الطُّمأنينة في الصَّلاة |
إنَّ من الأخطاء العظيمة الَّتي يقع فيها بعض المصلِّين: تركَ الطُّمأنينة في الصَّلاة، وقد عدَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فاعلَ ذلك من أسوء النَّاس سرقةً، كما ثبت في «مسند» الإمام أحمد (1) عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «أَسْوَأُ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذي يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله! وَكَيْفَ يَسْرِقُ مِنْ صَلَاتِهِ؟ قَالَ: «لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا»، فعدَّ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ السَّرقة من الصَّلاة أسوءَ وأشدَّ من السَّرقة من المال. إنَّ الطُّمأنينة في الصَّلاة ركنٌ من أركان الصَّلاة لا تصحُّ الصَّلاة بدونها، وقد قال صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ؛ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَكَ مِنْ القُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَعْدِلَ قَائِمًا، ثُمَّ اسْجُدْ حتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، وَافْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا» (2) ؛ وقد أخذ أهلُ العلم من هذا الحديث أنَّ مَن لم يُقِم صُلبَه في الرُّكوع والسُّجود فإنَّ صلاتَه غيرُ مجزِئةٍ، وعليه إعادتها، كما قال صلى الله عليه وسلم لهذا المسيء في صلاته: «ارْجِعْ فَصَلِّ؛ فَإِنَّكَ لَمْ تُصَلِّ». لقد وردت في السُّنَّة أحاديثُ كثيرةٌ جدًّا في الأمر بإقامة الصَّلاة وإتمامها، والتَّحذير من ترك الطُّمأنينة فيها أو الإخلال بأركانها وواجباتها، ومن ذلكَ غير ما تقدَّم: · ما رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أَتِمُّوا الرُّكُوعَ والسُّجُودَ»(3) ، والإتمام إنَّما يكون بالطُّمأنينة. · ومنَ الأدلَّة: ما رواه أحمد وابن ماجه بسندٍ صحيحٍ عن عليِّ بن شَيبان قال: صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَلَمَحَ بِمُؤْخِرِ عَيْنِهِ رَجُلًا لَا يُقِيمُ صَلَاتَهُ ـ يَعْنِي صُلْبَهُ ـ في الرُّكُوعِ والسُّجُودِ، فَلَمَّا قَضَى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلاةَ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ! لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ والسُّجُودِ»(4) ، أي لا يسوِّي ظهرَه عقِب الرُّكوع والسُّجود، فالحديث دليلٌ على ركنِيَّة القَومة والجِلسة والطُّمأنينة فيهما. · وروى أبو يعلى في «مسنده»(5) بسندٍ حسنٍ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا لا يُتِمُّ ركوعَه، وينقُر في سجوده وهو يصلِّي فقال: «لَوْ مَاتَ هَذَا عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لَمـَاتَ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم »، وهذا تهديدٌ شديدٌ يُخشَى على فاعل ذلك من سُوء الخاتمة بأن يموت على غير الملَّة، والعياذ بالله. · وروى أحمد وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أَمَرَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِثَلَاثٍ، وَنَهَانِي عَنْ ثَلَاثٍ...: وَنَهَانِي عَنْ نَقْرَةٍ كَنَقْرَةِ الدِّيكِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الكَلْبِ، وَالتِفَاتٍ كَالتِفَاتِ الثَّعْلَبِ»(6). · وروى البخاري في «صحيحه»(7): أنَّ حذيفة بن اليمان رضي الله عنه رَأَى رَجُلًا لَا يُتِمُّ رُكُوعَهُ وَلَا سُجُودَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: «مَا صَلَّيْتَ؟» قَالَ وَأَحْسِبُهُ قَالَ: «لَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ـ وفي روايةٍ ـ: وَلَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ الفِطْرَةِ الَّتي فَطَرَ الله مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَلَيْهَا ». · وروى أحمد وغيره عن طَلق بن عليٍّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَا يَنْظُرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى صَلَاةِ عَبْدٍ لَا يُقِيمُ فِيهَا صُلْبَهُ بَيْنَ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا»(. · وروى مسلم في «صحيحه»(9) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ ـ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ لَمْ يَسْجُدْ حتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ حتَّى يَسْتَوِيَ جَالِسًا». إنَّ الأحاديث المشتَملة على الأمر بالمحافظة على إقامة الرُّكوع والسُّجود والرَّفع منهما، والدَّالة على أنَّ ذلكَ من أركان الصَّلاة الَّتي لا تصحُّ الصَّلاة إلَّا بها كثيرةٌ جدًّا، وهي محفوظةٌ في دواوين السُّنَّة؛ كالبخاري ومسلم والسُّنن الأربعة وغيرها، وقد تقدَّم معنا جملةٌ منها؛ فالواجب على كلِّ مسلمٍ أن يحافظ على ذلك في صلاته تمامَ المحافظة؛ فيُتِمُّ ركوعَه، والرَّفعَ منه، وسجودَه، والرَّفع منه، ويأتي بذلك على التَّمام والكمال في صلاتِه كلِّها على الوجه الَّذي يُرضي الرَّبَّ ـ تبارك وتعالى ـ، عملًا بهدي الرَّسول صلى الله عليه وسلم وتمسُّكًا بسنَّته القائل صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»(10). «ومن العَجب أن يكون الرَّجُل في منزله فيسمَع الأذانَ، فيقوم فزِعًا يتهيَّأ ويخرُج من منزله يريد الصَّلاة، ولا يريد غيرَها، ثمَّ لعلَّه يخرج في اللَّيلة المَطِيرة المظلمة، ويتخبَّط في الطِّين، ويخوضُ الماء، وتبتَلُّ ثيابُه، وإن كان في ليالي الصَّيف فليس يأمَن العقارِبَ والهوامَّ في ظُلمة اللَّيل، ولعلَّه مع هذا أن يكون مريضًا ضعيفًا، فلا يدع الخروج إلى المسجد، فيتحمَّل هذا كلَّه إيثارًا للصَّلاة وحبًّا لها، وقصدًا إليها لم يُخرِجه من منزله غيرُها، فإذا دخل مع الإمام في الصَّلاة خدعه الشَّيطان فيُسابِق الإمام في الرُّكوع والسُّجود والرَّفع والخَفض، خدعًا من الشَّيطان له لما يريد من إبطال صلاتِه، وإحباط عملِه؛ فيخرج من المسجد ولا صلاةَ له. ومن العَجب أنَّهم كلَّهم يستَيقِنون أنَّه ليس أحدٌ ممَّن خلف الإمام ينصرف من صلاتِه حتَّى ينصرف الإمامُ، وكلُّهم ينتظرون الإمامَ حتَّى يسلِّم، وهم كلُّهم ـ إلَّا ما شاء اللهُ ـ يسابقونه في الرُّكوع والسُّجود والرَّفع والخفض خدعًا من الشَّيطان لهم، واستِخفافًا بالصَّلاة منهم واستهانةً بها»(11). وقد ذهب علماء المسلمين استِنادًا إلى ما تقدَّم من النُّصوص الثَّابتة عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم وغيرها إلى أنَّ تعديل الأركان في الرُّكوع والسُّجود والقَومة بينهما والقَعدة بين السَّجدتين فرضٌ في الصَّلاة وركنٌ من أركانها، تبطل الصَّلاة بتركه، ويلزمُ مَن وقع في ذلك إعادة الصَّلاة. والنُّقول عنهم في ذلك كثيرةٌ جدًّا لا يمكن سردُها، ولا قليلٍ منها في هذا المقام، لكن أكتفي بنقلٍ واحدٍ في ذلك عن إمامٍ جليلٍ وهو الإمام القاضي أبو يوسف ـ تلميذ الإمام أبي حنيفة ـ رحمهما الله ـ، فقد قال أبو يوسف رحمه الله : «تعديل أركان الصَّلاة ـ وهو الطُّمأنينة في الرُّكوع والسُّجود، وكذا إتمام القيام بينهما، وإتمام القُعود بين السَّجدتين ـ فرضٌ تبطُل الصَّلاة بتركه»، وقد نقله عنه غيرُ واحدٍ من أهل العلم(12). إنَّ الواجب على كلِّ مسلمٍ أن يحافظ على صلاته وإقامتها تمامَ المحافظة في شروطها وأركانها وواجباتها وسننها، ويأتي بذلك كلِّه على التَّمام والكمال؛ والله تعالى يقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } [المؤمنون:1-2] ، ويقول تعالى :{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ، ويقول تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] ، قال ابن كثير حمه الله في تفسير هذه الآية ـ في معنى قوله سبحانه: { عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} ـ: «إمَّا عن وقتها الأوَّل فيؤخِّرونها إلى آخره دائمًا أو غالبًا، وإمَّا عن أدائها بأركانها وشروطها على الوجه المأمور به، وإمَّا عن الخشوع فيها والتَّدبُّر لمعانيها؛ فاللَّفظ يشمَل هذا كلَّه، ولكلِّ من اتَّصف بشيءٍ من ذلك قِسطٌ من هذه الآية، ومَن اتَّصف بجميع ذلكَ فقَد تمَّ نصيبُه منها، وكمُل له النِّفاق العمليُّ»(13). أعاذنا اللهُ من ذلك، ووفَّقنا للعمل بكتابه والتَّمسُّك بسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، وجعلنا من المقيمين الصَّلاة، المتمِّين لأركانِها وشروطها وواجباتها، وأن يتقبَّل منَّا صالح القول وسديد العمل، وأن يغفر لنا ما كان من خطأ أو تقصيرٍ أو زللٍ، إنَّه هو الغفور الرَّحيم. *** (1) برقم (11532)، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع» (986). (2) رواه البخاري (757)، ومسلم (397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (3) رواه البخاري (6644)، ومسلم (425). (4) رواه أحمد (16297)، وابن ماجه (871)، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع» (7977). (5) برقم (7184)، ورواه الطَّبراني في «الكبير» (3840)، وحسَّنه الألباني في «صفة الصَّلاة» (ص 131). (6) رواه أحمد (8106)، وحسَّنه الألباني في «صحيح التَّرغيب» (555). (7) برقم (791). ( رواه أحمد (16283)، وجوَّد إسناده الألباني في «الصَّحيحة» (2536). (9) برقم (498). (10) رواه البخاري (631، 6008، 7246) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه. (11) من كتاب «الصلاة» للإمام أحمد، وهو في «طبقات الحنابلة» (1/353). (12) ممَّن نقله عنه الشَّيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهَّاب في كتابه «التَّوضيح عن توحيد الخلاق» (ص 260ـ261). (13) «تفسير ابن كثير» (8/493). |