امتثال أمر الله ـ تعالى ـ والاقتداء برسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو مصلحة فاخرة
أو سعادة معجلة ومنه من الله تعالى يشكر على التوفيق لها ، أما نزول المطر فهو الله تعالى.
ليس المراد بالاستسقاء تيقن من تزول المطر ، فإن علم الغيب ، وإنزال الغيث وغيره من الكائنات إلى ربت العالمين
إلى أن قال : وليعلم أنه ليس للاستسقاء شروط تعتبر في صحته سوى اجتماع الناس والصلاة ، وهذا متيسر لا مانع منه لكن
قال العلماء : يستحب لولي الأمر أن يأمر الناس قبل الخروج للاستسقاء بالتوبة من المعاصي ، ومصالحة الأعداء والصدقة ،
وصيام ثلاثة أيام ، ويخرجون في اليوم الرابع صياما ، قال : وهذا أدب مستحب وليس بواجب ولا شرط ، ولو ترك صح
الاستقاء ، ومع هذا فهو هين لا كلفة فيه ، فإن معناه أن ولي الأمر يأمر بعض نوابه أن ينادي في الناس بذلك وليس معناه
أو ولي الأمر بأمر بعض نوابه أن ينادي في الناس بذلك وليس معناه أن يحكم على قلوبهم بفعله ، فإن ذلك لا يقدر عليه إلا رب العالمين.
إلى أن قال : لا سيما وقد من الله ـ تعالى ـ ولهالحمد والنعمة على المسلمين ، بما وفق السلطان زاده الله فضلا وخيرا وتمكينا وعلوا
ونصرا وإدامة ظاهرا على أعداء الدين وسائر المخالفين ، أمرا بالمعروف عن المنكرات مبطلا للمحاسن والخيرات ، بما فعله من
إزالة هذا المنكر العظيم الفاحش الجسيم الذي لم يسبق إلى إزالته " ولينصرن الله من ينصره " (الحج : 40).
قال : فهذه نصيحة الخدمة أنهوها إلى الأمير ، وهم راجون من فضل الله ـ تعالى ـ مسارعته إلى هذا المصلحة ولا تحصل
بعفل أحاد الناس ، بل اجتماع الناس كلهم ، ومنهم العلماء والصالحون والصغار والضعفاء والمساكين والمضطرون.
قال : وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" هل تنصرون وترزقون إلا بضعفاتكم "
والله يوفق الأمير لكل مكرمة ويديمه أمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر حاثا على الاهتمام بشعائر الدين ، ومصالح
المسلمين ، والحمد لله رب العالمين وسلام على عبادة الذين اصطفى ، وصلى الله عليه وسلم محمد وعلى آله وصحبه أجمعين "
ولما وصلت الرسالة إلى ولي الأمر فعل ما أمره به ، ثم سقوا بعد ذلك بسبعة أيام سقيا عامة ، وترادفت أمطار كثيرة بعد أن حصل
لكثير من الناس قنوط ، وسقيت كذلك في الوقت المذكور البلدان التي أمر فيها الوالي بإقامة الاستقاء في اليوم الذي يستسقي في أهل دمشق
ومن ذلك ما ورد أن الظاهر بيبرس لما أراد قتال التتار بالشام أخذ الفتاوى من العلماء بجواز أخذ مال من الرعية يستنصر به على
قتالهم ، فكتب له فقهاء الشام بذلك فأجازوه.
فقال : هل بقي أحد .
فيقيل له : نعم بقي الشيخ محيي الدين النووي فطلبه فحضر.
فقاله له : اكتب خطك مع الفقهاء فامتنع.
فال : ما سبب امتناعك ؟
فقال : أنا أعرف أنك كنت في الرق للأمير (بندقار) وليس له مال ، ثم من الله عليك وجعلك ملكا ، وسمعت أن عندك ألف
مملوك ،كل مملوك له حياصة من الذهب وعندك مائتا جارية ، لكل جارية حق من الحلي ، فإذا أنفقت ذلك كله ، وبقيت مماليكك
بالبنود والصرف بدلا من الحوائص وبقيت الجواري بثيابهن دون الحلي ، أفتيتك بأخذ المال من الرعية ، فغضب الظاهر من كلامه.
وقال : أخرج من بلدي ـ يعني دمشق.
فقال : السمع والطاعة ، وخرج إلى نوى.
فقال الفقهاء : إن هذا من كبار علمائنا وصلحائنا وممن يقتدى به ، فأعده إلى دمشق.
فرسم برجوعه ، فامتنع الشيخ
وقال : لا أدخلها والظاهر فيها ، فمات بعد شهر.
