الدولة الواحدة في الفكر السياسي الفلسطيني
لا يتحرك الفكر السياسي في فراغ، بل يتحرك في بيئة سياسية وبنية اجتماعية محيطة يؤثر ويتأثر بها .
والفكر ليس مفهوم مجرد ساكن وثابت كما يعتقد البعض ، بل هو مفهوم متحرك ودينامكي ومتغير دائم ، ويتحول وفق الظروف السياسية المتغيرة والمتسارعة و المتصارعة .
إن فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة نبت في حقل منظمة التحرير مبكرا وفي ظل ظرف كان الشعار السياسي فيه ،لا صوت يعلو فوق صوت البندقية ، من اجل تحقيق العديد من الأهداف السياسية الفلسطينية ،من ضمنها نيل حرية الإنسان الفلسطيني وكرامته واستقلاله والعيش على ترابه الوطني .
اخذ المجلس الوطني الفلسطيني ومنذ عام 1968، وبتوافق اغلب الفصائل والقوى السياسية الفلسطينية ، واخذ المجلس يكرر الفكرة و المشروع والقرار للدولة الديمقراطية الواحدة على كل فلسطين يتعايش فيها جميع الأديان والأعراق والمذاهب والأجناس، في رؤية حضارية مميزة ،وفي محاولة لإفهام العالم أن الشعب الفلسطيني يطالب بالحرية والديمقراطية والمساواة وينبذ العنصرية ويحاربها ويبرئ منها .
طرحت هذه الفكرة كذلك لإعطاء العالم تصور للحل الأمثل للقضية المحورية في المنطقة المهمة للعالم امنيا وسياسيا وجيو -استراتيجيا ؛ وإدراك ما يمكن إدراكه من كيان عنصري نهب كل شيء في فلسطين .
لقد طرح العالم الغربي والشرقي كل ما لديهم من أفكار ومقترحات، من اجل إحلال السلام في فلسطين دون جدوى ، وحتى أوسلو وبكل ظلمه فشل في تحقيق الهدف المنشود .
أن الحل المتداول ومنذ مدريد مرورا ب أوسلو، وهذا الجهد الفاشل الذي أفضت إليه اتفاقات أوسلو،قاد و يقود إلى تصفية القضية الفلسطينية ،وإقامة شبه كيان سياسي على هامش «دولة اليهود»، بينما يفتح خيار الدولة الواحدة الآفاق لمصالحة تاريخية تفضي إلى عدالة نسبية شاملة، وتنهي أصعب واعقد القضايا من حق العودة والقدس والحدود والأمن .
أن الدولة الواحدة هو مشروع سياسي أوسع وأشمل من دولة المواطنين التي نادى بها البعض، بوصفها ضرورة مرحلية، لا سيما في ظل النشوة الفلسطينية الموهومة باتفاقات أوسلو، وبسبب تبني القيادة الفلسطينية مبدأ حل الدولتين ،الذي أصبح اليوم غير قابل للتطبيق بسبب السياسات الاستعمارية الاستيطانية ، والهوس الأمني الصهيوني ، والجنون الديني اليهودي للقدس ، وغيرها من سياسات وإجراءات ترمي إلى إقامة دولة يهودية على كل فلسطين ،ومنح الفلسطينيين سلطات محدودة داخل كانتونات مغلقة الأبواب والآمال أيضا .
كانت ومازالت اتفاقية أوسلو ومنذ عام 1993 ، تعبيرًا عن أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية، والطريق المسدود التي وصلت إليه لظروف دولية وعربية بائسة، ولأسباب ذاتية تتعلق بكيفية إدارة الثورة والمقاومة وإيجاد موطئ قدم للثورة الفلسطينية .
واليوم تحارب القدم وربما و على وشك أن تقطع تحت عمل مشاريع الاستيطان والتهويد والذرائع الأمنية والعسكرية .
أن تحول قضية فلسطين «من قضية عربية باعتبار أنها بلد عربي محتل يقتضي تحريره، إلى قضية نزاع على حدود.. ومن قضية صراع عربي – صهيوني إلى قضية صراع فلسطيني إسرائيلي.. ومن الاستعانة والاستناد إلى الدعم العربي الشعبي والرسمي وقوى التحرر والديمقراطية في العالم، إلى الاستعانة والتعويل على ما يسمى بالمجتمع الدولي – والأصح على حليف إسرائيلي الرئيسي – أمريكا.