مكانة النووي
يقول الأستاذ عبد الغني الدقر :
هذا وقد أخذ النووي ـ رحمه الله ـ الفقه الشافعي عن كبار علماء عصره كما رأيت ذلك في شيوخه في الفقه ، وبفترة وجيزة حفظ الفقه
وأتقنه، وعرف قواعده وأصوله ، وفهم مخابئه وألغازه ، وبرع في معرفة أدلته حتى عرف بذلك بين العامة والخاصة ، ثم قفز فتساوى
مع شيوخة ، ولم بمض كبير وقت حتى كان أعلم علماء عصره وأحفظهم للمذهب وأتقنهم لأقوال علمائه ، وأعرفهم بعلم الخلاف
وأحقهم بأن يكون : محرر المذهب.
وانتشر في الآفاق ، وتعلق الطلبة والعلماء بتأليفه ، فانتفعوا بها ، وما يزال الناس ينتفعون بكتبه ، ويؤثرونها ، وهاك طرفا
مما قاله العلماء في فقهه.
يقول الإسنوي في طبقاته : وهو ـ أي النووي ـ محرر المذهب ، ومنقحه ومرتبه ، سار في الآفاق ذكره وعلا في العلم محله وقدره.
ويقول ابن كثير عنه : شيخ المذهب ، وكبير الفقهاء في زمانه.
ويقول الذهبي : وكان رأسا في معرفة المذهب.
ويقول قاضي صفد ـ محمد بن عبد الرحمن العثماني ـ في ترجمته من الطبقات الكبرى له عن النووي :
شيخ الإسلام ، بركة الطائفة الشافعية ، محيي المذهب ومنقحة ، ومن استقر العمل بين الفقهاء على ما يرجحه.
ويقول الشهاب أبو العباس بن الهائم في مقدمة البحر العجاج شرح المنهاج :
الإمام العلامة الحافظ الفقيه النبيل محرر المذهب ومهذبه وضابطه ومرتبه.
ويقول تلميذه ابن العطار : كان حافظا للمذهب الشافعي وقواعده وأصوله وفروعه ومذاهب الصحابة والتابعين واختلاف العلماء
ووفاقهم وإجماعهم وما اشتهر من ذلك جميعه وما هجر سالكا في كلها طريقة السلف.
إلى
أن قال : وقد يختلف قول الننوي قليلا في كتاب من كتبه عن كتاب فالظاهر أن
المرجح هو آخر أقواله ، لأن القاعدة أن المتأخر ينسخ المتقدم.
شيوخه وتلامذته رحمهم الله
شيوخه :
في الفقه : تاج الدين الفزاري المعروف بالفركاح الكمال إسحاق المغربي عبد الرحمن بن نوح ثم عمر بن أسعد الأربلي
ـ أبو الحسن سلام بن الحسن الأربلي.
في الحديث : إبراهيم بن عيسى المرادي الأندلسي ثم المصري ثم الدمشقي ـ أبو إسحاق إبراهيم بن أبي حفص عمر بن
مضر الواسطي ـ زين الدين أبو البقاء خالد بن يوسف بن سعد ـ الرضى بن البرهان ـ عبدالعزيز بن محمد بن عبد المسحن الأنصاري.
في علم الأصول : القاضي أبو الفتح عمر بن بندار بن عمر بن علي بن محمد التفليسي الشافعي.
في النحو واللغة : أحمد بن سالم المصري ـ ابن مالك ـ الفخر المالكي.
تلامذته :
قال الأستاذ عبد الغني الدقر :
يقول تلميذه ابن العطار وسمع منه خلق كثير من العلماء والحفاظ والصدور والرؤساء وتخرج به خلق كثير من الفقهاء
وسار علمه وفتاويه في الآفاق .. الخ.
ودونك بعضا من تلاميذه :
منهم خادمة العلامة علاء الدين أبو الحسن علي بن إبراهيم بن داود الدمشقي عرف بابن العطار ، الذي كان لشدة ملازمته
له وتحققه به يقال له " مختصر النووي ".
يقول ابن العطار : وكان رحمه الله رفيقا بين ، شفيقا علي ، لا يمكن أحدا من خدمته غيري ، على جهد مني في طلب ذلك منه ، مع
مراقبته لي ـ رضي الله عنه ـ في حركاتي وسكناتي ، ولطفه بي في جميع ذلك ، وتواضعه معي في جميع الحالات وتأدبه لي في كل
شيء حتى الخطرات وأعجز عن حصر ذلك.