ورغم جور الشروط المفروضة على فلسطين غسلت الولايات المتحدة يدها أو على وشك من هذا الملف غير المجدي لهم ولمصالحهم ولانشغالهم بسوريا وإيران والخليج والبترول وامن إسرائيل .
والفكرة الأخطر على فلسطين وقضيتها أن إسرائيل ترى ، أن اتفاقية أوسلو وبناء سلطة فلسطينية في المدن ، بالنسبة لإسرائيل لم تكن مؤقتة كما كانت بالنسبة لقيادة منظمة التحرير، لقد كانت هي الحل النهائي بالنسبة للفكر السياسي الصهيوني ، وتجلى ذلك بتثبيت الكتل الاستيطانية الكبيرة، وتهويد القدس، وإقامة عازل، والجدار العنصري الفاصل لفرض القبول بصيغة تتراوح بين حكم ذاتي ودولة منقوصة السيادة ومجزأة ومقطعة الأوصال – باختصار ليست دولة يمكن لشعب فلسطين احترامها .
إن مسيرة أوسلو وما آلت إليه ، وضعت الدولة الفلسطينية الافتراضية جزءًا من جسم الدولة اليهودية؛ويمكن القول أن هذه الدولة ابتلعتها وقطعتها في أحشائها، هذه النتيجة هي التي أسست مجددًا لطرح فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة، وبالتحديد ثنائية القومية عند عدد من المثقفين الفلسطينيين الحريصين على فلسطين ممن حملوا السلاح وسجنوا وعذبوا وناضلوا طويلا من اجل فلسطين .
لذا فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة، على اختلاف مضامينها أو طبيعتها؛ ثنائية القومية، أو دولة ديمقراطية علمانية تقوم على المواطنة المدنية المتساوية الفدرالية ، تعود بقوة وبصورة منهجية إلى طاولة النقاش الأكاديمي بشكل خاص، انطلاقا من الإحساس بالمسؤولية كي نعرف أين موطئ قدم شعبنا في ظل غليان الشرق الأوسط .
إن دفع هذا الخيار الديمقراطي و الشعبي والحضاري ، يتأتى عبر خطة تهدف إلى تعرية هذا النظام العنصري( إسرائيل ) محليًا وإقليميا ودوليًا ، وتوفير جملة من الشروط الأساسية للمضيّ باتجاه هذا الهدف، هي:
أولاً: إعادة توحيد الحركة الوطنية الشعبية وفق خطة واضحة وخطاب عقلاني – إنساني وحضاري يرى في محاربة العنصرية وإنهاء الفصل العنصري قيمة إنسانية نبيلة .
ثانياً: برنامج مقاومة شعبية طويلة المدى تحارب العنصرية والتفرقة – تعميم ثقافة المقاومة الإنسانية العالمية المناهضة للعنصرية والفصل العنصري .
ثالثًا: إقامة جبهة عربية وإنسانية – دولية للضغط على إسرائيل، تشمل حملة مقاطعة دولية لإسرائيل اليهودية والعنصرية والاستفادة من تجربة جنوب إفريقيا في هذا المجال .
رابعًا: دعم الصمود الوطني– واستغلال العامل الديمغرافي من خلال تشجيع الفلسطينيين على البقاء في الأرض.
خامسًا: المساهمة في الجهد النظري الجاري لتطوير نموذج الدولة الديمقراطية الواحدة، ومساندة المنظمات الدولية الناشطة في حملة المقاطعة لإسرائيل وتعرية بُنية النظام العنصري القائم .وأخيرا ، أتمنى للمؤتمر الثاني للحملة الشعبية من اجل فلسطين الديمقراطية الواحدة التوفيق في 22-6-2013 المزمع عقده في رام الله والذي يحضره عشرات الشخصيات الاعتبارية السياسية والوطنية والأكاديمية ؛ والسلام لكل فلسطين .
د . عيسى ابوزهيرة
أستاذ الفكر السياسي – جامعة القدس
مركز ابوجهاد لشؤون الحركة الأسيرة