وقرأت عليه كثيرا من تصانيفه ضبطا واتقانا ، وأذن لي ـ رضي الله عنه ، في إصلاح ما يقع لي من تصانيفه ، فأصلحت بحضرته
اشياء فكتبه بخطه ، وأقرني عليه ، ودفع إلى ورقة بعده الكتب التي كان يكتب منها ويصنف بخطه وقال لي : إذا انتقلت إلى الله تعالى
فأتمم شرح المهذب من هذه الكتب ، فلم يقدر ذلك لي ، وكانت مدة صحبتي له مقتصرا عليه دون غيره من أول سنة سبعين وستمائة وقبلها
بيسير إلى حين وفاته ـ أي نحو ست سنين ـ.
وممن أخذ عنه الصدر الرئيس الفاضل أبو العباس أحمد ابن إبراهيم بن مصعب والشمس محمد بن أبي بار بن إبراهيم بن عبد الرحمن
بن النقيب والبدر محمد بن إبراهيم بنسعد الله بن جماعة.
والشهاب محمد بن عبد الخالق بن عثمان بن مزهر الأنصاري الدمشقي المقري وشهاب الدين أحمد م\بن محمد بن عباس بن جعوان.
والفقيه المقري أبو العباس أحمد الضرير الواسطي الملقب بالجلال والنجم إسماعيل بن غبراهيم بن سالم بن الخباز.
مصنفاته رحمه الله
قال الأستاذ : أحمد عبد العزيز قاسم :
لم يمض على الإمام النووي كبير وقت في الطلب حتى أحس في نفسه أهلية التأليف فشرع في الإسهام بالمؤلفات النافعة ابتداءا
من عام ستين وستمائة تلبية لما قرره أهل العلم حيث ندبوا لطالب أن يشتغل بالتصنيف إذا تأهل له ، فقد قال الحافظ ابن الصلاح في
النوع الثامن والعشرين نقلا عن الخطيب ما نصه :
" وليشتغل بالتخريج والتأليف والتصنيف إذا استعد لذل وتأهل له ، فإنه يثبت الحفظ ويزكي القلب ويشخذ الطبع ، ويحيد البيان ، ويكشف
الملتبس ، ويكسب جميل الذكر ، ويخلده إلى آخر الدهر ، وما يمهر في علم الحديث ويقف على غوامضه ويستبين الخفي من فوائده
غلا من فعل ذلك ".
وهذا ما فعله صاحبنا ـ رحمه الله تعالى ـ فإنه كما قال الجمال الإسنوي ـ رحمه اله تعالى :
لما تأهل للنظر والتحصيل رأى في المسارعة إلى الخير أن جعل ما يحصله ويقف عليه تصنيفا ينتفع به الناظر فيه ، فجلع تصنيفه
تحصيلا ، وتحصيله تصينفا قال : وهو غرض صحيح ، وقصد جميل قال ولوى ذلك لم يتيسر له من التصنيف ما تيسر له "
والإسنوي يشير بهذا إلى كثرة مؤلفاته ، التي عجت به (المكتبات ، وحققت رغة أولي الرغبات ، ولا ريب فقد أربت مؤلفاته على
الخمسين مؤلفا ، هذا ما ذكر منها ولعل ما لم يذكر منها أكثر ، وقد قيل : إن تصنيفه بلغ كل يوم كراستين أو أكثر.
فقد حكى عنه تلميذه ابن العطار أنه أمره ببيع نحو ألف كراسة كان قد كتبها بخطه بعد أن يقف على غسلها في الوراقة وخوفه
إن خالف أمره ، قال : فما أمكنني إلا طاعته وغلى الآن في قلبي حسرات.
مؤلفاته في الحديث :
- الأربعون النووية : كتاب يضم اثنان وأربعين حديث نبوي.يقدم هذا الكتاب بعض أهم أقوال وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم و ينبغي
على كل راغب في الآخرة أن يعرف هذه الأحاديث لما اشتملت عليه من جميع الطاعات و المهمات. عندما سئل الإمام النووي عن سبب
جمعه للأربعين النووية قال: من العلماء من جمع الأربعين في أصول الدين،وبعضهم في الفروع و بعضهم في الجهاد، و بعضهم في الزهد
و بعضهم في الخطب، و كلها مقاصد صالحة، رضي الله عن قاصديها.و قد رايت جمع أربعين أهم من هذا كله، و هي اربعون حديثاً
مشتملةً على جميع ذلك، و كل حديث منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين،و قد وصفه العلماء بأنه مدار الإسلام عليه،أو يصف الإسلام أو ثلثه
أو نحو ذلك.
ثم ألتزم في هذه الأربعين أن تكون صحيحة، و معظمها في صحيحي بخاري و مسلم،
- شرح مسلم (بالمنهاج شرح صيحي مسلم بن الحجاج)
ـ رياض الصالحين ـ الأربعين النووية :
ـ خلاصة الأحكام من مهمات السنن وقواعد الإسلام
ـ شرح البخاري ـ كتب منه جزءا يسيرا ولم يستكمله.
ـ الأذكار المسمى بـ " حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدعوات والأذكار "
وفي علوم الحديث الإرشاد ، والتقريب والإشارات إلى بيان الأسماء المبهمات.
في الفقه : روضة الطالبين ـ المجموع شرح المهذب ولم يستكمله ، وقد أكمله السبكي والمطيعي ، والمنهاج والإيضاح والتحقيق.
التربية والسلوك : التبيان في أداب حملة القرآن وبستان العارفين.
التراجم والسير : تهذيب الأسماء واللغات ـ وطبقات الفقهاء.
اللغة : القسم الثاني من تهذيب الأسماء واللغات وتحرير التنبيه.
وقد حازت كتبه كلها القبول والرضا لدى الكافة والجميع من أهل العلم ينهل من معينها ، ولا ترى أحدا يأنف من الرجوع
إليها ، بل أن من رجع إليها فقد عضد رأيه وقوى حجته ، وما من إنسان يقف على مؤلفاته إلا لهج بمدحه والثناء والترحم عليه ، جزاء
خدمته للعلم وأهله بتلك المصنفات المتقنة ، فرحمه الله رحمة واسعة.
وفاته رحمه الله
وكما كان حظ إمامنا النووي من الدنيا قليلا ، فلم ينل منها ولم تنل منه ، وكانت كلها للعم والعبادة والتصنيف والزهادة ، كذلك كان
بقاؤه في الدنيا قليلا ،فلم يعمر فيها طويلا ولم يبن الدور و سكن القصور ، وإنما عاش على الكفاف والعفاف وسط الكتب وفي مدارس
العلم الشرعي يفيد ويستفيد إلى أن أدركته منيته ولم يتتحقق أمنيته ولم
يشبع نهمته من العلم النافع والعمل الصالح ،وكان أماله في التصنيف
والإفادة أطول من سنى عمره ، فلم يستكمل كثيرا من الكتب التي شرع فيها وخاصة المجموع شرح المهذب ، ومن أكمله لم يبلغ علمه
وإتقانه وإحسانه ، فرحم الله الجميع ، ولا غرو في ذلك ، فالدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فنسأل الله ـ تعالى ـ أن يرفع درجة إمامنا
النووي فوق كثير من خلقه ،وأن ينفعه بما ترك من علم نافع وسلامة سريرة ، وحسن سيرة.
قال ابن العطار : فبلغني مرضه ، فتوجهت من دمشق لعبادته ، فسر بذلك ، ثم أمرني بالرجوع إلى أهلي ، فودعته بعد ما أن أشرف
على العافية في يوم السبت العشرين من رجب فلما كانت ليلة الثلاثة في الرابع والعشرين منه سنة ست وسبعين وتسمائة للهجرة
انتقل إلى جوار ربه ـ رحمه الله تعالى ـ
قال ابن العطار : وكان قبل قوله أذن لي في السفر بأيام يسيرة ، أرمل إليه فقير إبريقا فقبله وقال : قد أرسل إلى فقير آخلا زنبيلا ،
قال : وهذا إبريق وذلك ألة السفر.
وقال التاج الدين السبكي في الطبقات الوسطى ونقله السخاوي :
إنه قبل ظهوره إلى نوى رد الكتب المستعارة من الأوقاف جميعها.
يقول الذهبي : ورثاه غير واحد يبلغون عشرون نفسا بأكثر من ستمائة بيت. فممن رثاء الصدر الرئيس الفاضل أبو العباس
أحمد بن إبراهيم من مصعب ، وأول قصيدته
أكتم حزني والمدامع تبديه لفقد امرئ كل البرية تبكيه
وممن رثاه الأديب المحدث أبو الحسن على بن إبراهيم بن المظفر الكندي ، وأول مرثيته :
لهفي عليه سيدا وحصوار سندا لأعلام الهدى وظهيرا
تعدادها واحد وثلاثون بيتا أولها :
رية محيي الدين قد عمت الورى فلست ترى إلا حزينا مفكرا
وممن رثاه بقصيدة تعدادها عشرة ابيات تلميذه الفقيه المقرئ أبو العباس أحمد الضرير الواسطحي
الملقب بالخلال وأولها :
لقد ذهب الحبر الجليل الموفق وعدنا حيارى والدموع تدفق
هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا